أجهضت هجمات 11 أيلول سبتمبر مشروعاً عملاقاً لمجموعة من رجال الأعمال السعوديين خططت لإستثمار 100 مليون دولار كندي في قطاع الفندقة الممتازة وسط مونتريال. لكن هذه الأحداث المأسوية وتداعياتها المتسربة عبر الحدود كشفت في المقابل أن الجالية العربية في كندا تملك من مشاعر التعاطف والتضامن بين أفرادها مخزونا هائلا يُضاف إلى رصيد ضخم من الإنجازات المتميزة التي حققتها في القطاعات الحيوية ومن ضمنها الاستثمارية. تفيد أحدث الإحصاءات الرسمية بلغ عدد الكنديين المتحدرين من أصول عربية عام 1996 حوالى 190 ألف نسمة كما يستفاد من درس معدلات تدفق المهاجرين ومصادر الهجرة أن الجالية العربية رفعت عدد أفرادها إلى 258 ألف نسمة في الفترة من 1997 إلى 2001 وتعاظمت نسبة تمثيلها السكاني من 0.007 في المئة من إجمالي عدد السكان في كندا عام 1996 إلى قرابة 0.008 في المئة نهاية العام الماضي. وتكشف الأرقام المشار إليها أن الجالية العربية نمت بنسبة تناهز 7 في المئة سنوياً في الأعوام الخمسة الماضية، ما يعتبر نسبة عالية بالمقارنة مع نسبة نمو سكاني لاتزيد على 0.04 في المئة في كندا، لكن تدفق الهجرة العربية لم يكن يوماً مطرداً بل إتخذ شكل الموجات غير المنتظمة واعتمد في الغالب على أحداث غير عادية في البلدان العربية أو تقلبات سياسة الهجرة الكندية ولاسيما شروطها المادية علاوة على مزاج المجتمع الكندي. الهجرة الاولى وسجل الأكاديمي بهاء أبو لبن، الذي كرمته الحكومة الكندية أخيراً لإسهامه في إثراء تجربة الهجرة، أن أول دفعة من المغامرين العرب وصلت إلى كندا عام 1882 واستمر تدفق المهاجرين العرب ببطء في الأعوام اللاحقة ليصل الى 2000 مهاجر عام 1901 ثم 7 آلاف مهاجر عام 1911 قبل أن تخضع الحكومة الكندية إستقبال كل من اعتبر من أصول آسيوية لقيود مشددة إستمرت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وجاء المهاجرون الأوائل من لبنان هرباً من الفقر وظلم الحكم العثماني وعمل الكثيرون منهم في مهنة البائع المتجول وتلقوا بعض الدعم من مهاجرين ميسورين قدموا من سورية هذه المرة وإفتتحوا متاجر لبيع الجملة، واختار معظم هؤلاء المغامرين في بادئ الأمر العيش في مونتريال، المدينة الفرانكفونية في كندا الإنغلوفونية، ثم انتشروا منها لاحقً إلى عشرات المدن الكندية وغالباً بحثاً عن الرزق حيثما وجد. واستقطبت كندا في الفترة من 1946 إلى 1991 حوالى 200 ألف مهاجر عربي وشكل اللبنانيون 49 في المئة من الجالية العربية الناشئة التي تدعمت بوصول أعداد كبيرة من المهاجرين من مصر والمغرب وسورية والعراق والصومال والجزائر والكويت وتونس والأردن والسعودية والسودان والإمارات العربية المتحدة وأصبح لها وجود في كل المدن الكندية قاطبة وحتى المقاطعات الشمالية التي تقع على مرمى حجر من الدائرة القطبية. ويتضح من تتبع مسار الجالية العربية أن حياة الشقاء التي عاشها المهاجرون الأوائل أثمرت جيلاً من المحامين الأطباء والباحثين والأكاديميين والمسرحيين والفنانين ورجال الأعمال الذين أصبحوا اليوم جزءاً أصيلا من النسيج الكندي. وقدمت الجالية للحياة السياسية والبرلمانية الكندية أسماء لامعة مثل جوزيف عطا الله غز، الذي إنتخب رئيساً لوزراء مقاطعة برينس إدوارد آيلاند لفترتين رئاسيتين من 1986 إلى 1993 ورشحه الكثيرون لمناصب أعلى لولا أن وافته المنية في وقت مبكر بسبب المرض. كما أعطت الحياة الفنية شارل فرهود مؤسس المسرح الفرانكوفوني في كيبيك ورينيه أنجليل مدير أعمال المغنية العالمية سيلين ديون وزوجها. وإشتهر من رجال أعمالها جو حسين مؤسس "إنتراويست" أكبر شركات منتجعات التزلج في أميركا الشمالية. وتعتبر الجالية النجاحات الفردية لأبنائها أعظم إنجازاتها ويقول جون عصفور رئيس الإتحاد الكندي - العربي الذي يعنى بالشؤون السياسية والإجتماعية للجالية من مقره في العاصمة الكندية أوتاوا: "هناك إنجازات كبيرة حققتها الجالية ويراها المرء في كل مكان وأهمها على الإطلاق ومبعث فخرنا جميعا هو وصول أبنائها إلى مراتب مرموقة في الحياة السياسية والأكاديمية والتخصصات الطبية والأبحاث والصناعات المتقدمة والتكنولوجيا العالية والحياة الفنية والمسرحية". وأضافت الجالية العربية بعداً جديداً لوجودها في كندا بالتحول إلى المجالات الإستثمارية وإن كان في وقت متأخر وسجلت الثمانينات حركة نشطة قادها مستثمرون لبنانيون وخليجيون وشملت إقامة مشاريع ناجحة في المجالات الإنتاجية وتجارة التجزئة وسلاسل مطاعم الوجبة السريعة علاوة على توجيه إستثمارات ضخمة نسبياً إلى القطاعين الفندقي والعقاري وتعمقت هذه الحركة بعد وصول أعداد كبيرة من المهاجرين الموسورين إلى كندا من منطقة الخليج في النصف الأول من التسعينات. ويختلف الإستثمار العقاري في أميركا الشمالية عما هو معروف في مناطق أخرى من العالم مثل الدول العربية وقد يلحق بالمستثمرين خسائر موجعة. وشهدت الإستثمارات العربية في كندا تراجعا حادا بعد إنفجار الفقاعة العقارية مطلع التسعينات وإن لم تتوقف كليا. وثمة عوامل جديدة من شأنها تشجيع عمليات الإستثمار الفندقي والعقاري من ضمنها التزايد المطرد في المبادلات التجارية والوفود بين المنطقة العربية وكندا وتواجد أعداد كبيرة من طلبة الدول الخليجية في جامعات مدن رئيسية مثل مونتريال حيث يقطن 48 في المئة من الجالية العربية. لكن أحداث أيلول أفرزت واقعاً جديداً يعتقد أن آثاره ستنعكس سلباً على الإستثمارات العربية في كندا وأميركا الشمالية عموماً لفترة طويلة وكشف مدير صندوق "معراج" للإستثمار الدولي سعيد سليمان أن أحداث أيلول تسببت في نزوح رؤوس الأموال العربية من كندا وجمدت مشاريع في مراحلها النهائية. وقال: "أعتقد أن هناك الآن مناخاً جديداً من إنعدام الثقة ومناخ من هذا القبيل لا يشجع على الإستثمار". ولم تنحصر تداعيات أحداث أيلول في المجال الإستثماري إذ واجهت الجالية العربية تحديات صعبة تحاكي الصور النمطية المشوهة التي عانت من آثارها في مراحل تشكلها الأولى، حسب بهاء أبو لبن، إلا أن جون عصفور لاحظ أن التحديات الجديدة كشفت مدى عمق الروابط وضخامة مخزون التعاطف والتضامن بين أفراد الجالية التي أظهر ممثلوها ومثقفوها "براعة فائقة" في الرد على الحملات الإعلامية وإقناع المنتقدين بضرورة التمييز بين الإرهاب وكل من العرب والمسلمين. وإلى جانب التحديات تبرز الأعياد مناسبات دورية لتعميق مشاعر التضامن في أوساط الجالية العربية وقال عصفور: "أينما تجولت في كندا هذه الأيام ستلمس حرص أفراد الجالية على التعاطف والتضامن ليس مع بعضهم البعض وحسب بل مع قضاياهم المصيرية". مشيرا إلى مبادرة من الإتحاد الكندي - العربي لإقامة عشاء خيري بمناسبة عيد الأضحى من أجل جمع التمويل اللازم لإرسال بعثة برلمانية كندية إلى الشرق الأوسط وحض الحكومة الكندية على التفاعل مع الأحداث المأسوية في الأراضي المحتلة.