تحدثت الحلقة الأولى عن الخلافات الكتائبية التي سبقت انتخاب كريم بقرادوني رئيساً للحزب، وآراء القيادة في السياسة العامة. وهنا اجابات جوزيف أبو خليل وبقرادوني عن بعض تلك الاختلافات الفكرية والسياسية. هنا سرد لإجابة جوزف أبو خليل على تلك التساؤلات: -أنا وكريم لم نكن بصراحة دائماً على اتفاق. كريم صديق ثابت بالنسبة إلي. لكن علاقتنا قائمة على اتفاق وخلاف. وأنا أحب العمل والتفكير مع كريم، وباعتقادي ان هناك دائماً نتيجة لعملنا معاً. إنما يوجد خلاف جوهري بيننا: كريم "حيوان سياسي"، يرغب بالسلطة ويريدها. وأنا ليس هذا طبعي ومزاجي. هو عندما يرى مشروعاً فاشلاً يتركه ويفتش عن المشروع الناجح لكي يكون له دوره. علماً أنه يمتلك إمكانات Bagage هائلة، لكن لسوء الحظ هذه طبيعته. لذلك اكتفى ان يكون نائباً للرئيس وترك مشروعنا لأنه رأى انه "مش ماشي". كريم انتقل من الكتائب الى القوات ومن القوات الى الكتائب. إنه مع المشروع الناجح ويعطيه كل ذاته. سأخبرك امراً لا يعرفه الكثيرون: قبل انتخاب منير الحاج رئيساً للحزب، كان كريم يزورني باستمرار. وبعد اجتماعات عدة اقترح ان يكون هو رئيساً للحزب. واتفقت معه على ذلك، بل كتبت له المانيفست البيان وتوافقنا حتى على تركيبة معينة للقيادة. واتصلت بالرئيس امين الجميل في باريس عارضاً الاقتراح وكان موافقاً. ويتابع ابو خليل سرد وقائعه ليصل الى العلاقة مع رئيس الجمهورية: "كنت على علاقة طيبة مع الرئيس لحود. فأنا من الذين راهنوا على المشروع وليس على الشخص. فالشخص لم أكن أعرفه. كان هو يرسل بطلبي، وكنا نناقش بالكثير من الأمور. لذلك عندما اتفقت مع كريم على مشروعنا، فضلت ان يكون الرئيس على اطلاع به. اولاً لأننا لم نكن نريد الاصطدام برئاسة الجمهورية. وثانياً لأن مشروعنا كان يقوم على إعادة حزب الكتائب سنداً للدولة كما كان في السابق. وأقول الدولة وليس السلطة. وهكذا، أخبرت شخصاً من مجموعة الرئيس لحود كان يزورني بما نسعى إليه وطلبت منه ان يحيط الرئيس لحود علماً بذلك، وأنني أريد معرفة رأيه بالموضوع. فيعود اليَّ هذا الشخص بعد اسبوع ليبلغني ان ما سيقوله هو مجرد استنتاج من قبله وأن الرئيس لحود لم يقل هذا الكلام حرفياً ومفاده انه "بعد بكير" على كريم وعلى مشروعنا... عندها أبلغت كريم بالنتيجة وبرأيي في أن لا مصلحة لنا في الاستمرار بخطتنا والدخول بمشروع، الدولة فيه ضدنا، خصوصاً أن العهد كان في بدايته، وكنت صدقت حينها ان الرئيس يفتش عن طبقة سياسية جديدة بديلة عن الطبقة الموجودة، فإذا بالنتيجة لا هذه ولا تلك! فهم كريم الرسالة، لكنه لم يهضمها. وهو يومها لم يكن على علاقة بالرئيس لحود. لذلك، عزف عن ترشيح نفسه، لكنه رشح بديلاً منه انطوان شادر. إلا ان الرئيس الجميل رفض ذلك وعمل عبر ابنه بيار على دعم منير الحاج الذي انتخب رئيساً للحزب. غير ان علاقتي استمرت مع كريم الذي كان دائماً يزورني شاكياً منير وأداءه. وكان قد اتخذ قراراً بعدم تسهيل عمله، علماً ان منير لم يعرف اصلاً كيف يمارس مهمته. فتعقدت الأمور الى أن اتخذ كريم قراراً بتعطيل منير نهائياً. وهكذا تعطل المكتب السياسي الذي لم يجتمع طوال عام ونصف العام. ويستفيض جوزف ابو خليل بعرض محاولات المصالحة في الحزب بتفاصيل ليس هنا مجالها، ويمكن اختصارها بالآتي: كريم بقرادوني بادر لطرح فكرة تشكيل لجنة تعمل للمصالحة. جوزف ابو خليل صاغ ميثاق شرف مكتوباً كأساس للقاء. منير الحاج كان الأكثر ممانعة، "يبدو انه كان متورطاً جداً في التحضير للعملية الانتخابية مع ميشال المر، وأنه محكوم بنوع من الالتزام بعدم ادخال المعارضة الكتائبية الى الحزب". كريم بقرادوني، حسب أبو خليل، لم يساعد على إنجاح المشروع "وأصبح يقدم اوراقاً بديلة لا معنى لها، ولا أعرف لماذا تصرف بهذا الشكل". ألم يكن جمعاً مستحيلاً في السياسة بين الرئيس الجميل والآخرين؟ - صحيح، لكن كنت أعمل ايضاً على التوصل الى قراءة جديدة للوضع مع الرئيس الجميل وإيلي كرامه، وتوصلنا الى هذه القراءة. لكن مثلما لم يساعد اهل السلطة جورج سعادة، كذلك الأمر لم يساعدنا هؤلاء، واستخدموا في ذلك منير الحاج ونسبياً كريم بقرادوني. ثم يكشف أبو خليل قصة منعه من الدخول الى المكتب السياسي للحزب. فقد شغر مرة احد مقاعد المكتب السياسي. وجاء رشاد سلامة يطلب من ابو خليل ترشيح نفسه. فاشترط هذا الأخير موافقة كريم بقرادوني، خصم سلامه ومنير الحاج آنذاك. وبعد تبلغه موافقته، وافق بدوره على تقديم ترشيحه. ولكن... "عشية الانتخابات اتصل بي منير ودعاني للقاء عند موريس سابا حيث كانوا يسهرون احتفاء على اساس ان الأمور منتهية. إلا انه عاد واتصل بي في صباح اليوم التالي طالباً موافاته الى مكتبه، ليبلغني ان الأمر تعقد ودونه صعوبات. وعندما سألته عما تغير بين البارحة واليوم؟ اجابني ان نادر سكر اتصل به رافضاً، لأن ابو خليل بالنسبة إليه يعني امين الجميل"، ويروي ابو خليل هذه الحادثة ليؤكد انه "غير مسموح ان تعود الكتائب قوية كما كانت، لأنها عند ذلك، لن تتعامل مع الحكم ومع سورية كما التعامل الحاصل اليوم". هل يملك نادر سكر القدرة على منع انتخابك ومواجهة منير الحاج وكريم بقرادوني مجتمعين؟ - لا أدري اذا كان نادر وحده قادراً. سبق وأخبرتك ان كريم رغب في رئاسة الحزب منذ سنوات. وكان صارحني حينها انه يريد انهاء حياته السياسية رئيساً للحزب. وظلت هذه الفكرة في رأسه وحكمت كل تصرفه اللاحق. لذلك لم يكسر مع الجانب الآخر ولم يقطع معي. هل تغير في رأيك موقف الرئاسة من كريم بقرادوني بعد فشل محاولتكما قبل أقل من سنتين؟ - عندما كنت على علاقة بالرئيس لحود لم يكن كريم معي. لكن بعد ذلك اقام كريم علاقته الخاصة بالرئيس، واستطاع إقناعه بشخصه. حتى أن الرئيس اتصل بمنير الحاج دعماً لكريم. وكريم شاطر. عرف انه اذا استطاع كسب ثقة الرئيس يستطيع الوصول. ربما رأى الرئيس فيه الشخص القادر على مواجهة امين الجميل. هل هي قصة متنية؟ - إنها شخصية ومتنية وعلى علاقة بالمدى الأوسع. فالكتائب كحزب متمايز في موقعه ويمسك بالقاعدة امر لا يريح رئيس الجمهورية. كيف تصالح كريم بقرادوني ومنير الحاج؟ - لا أعرف التفاصيل. ما أعرفه اننا تعبنا كثيراً للجمع بينهما ولم نفلح. فكيف حصل لقاؤهما؟ طبعاً هناك من اتى بمنير الحاج الى الاجتماع. وطبعاً كريم شاطر. إنه قادر على الجلوس مع الشيطان إذا كان ذلك يخدمه ويفيد مشروعه. وما حصل ليس مصالحة بقدر ما هو تفاهم على تقاسم السلطة. يؤكد ابو خليل ان العمل كان قائماً على اساس ترشيح امين الجميل لرئاسة الحزب. ويعترف بأن ذلك كان خطأ: "نحن نلوم انفسنا. لم يكن يجب ان نشتغل على ترشيح امين الجميل. لكننا توقعنا انه كما استطاع بيار ان يخرق في المتن، وكما خرق امين الجميل بعودته الى بيروت، يمكن ان ننجح بكسبه في رئاسة الحزب". بعد فشل المصالحة، دعا بقرادوني ابو خليل الى مكتبه وعقد معه اجتماعاً اخيراً. يقول ابو خليل: "أخبرني كريم انه قرر مع رشاد سلامة وسيمون الخازن خوض المعركة ضد امين الجميل. مبرراً ذلك بأن الظروف لا تسمح بمجيء امين، وبأنه يأخذ على عاتقه لاحقاً تنقية الأجواء بين الرئيس لحود والرئيس الجميل ووصل ما انقطع بينهما. وذكرني بأنه سبق وأخبرني بأنه يريد انهاء حياته رئيساً للكتائب". ويرد الحوار الآتي بينهما، وفق ذاكرة ابو خليل: أبو خليل: ان المنطق الذي تستخدمه افهمه وهو منطق متماسك. لكنك تعرف ماذا تعني الكتائب بالنسبة إلي، كما بالنسبة الى آلاف الكتائبيين غير المعنيين بالطموح الشخصي. فما تطرحه لا يعيد حزب الكتائب لمجده، لا ينقذه، ويبقى الحزب كما كان منذ 12 سنة. بقرادوني: ماذا يمكننا ان نفعل؟ شو طالع بإيدنا؟ أبو خليل: كيف تطرح هذا السؤال بعد كل الذي حصل؟ وبعد ما شاهدناه امام قصر العدل؟ وبعد المصالحة الوطنية في الجبل؟ هل نغطي ما يقومون به؟ بقرادوني: ليس في استطاعتنا ان نفعل شيئاً. هل نعود الى الحرب الأهلية؟ ابو خليل: لا أحد يريد العودة الى الحرب الأهلية، لكن يمكننا الاحتفاظ بسلاح الموقف. ويختم ابو خليل قصة اللقاء بالقول: "خرجت من عنده على برودة. فهو لم يكن ممتناً من جوابي. وأنا غير ممتن من طرحه. وأدركت ان كريم حسم امره. لذلك اراد إبلاغي شخصياً وليس بالواسطة، واستمر في خطته". هذا الحوار جرى بين شخصين صنعا معاً قبل ثمانية اعوام المؤتمر التاسع عشر لحزبهما. وعلى رغم تفسيرهما المختلف لطبيعة المؤتمر، كما سيظهر في حديث بقرادوني لاحقاً، إلا انهما اتفقا آنذاك على مضمونه. وأدى فشلهما في ايصال هذا المضمون الى القاعدة وفي تطويره ليصبح خطاباً سياسياً عاماً في حزبهما، الى طغيان الصراع الداخلي في الحزب على ما عداه، وإلى تغييب المشروع التجديدي ومضامينه. وهذا ما يدفع ابو خليل الى القول الآن ان "الخلاف هو على السلطة في الحزب وليس على طبيعة هذا الحزب". ويسأل: "ما هي الكتائب الجديدة التي يريدها كريم بقرادوني"؟ وفي رأيه ان تغيير حزب الكتائب يعني إلغاء سبب وجوده: "لماذا كانت الكتائب اصلاً؟ ولماذا تكون إذا لم تعترض اعتراضاً فعلياً على فقدان التوازن في البلد؟" يفهم التوازن الطائفي طبعاً. "وإذا أراد كريم تغيير الكتائب، لماذا لا ينشئ حزباً آخر؟". لا خلاف إذاً على الطبيعة "المسيحية" لحزب الكتائب، ولا على كونه حزباً داعماً للدولة وللكيان ومدافعاً عنهما، وخصوصاً رئاسة الجمهورية والجيش. والخلاف هنا، عند ابو خليل، موجود في التفسير حيث يظهر التناقض: "كيف تترجم تأييد السلطة إذا كانت متخلية لغيرها عن قرارها؟ هل هناك دولة من دون سيادة؟". اما بالنسبة الى الخيار الاستراتيجي للرئيس "فنحن معه لكن يجب ان نناقشه. فليسمحوا لنا مثلاً ان ننهي حال الحرب في لبنان". لذلك لا يعتبر ابو خليل ان شعار "رئاسة الجمهورية، الجيش، القضاء"، الذي رفعه بقرادوني، يمكنه ان يشكل مشروعاً سياسياً. قد يؤدي ذلك الى حصول الحزب على حصة في السلطة "كما كانوا قبل 12 سنة"، لكنه لا ينقذ الحزب ولا يشكل له مشروعاً. القيادة الجديدة للحزب "تريد التعامل مع الأمر الواقع والمطلوب رفضه من دون ان يعني ذلك العودة الى الحرب". يستوي منطق ابو خليل في سرده للوقائع وفي تحليله لها، على ركائز عدة. الأولى تستند الى تقويمه للقيادات الكتائبية التي حكمت الحزب في السنوات الأخيرة. فهي محكومة بهاجس السلطة والمواقع وتسخر السياسة لهذا الهاجس، انها قيادة انتهازية. الثانية تستند الى دور السلطة وسورية تلميحاً، في التعامل المباشر مع الحزب وتحديد خياراته وحتى اشخاصه. الثالثة تقوم على مفهوم للحزب عنده مفاده انه وجد لتحقيق مهمة تاريخية هي الحفاظ على لبنان ومسيحييه، ولا يجوز التلاعب بهذا المفهوم. الرابعة تقوم على ان هذه المهمة مستحيلة مع مشروع السلطة القائمة والشكل السائد في العلاقة اللبنانية - السورية وهو امر واقع يجب رفضه لا التعامل او التكيف معه. الركيزة الخامسة تقوم على ان القيادة الجديدة للحزب غريبة عن هذه المهمة وأن مشروعها خطير على مصير الحزب. وهناك ركيزة سادسة طبعاً تقوم على فهمه لشخص بقرادوني كطالب سلطة لا كصاحب مشروع، مع الاعتراف بكفايته كسياسي "شاطر". ويمكن الإشارة الى ركيزة سابعة تقوم على ان هناك ضرورة لمشروع كتائبي بديل يجرى العمل على تحقيقه برعاية الرئيس امين الجميل. وعلى رغم الكلام الكثير عن التغيير والتجديد في المواقف وفي المفاهيم، إلا ان الفكر التقليدي الكتائبي يبقى ماثلاً من دون اي تغيير في الجوهر عند ابو خليل ومن يمثل. فالديموقراطية تعني حضور المسيحيين ودورهم، والحريات تعني امكان ممارسة المسيحيين لشعائرهم، والصيغة اللبنانية الفريدة تعني التوازن الطائفي في النظام السياسي اللبناني. ولا ضرورة لوجود لبنان خارج هذه الصيغة، ولا لزوم لوجود حزب الكتائب إذا لم يكن حاملاً لهذه المفاهيم. والكتائب هي تاريخياً حزب الدولة وهكذا يجب ان تعود. اما التمييز بين مفهومي الدولة والسلطة، الذي يظهر وكأنه تجديد في الفكر الكتائبي عند ابو خليل، فيعود على الأرجح الى الاعتراض على التركيبة السياسية للسلطة الحالية التي انتجتها تسوية الطائف بصيغتها السورية - اللبنانية، اكثر ما هو عائد الى المضامين التقليدية للموالاة والمعارضة في العمل السياسي. فلطالما كانت الدولة والسلطة والنظام والكيان مفاهيم متقاربة في الفكر الكتائبي تكاد تحمل المضمون نفسه. إلا ان ذلك لا يمنع من ملاحظة التغير الحاصل في الفصل بين هذه المفاهيم عند عدد من القيادات الكتائبية البارزة، وظهر خصوصاً في وثائق المؤتمر التاسع عشر. عدا ان التغير الأبرز في هذا المجال طاول بشكل رئيس نظرة هذه القيادات ومفهومها الى هوية لبنان، أو بالأحرى لانتماء لبنان العربي، على رغم قيام هذه النظرة على صيغة مقايضة الانتماء للعروبة بنهائية لبنان كوطن. لا يتعارض هذا الرسم البياني طبعاً مع الركائز التي قام عليها حديث ابو خليل. والمفارقة انه لا يتعارض في معظمه مع حديث بقرادوني وتفسيراته لأسباب ازمة حزب الكتائب. وفي المقابل يظهر التعارض الرئيس في الخطة السياسية التي يجب على الحزب اعتمادها في التعامل مع الوقائع التي أفرزتها الحرب اللبنانية، والتسوية التي انتهت إليها الحرب، والوضع الذي انتهت إليه التسوية. إنه تعارض في الرؤية الى الدور الذي يجب ان يلعبه الحزب، وليس الى المشروع الذي يجب ان يحمله. على رغم تكرار بقرادوني لكلمة "مشروعي" عشرات المرات في جلسة الساعات الثلاث التي جمعتني معه في منزله. الفكرة الرئيسة عند كريم بقرادوني، لدى عرضه لأزمة حزب الكتائب تتمحور حول معادلة الحزب - العائلة. والصراع، بالنسبة إليه، قام باستمرار على قاعدة هذه المعادلة. لذلك فالصراع بدأ عنده في العام 1985، تاريخ "الانتفاضة" القواتية الأولى التي اشترك فيها مع سمير جعجع وإيلي حبيقة بمواجهة فؤاد أبو ناضر، ابن العائلة، التي استمرت في العام 1986، في الانتخابات الحزبية التي خاضها مع جعجع لصالح جورج سعادة بمواجهة ايلي كرامه مرشح العائلة، ومن دون ايلي حبيقة الذي التحق بالاتفاق الثلاثي وحصلت ضده الانتفاضة الثانية. "فصلنا الحزب عن العائلة في تلك الانتخابات. لكن بقي لنا ان نفتش عن مشروع لهذا الحزب الخارج عن العائلة". المحاولة الأولى لصوغ هكذا مشروع يعتبرها بقرادوني في "الورقة المسيحية" التي صيغت رداً على الاتفاق الثلاثي. "لكنها لم تعط نتيجة وراوح الوضع بين 1986 و1989 الى ان جاء الطائف بطروحاته المتماسكة فتمسكنا به كمشروع سياسي". صيغة الجمع يعني بها كريم بقرادوني التيار الذي مثل الانفتاح على الآخر: المسلم واليساري والعربي، "وذلك منذ السبعينات. فالكتائب لم تكن بهذا الوارد... مجموعتنا داخل الحزب هي التي اعطت الكتائب بعدها الوطني والعربي". لذلك يعتبر بقرادوني ان "ما بدأناه في السبعينات ترجمناه في المؤتمر التاسع عشر من خلال وثيقة الطائف. فالمؤتمر هو تعبير متقدم، على الطريقة الكتائبية، لمفاهيم الطائف خصوصاً بما يتعلق بالعلاقة مع سورية وبالمواجهة مع إسرائيل. فبالنسبة للشأن الداخلي لا شيء مهماً في المؤتمر ال19". "انتفاضة 1985" كانت، في القوات وفي الحزب، ضد العائلة. الصراع على المشروع، بعد القطع بين العائلة والحزب، أنتج تبني الطائف. في العام 1992 تحول الصراع ليصبح بين سعادة وجعجع. كيف حصل التحول؟ تفسير بقرادوني هو: "في العام 1992 امين الجميل لم يعد مؤثراً، ذهب الى باريس. انا كنت في المكتب السياسي للحزب وفي القوات، الرابط بين الاثنين. سمير جعجع جلس تحت مظلة الطائف. العائلة غير موجودة. الصراع لم يعد على المشروع بل على الحزب". لماذا؟ "لأنه بين 1989 و1992 كانت الفوارق بدأت تظهر بين الخيار القواتي والخيار الكتائبي. ولهذا السبب كانت انتخابات 1992 الحزبية مواجهة بين حزب القوات وحزب الكتائب وليس كما العام 1986 بين حزب الكتائب وحزب العائلة. الكثيرون اقترعوا لصالحنا المقصود سعادة - بقرادوني لأنهم يعتقدون ان سمير جعجع يمثل حزباً آخر". في انتخابات 1992 كان ابو خليل "اول واحد من جماعة امين الجميل" يعود الى الحزب كأمين عام مساعد، لكن "كشخص، كطاقة حزبية، كوجه حزبي قديم، وليس كممثل لتيار امين الجميل". كما انتخب منير الحاج نائباً للرئيس، وكان عاد من باريس عام 1987 حيث "تمسك به جورج سعادة لأنه من المتن تحديداً حيث نقطة ضعفنا". جواب بقرادوني عن اسباب فشل المؤتمر 19 في التطبيق شبيه بجواب ابو خليل. فالفشل برأيه يعود الى سببين: الأول سياسي، ذلك ان "الطائف كان معطوباً عندما عقدنا مؤتمرنا الذي حصل في ظل قرار المقاطعة عند المسيحيين، والكتائبيون جزء من هذا الجو. فلم يلق المؤتمر قبولاً سياسياً لديهم، كنا نسبح ضد التيار داخل الحزب". والثاني تنظيمي: "جورج سعادة محافظ ومعتاد على الحزب بتركيبته التقليدية. لم يكن يوافق على بنية كتائبية جديدة، تنظيمياً وبشرياً، تحمل المشروع الجديد". هل السباحة ضد التيار، والواقع التنظيمي الهرم، أديا الى ترهل الحزب واستشراء الانقسامات فيه وتراجع دوره السياسي في الحياة اللبنانية العامة، في السنوات الكثيرة التي تلت فشل تحقق المؤتمر 19؟ في عرضه لواقع تلك السنوات العجاف، يستمر بقرادوني ممسكاً بالخيط نفسه يحيك به منطقه السياسي الخاص. فالتصويب الأساس عنده يتم على المقاطعة. بها بدأ التراجع والخطأ. والذي اعطاها الدفع الأساس هو امين الجميل: "قبل الانتخابات عام 1992 جاء امين الجميل الى بيروت وأمضى فيها اسبوعاً. وكان النقاش في القيادة يدور حول المشاركة في الانتخابات او مقاطعتها. وفي اجتماع في منزل امين قال لنا: قاطعوا وخذوا الحزب، ونعود جميعاً الى الحزب ونعمل معاً. وأنا يومها اعتبرت انه لا بأس من خسارة النواب وربح الحزب. فحصلت المقاطعة. لكن بعدها لم يوحد امين الجميل الحزب بل راح يهاجم القيادة". وبسبب المقاطعة - يكمل بقرادوني منطقه - "تعاملنا من قبل الحكم، خصوصاً الثنائي الهراوي - الحريري، وكأننا خوارج، فأخرجنا من السلطة بالكامل، من الحكومة ومن المجلس، ودخلنا مرحلة المراوحة الطويلة، وتصرفنا كمريض مقتنع بأن لا دواء يشفيه". وهنا مقطع حرفي لوصف بقرادوني النموذجي: "حزب الكتائب موجود في السلطة منذ العام 1959 حتى العام 1992. لذلك أُسمينا حزب السلطة. وفجأة نصبح خارجها، من دون وزراء ومن دون نواب، ومن دون وحدة حزب، وخارجين عن كل شيء. اصبحنا ندور كطاحونة من دون قمح. في هكذا حالات حيث لا مشروع ولا مواقع، تصبح المشكلات الداخلية هي الأساس. يصبح الصراع على العظم، وهو اعنف من الصراع على اللحم، يصبح صراع جياع. وهكذا، عندما شعر الكتائبيون انهم لا يستطيعون ان يكونوا نواباً ولا وزراء ولا حتى مخاتير، اصبح الجميع يريد مواقع داخل الحزب، وبدأ الصراع على المواقع. هذا اضافة الى الانقسام الموجود الذي استمر امين الجميل يغذيه من الخارج". هذه المرحلة عمرها خمس سنوات، في تقسيم بقرادوني. استمرت منذ ما بعد المؤتمر 19 في ال1993 حتى وفاة جورج سعادة في العام 1998. قمة التراجع كانت في العام 1996، تاريخ الانتخابات النيابية التي سقط فيها جميع مرشحي الحزب بمن فيهم رئيسه جورج سعادة، الذي سبب له سقوطه "مرارة لا توصف واستنتج انهم لا يريدون حزب الكتائب" صيغة الجمع تعود الى اهل القرار. المرحلة التي تليها هي مرحلة الصراع مع منير الحاج "بعد موت جورج سعادة اعدت الإمساك بالمشروع الذي بدأناه في السبعينات الحركة باتجاه الآخر المسلم والعربي - الفصل بين العائلة والحزب - تبني الطائف كمشروع وفق مفهومنا للطائف...، ودخلت في الصراع مع منير. كنا أصبحنا في العام 1999، والطائف أخذ مكانه عند المسيحيين ولم تعد خيانة ان نتحدث به، كما ان اميل لحود اصبح رئيساً للجمهورية وجاء بدفع وجو حماسي كبيرين. فخضنا المعركة بخيار بين شخص يريد التطوير انطوان شادر وآخر محافظ منير الحاج. الدولة وكتائبيو امين الجميل ارتاحوا اكثر لمنير". لماذا ارتاحت الدولة، كما تسميها، لمنير الحاج وليس لك؟ - اعتبروا ان منير سيسير على خطى جورج سعادة، وأنني أطلق كلاماً كبيراً بالنسبة الى الوضعين الحزبي والسياسي، اضافة الى دفاعي عن سمير جعجع. فهموا ان دفاعي عنه جزء من مشروع سياسي. لم يفهموا انني استطيع ان ادافع عنه وأبقى على خطي السياسي، وأن سمير صديقي وأنا الذي أدخلته الى الكتائب ولا أستطيع ان أقول له: لن أدافع عنك فأنت محرقة. بعبدا، بحسب ابو خليل، كانت ضدك... - طبعاً، ليس فقط ضدي، بل وصلت رسالة واضحة ان هناك فيتو على كريم. من اين اتى الفيتو؟ - برأيي ان الفيتو اتى من الحكم، اي من رئيس الجمهورية، وجرى إبلاغ ذلك لرفاقنا في المكتب السياسي بوسائل مختلفة كما ان نادر سكر كان يخوض معركة منير، ونادر يعتبر مؤشراً. الرئيس امين الجميل كان معك... - جوزف ابو خليل كان معي. لكن جوزف يقول انه حصل على تأييد الرئيس الجميل لك وأبلغك ذلك. - هكذا قال لي. أدعي ان ذلك لم يكن موقف امين الحقيقي. فقد كان لي خط آخر معه متمثل برجل اعمال من المتن اسمه بيار غانم، وهو صديق مشترك، وكان باستمرار يبلغني ان امين "مش ماشي" وغير حاسم في موقفه، ونقل لي رد فعل امين الذي قال له: هل نسيت ان كريم هو الذي جاء يبلغني انه علي أن أغادر لبنان؟ وأنا كنت مرتبكاً، فاجتمعنا، كمجموعة، وقررنا إبدال الحصان. فإذا كان كريم بقرادوني مغضوباً عليه، لنرشح انطوان شادر.إلا ان بيار ابن امين جاء ليبلغني رفضهم. وهذا اكمل انطباعي بأن امين رافض منذ البداية، لأنه لا فرق بيني وبين انطوان شادر. كيف نجح منير الحاج إذا كانت اكثرية المكتب السياسي معكم؟ - نجح بأكثيرة ضعيفة في الهيئة الناخبة، وبتحالف جمع نادر سكر وأمين الجميل والدولة ومجموعة مستقلين. في نيسان 1999 كان كل هؤلاء ضدك. فما الذي تغير في تشرين 2001 ليصبح الحكم ونادر سكر معك؟ - التغيير الرئيس هو اننا على رغم خسارتنا بقينا في الحزب. في ال1986 خسر امين وانسحب. نحن خسرنا وبقينا. العنصر الثاني هو اننا بقينا كأكثرية في المكتب السياسي وبقي معنا بالتالي جزء من السلطة. والعنصر الثالث اننا لم نغير خطابنا السياسي بسبب خسارتنا ولم ننتقل لشتم الطائف وإميل لحود وسورية. * صحافي لبناني.