سرقة الممتلكات الثقافية لا سيما الآثار ليست بحدث طارئ على المنطقة العربية الغنية بالحضارات التي تعود الى ما قبل التاريخ، وهي تزين المتاحف العالمية وتثريها. غير ان حمى نهب الآثار تصاعدت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين ولا تزال مع ازدياد الطلب عليها، وتعددت سبل تهريبها والاتجار غير المشروع بها عبر مافيات عالمية تتقاطع مع مافيات غسل الأموال والمخدرات. واذا كانت الاحتياطات المتخذة في معظم الدول العربية تجعل عملية سرقة الممتلكات الثقافية المعروفة والمعلنة ضرباً من المخاطرة، فإن ما ينهب من باطن الأرض في الظلام ولا تقدر قيمته بثمن ادى الى عمليات تخريب هائلة للتاريخ فضلاً عن تحويل آلاف المزارعين الى "منقبين" ... او "سارقين". وتجلى عجز الدول العربية عن تسجيل مفقوداتها من الممتلكات الثقافية، لعدم معرفتها بما يتم نهبه، في اللائحة التي وضعتها ال"انتربول" عن الأعمال الفنية المسروقة حتى تاريخ 31 كانون الثاني يناير 2002، ذلك ان الجزائر لم تعلن الا عن 15 عملاً مسروقاً ومصر عن 26 عملاً والعراق عن عمل واحد فقط ولبنان عن خمسة اعمال والسودان عن خمسة ايضاً وسورية عن عملين وليبيا عن 68 عملاً والسعودية عن 28 عملاً، في وقت ابلغت فرنسا عن 3094 عملاً وبلجيكا عن 1211 عملاً وايطاليا عن 4163 عملاً وسويسرا عن 921 عملاً والولاياتالمتحدة عن 697 عملاً وبريطانيا عن 630 عملاً. وتقدر الدول العربية الممتلكات التي يتم نهبها بالآلاف على رغم توقيع معظمها اتفاقات عالمية لحماية الممتلكات وحتى استردادها، لصعوبة اقتفاء اثر المسروق غير المعروف في الاساس من السلطات الأمنية الوطنية او الانتربول. مصر واذا كان التنظيم التشريعي لحماية الآثار في مصر مثلاً بدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر وصدرت تشريعات تؤكد ملكية الدولة لآثارها وتعاقب على التنقيب والحفائر للبحث عنها من دون ترخيص من السلطات، وأصدرت هيئة الآثار قانوناً في العام 1977 يمنع تصدير الآثار الى الخارج بعدما كانت هذه التجارة مباحة بشروط، فإن عمليات التنقيب غير المشروعة عن الآثار تتواصل وعمليات التهريب ما زالت قائمة، كما اوضح الرئيس في محكمة الاستئناف المستشار القانوني للمجلس الأعلى للآثار في مصر هشام السيد سرايا ل"الحياة" خلال ورشة عمل عربية عن الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية استضافها مكتب "يونيسكو" الاقليمي في بيروت بين 11 و14 شباط فبراير الجاري. الاردن ويشير الموظف في وزارة السياحة والآثار الاردنية امين مستودع التنقيبات الاثرية في المملكة احمد الشامي الى ان الاردن يعاني مشكلة سرقة الآثار كبقية الدول العربية خصوصاً في المنطقة القريبة من البحر الميت. واذا كان عدد المواقع الاثرية في الاردن والمسجلة رسمياً هو 27 ألف موقع فإن الشامي يقدر الرقم الحقيقي للمواقع بما يزيد عن مئة ألف، "وينشأ معظمها في المناطق النائية نسبياً التي تنتشر فيها ظاهرة البطالة، إضافة الى عدم ادراك قيمة المورث الاثري وأّهميته". ويشير الى "ان في ظل العوامل الاقتصادية والسياسية التي مرت بها منطقة الشرق الاوسط منذ مطلع الثمانينات مروراً بأحداث التسعينات وحتى الآن تزايدت اعمال تهريب الآثار والاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية، وأسهم موقع الاردن الجغرافي في تحويل المملكة كما في الماضي الى معبر لتهريب الآثار". وعلى رغم اصدار الاردن قانوناً جديداً ألغى نظام المتاجرة بالآثار في العام 1976 ومنح التجار فرصة لمدة عام ونصف لتصويب اوضاعهم، فإن من سلبيات القانون انه رفع اسعار الآثار وبدأ عدد قليل من افراد البعثات الديبلوماسية يتمتع بالحصانة والحماية الامنية بتهريب الآثار في صناديق مشمولة بتلك الحماية وتم كشفها في ظروف استثنائية. ومع نفاد مخزون التجار القدامى من بعض الاصناف الاثرية بمرور الوقت تفاقمت عمليات التنقيب في شكل غير قانوني وانحسر الأمن الاثري وترافق ذلك مع نهضة عمرانية استدعت توسعاً وتخريباً لمواقع اثرية. ويقول الشامي: "ان عدداً لا بأس به من المواقع الاثرية الاردنية يتعرض الى العبث والتخريب بحثاً عن الدفائن الذهبية او القطع الفخارية والزجاجية وبعض نقوش شواهد القبور ويصعب رصد حجم المشكلة رقمياً لأن غالبية المواقع غير مسجلة وتكتشف بالصدفة من طريق اجراء اعمال زراعية او انشائية او شق طرق، ومن هذه المواقع المكتشفة بالصدفة مقبرة مطار الملكة علياء الدولي عام 1978 وتعود بتاريخها الى القرنين الثاني والثالث ميلاديين، والمقبرة البيزنطية في الخربة السمرا - المفرق ويعود تاريخها الى القرون 5-7 ميلادية ومواقع الاغوار الجنوبية في منطقة غور المزرعة - خربة قزون على الحافة الجنوبية للبحر الميت، اذ تعرضت المقبرة للتدمير الشديد وتحتوي على اكثر من سبعة آلاف قبر وترجع الى العصر النبطي". لبنان وكان اعلان وزير الثقافة اللبناني غسان سلامة خلال ورشة العمل عن مشاركة كل الميليشيات خلال الحرب بتجارة الممتلكات الثقافية غير المشروعة في لبنان دليلاً ساطعاً على ما شهده هذا البلد من فتك بطريقة لا مثيل لها بالثروة الاثرية. ويشير المدير العام للآثار فريدريك الحسيني الى انه "في غياب السلطات الشرعية على الارض ادى انتشار الفوضى الى رواج المتاجرة بالآثار بلا اي ضابط، وغذت هذا الاتجار التنقيبات السرية التي انتشرت في كل ارجاء الوطن تديرها شبكات محلية وأجنبية في اتجاه البلدان غير المنتمية الى اتفاق يونيسكو الموقع عام 1970 الذي يمنع المتاجرة غير المشروعة بالممتلكات الثقافية. وكانت القطع المهربة تعرض للبيع في صالات خاصة او حتى في بعض المتاحف خلافاً لأبسط القواعد الاخلاقية التي يجب ان ترعى عمل هذه المؤسسات". ولفت الى "ان اضرار التنقيبات السرية لم تقتصر على هروب التراث الوطني الى الخارج وحسب بل تخطتها الى فقدان هذه المكتشفات قيمتها العلمية بسبب طرق التنقيب المأسوية التي ادت الى تجريد هذه القطع من هويتها واطارها التاريخي والعلمي ما استحال معه استردادها". ولم تفلح التدابير الوقائية للمواقع الاثرية في حمايتها. ويكشف الحسيني عن "عمليات خلع وكسر تعرضت لها المستودعات الاثرية في جبيل وصور وصيدا وسرقت محتوياتها ومن ضمنها تماثيل معبد اشمون". العراق ولا يملك العراق تصوراً واضحاً لحجم الآثار التي يتم تهريبها من البلد وغالبها يتم عبر الحدود البرية. ويقول عضو الهيئة الادارية لجمعية المؤرخين والآثاريين العراقيين استاذ التاريخ القديم في جامعة بغداد الدكتور عبدالقادر الشيخلي: "ان العراق تعرض في العام 1991 الى سرقة الكثير من آثاره اثناء العدوان عليه، وحالياً وإضافة الى الآثار السابقة فإن السرقات بالآلاف"، مشيراً الى "ربط الولاياتالمتحدة اعادة آثار اخذت من العراق بانتهاء الحصار المفروض عليه من دون اعطاء اي تفسير عن علاقة الحصار بالآثار العراقية". ولفت الشيخلي الى اسلوب آخر اعتمده بعض الجامعات الاجنبية طلب استعارة آثار عراقية لاجراء دراسات عليها و"لا تزال هذه الآثار في الخارج على رغم انتهاء الفترة المتفق عليها للاعارة ويتحجج المعنيون في هذه الجامعات بأن الدراسة لم تنته بعد ولا تزال مخازن المتحف العراقي تنتظر". اليمن واليمن احدى الدول العربية التي تعاني مشكلة الاتجار غير المشروع بآثارها. ويقول المدير العام للرقابة والتنفتيش في هيئة الآثار اليمنية محمد أمين: "كلما اشتد الطلب في الخارج على الآثار ازداد النهب والحفر والنبش العشوائي للمواقع الاثرية، وأكثر هذه المواقع تعرضاً للاعتداءات في محافظاتالجوف وشبوة ومأرب لقربها من الشريط الحدودي المجاور للدول العربية والتي يسهل المرور فيها تحت اي مبرر". السعودية ويشير مدير ادارة التسجيل في وكالة الآثار والمتاحف في وزارة المعارف السعودية خليفة عبدالله الخليفة الى "ان ممتلكات ثقافية تسربت الى خارج المملكة اما من طريق الرحالة الذين قدموا الى المملكة في السنين الماضية او الموظفين الاجانب الذين شاركوا في المسوح الجيولوجية والتنقيب عن البترول او من هواة جمع التحف". ويقول: "ان حفريات اثرية تتم حالياً لبعض المواقع تعود الى فترات سابقة للعصر الاسلامي تظهر ان تلك المواقع امتدت اليها يد العبث، وعلى رغم ما تبذله الدولة من جهود للحفاظ على تراثها فهناك عصابات محدودة تقوم إما بالسطو على المواقع وإما بالاتجار بالآثار التي يتم العثور عليها والبعض منها يلجأ الى نزع كتل معمارية وكتابات ونقوش من مواقعها. وأحبطت السلطات محاولات تهريب مجموعة من التماثيل اخذت من موقع اثري شمال غربي المملكة وكتابات قديمة على ألواح حجرية وقطع برونزية وعملات اسلامية وتم تسليمها الى وكالة الآثار والمتاحف". سورية ولم تنج سورية من الاعتداءات على ممتلكاتها الثقافية من خلال التنقيب السري غير المشروع وتزييف الآثار وتهريب المنقول وغير المنقول من الآثار. ويشير مدير المتحف الوطني في دمشق الاستاذ في جامعتها بشير زهدي الى "ان السرقات شملت تيجان اعمدة وأبواباً وسقوفاً ومدونات تاريخية وأفاريز وأواني وسرجاً وحرزاً فخارية وأواني زجاجية وميداليات وأساور وخواتم وخناجر وسيوفاً وحربات ولوحات فسيفساء ارضية وجدارية وأختاماً وحلياً ذهبية وفضية وبرونزية وأحجاراً كريمة منقوشة وغير منقوشة وصناديق خشبية"، لافتاً الى "نجاح السلطات في استرداد كمية من المسروقات كانت تعد للتهريب بسيارات شحن مغطاة بصناديق الخضار". ويعتقد زهدي "ان الدافع وراء تزايد عمليات نهب الآثار هو الجشع والكسب السريع". لكنه يرجح "ان تكون معظم الآثار المهربة هي مزيفة بدليل كميتها". لا تبليغ وبحسب احصاء الشرطة الدولية انتربول فإن الدول العربية التي بلّغت عن سرقات تعرضت لها خلال العام 2000 هي ثلاث دول فقط: الجزائر 3 سرقات وسورية سرقتان وتونس سرقة واحدة. ويقدر ممثل الشرطة الدولية جان بيار جواني عدد السرقات التي حصلت في العام 2000 لممتلكات ثقافية في العالم بما يراوح ما بين 20 ألفاً و30 ألفاً تم التبليغ عنها. وقال ل"الحياة": "في غياب المعلومات الكافية عن القطع المسروقة من الصعب اقتفاء اثرها. والدول العربية لا تملك مثل هذه المعلومات عن آثار تنهب من اراضيها. هناك مكتب "انتربول" في كل بلد والمشكلة ليست في فاعلية المكتب انما في المعلومات التي ترد اليه، وبحسب نظامنا الداخلي فان الشرطة الدولية لا تتلقى معلوماتها إلا عبر مكاتبها في الدول، وليس عن طريق مدير متحف او ما شابه". ويرى جواني ان العائق الثاني امام ضبط عملية الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية عدم القيام بعمليات جرد وتوثيق لهذه الممتلكات. الشرطة الدولية وضعت اخيراً اسطوانة مدمجة بالمسروقات الموثقة لديها بالصورة والمعلومات، وأسهمت هذه الخطوة كما قال جواني "باسترجاع عدد من القطع، وأدخلت نوعاً من الوعي لدى هواة تجميع القطع الفنية بعدم اقتناء قطع مسروقة". ويشير جواني الى "ان الشرطة الألمانية تمكنت قبل شهرين من التعرف الى لوحتين مائيتين لبول كلي سرقتا من سويسرا في العام 1976 وتمت اعادتهما بعد 25 سنة على سرقتهما". وتتحفظ دول عربية عن توقيع اتفاق المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص الصادر في روما عام 1995 يهدف الى توفير حل لمسائل تقنية ناجمة عن اختلاف القوانين الوطنية ومكافحة تطور الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية. وشهد هذا الاتفاق مواجهة بين الدول المستوردة للآثار والداعين الى حرية التنقل الدولي للممتلكات الثقافية وبين الدول المصدرة للآثار او المعرضة لسرقة ونهب لآثارها. وترى مصر عيوباً جوهرية في هذا الاتفاق لأنها كما قال المستشار سرايا "تساعد التجار والمهربين اكثر من مساعدة الدول التي تتعرض للسرقة". واتفقت الدول العربية التي شاركت في ورشة عمل بيروت على دعوة منظمة "يونيسكو" والمعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص الى عرض الاتفاق المذكور عليها من خلال ورش عمل واجتماعات لشرحها وتوضيحها بمشاركة متخصصين في الآثار والقانون ومسؤولين في دوائر الآثار ورجال الشرطة والجمارك في الدول العربية. وفي المقابل، توافقت الدول المشاركة على تعزيز تشريعاتها الوطنية والقوانين الجزائية ذات الصلة لتأكيد ملكية الدول لكل قطع الآثار والممتلكات الثقافية الاخرى وتنظيم عملية الصناعة والاستنساخ المشروع بطرق افضل ومكافحة الاستنساخ غير المشروع.