على عكس ما جرت عليه العادة، كانت الندوة عن "مستقبل الميديا" في القمة الثانية والثلاثين ل"المنتدى الاقتصادي الدولي" الاكثر برودة. ولم تعرها وسائط الميديا، اي الاعلام العام، العالمية الا الحد الادنى من الاهتمام. ويبدو هذا الامر مدهشاً تماماً بالنسبة لمن يتابع انشطة هذا المنتدى. ومن أبرز من حضر الندوة ستيف كايس رئيس شركة "اي او ال" الشهيرة على الانترنت ونوبيووكي ايدي رئيس شركة "سوني" للالكترونيات. والمعلوم ان "اي او ال" تملك أذرعاً اعلامية قوية على الانترنت. وشبكة التلفزة الشهيرة "سي ان ان" ومجلات من وزن "تايم"، و"فورتشن" ومجموعة نشر للكتب وغيرها. كما تملك استوديوهات في هوليوود أخرجت أفلاماً ذائعة الشهرة مثل "هاري بوتر" و"ملك الحلقات" وغيرهما. وتملك "سوني" مجموعة من الاستوديوهات السينمائية خدمتها منذ الثمانينات في دعم كاسيت الفيديو الكبير الحجم الذي أنتجته الشركة. وبفضل افلام تلك الاستوديوهات، تمكنت الشركة من الانتصار، حينها، في المنافسة مع الكاسيت الصغير. اذن، كلا الرجلين ضليع بأمر الميديا تماماً. ولكن اين ذهب الآخرون من أصحاب الاسماء الكبيرة في هذا المجال؟ وعلى سبيل المثال، في السنة الفائتة، دار نقاش حار بين هذين الرجلين من جهة وبيل غيتس رئيس شركة مايكروسوفت، من جهة أخرى. فلماذا غاب غيتس عن ندوة الميديا، وفَضَّل ان يعقد مؤتمراً صحافياً مع مغني الروك "بونو"، تحدثا فيه عن أفريقيا وهمومها؟ والحال أن "دافوس" الحرب الأولى في القرن 21، رأى "مستقبل الميديا" بعين تنظر الى...الماضي! وذلك تناقض يثير ألف سؤال وسؤال. ففي تلك الندوة، طغت المواضيع المستعادة والمكررة. واستعيد النقاش عن العلاقة بين المضمون المحتوى والتكنولوجيا، وأيهما له الاولوية. واستعيد الكلام عن "تقارب التقنيات واندماجها"، في الاشارة الى التقارب المستمر بين المعلوماتية والاتصالات. واستعيد الجدل الذي لا ينتهي عن الملكية الفكرية وعلاقتها بتطور الاجهزة وبرامجها وتقنياتها واثرها في الاسواق وما الى ذلك من المواضيع المكررة عن هذه المسألة المزمنة. وبالمقارنة، مع ندوة العام السابق، فان الندوة صمتت عن موضوع اساسي اثير في ندوة العام الماضي. ويمثل هذا الموضوع شأناً حساساً تماماً في الاعلام. ويختصر بالسؤال التالي: من هو "الجمهور" في هذا الاعلام المعلوماتي الجديد؟ وتتفرع من هذا السؤال اسئلة اخرى، مثل السؤال عن الطريقة التي ستزيح الانترنت فيها التلفزيون، لتمسك بالاعلام العام، طالما انها لا تنتشر ولا تكتسب مصداقية اعلامية كافية، وفي السرعة المناسبة. وفي ندوة العام الماضي، اقر غيتس ان فقر الغالبية في العالم، عائق اساسي امام تحول الكومبيوتر الى اداة اعلام عام، اي الى ما يشبه الراديو والجريدة والتلفزيون. لا شيء من كل هذا الكلام المهم ورد في ندوة "دافوس-نيويورك" عن الميديا. وظلت ندوة المستقبل محكومة بنقاش الماضي. ولعل الشيء الوحيد الذي لم يكن ماضياً هو هبوط الاسواق كافة الى مستوى الركود العالمي، وهو امر لم تطل ندوة "مستقبل الميديا" النظر فيه! وزاد تجاهل هذه الامور الندوة بروداً على برود. وما يزيد في حدة التساؤل عن "برودة" ندوة الميديا، ان "دافوس" اشتهر باعطائه أهمية فائقة للميديا. وغالباً ما اخذ عليه منتقدوه انه حوَّل السياسة الى "لعبة ميديا" بامتياز. وعلى جبهة الميديا، قاتل "دافوس" دوماً في ضراوة لافتة. ويجدر القول ان "دافوس" كان من الامكنة التي ولد فيها مفهوم ربط الاعلام بتكنولوجيا المعلوماتية. ومنذ منتصف التسعينات، دأب المنتدى على الحديث عن الميديا، باعتبارها شأناً مرهوناً بتطورالاتصالات والشبكات الرقمية. وصارت الندوات عن الميديا، انصاتاً لما يقوله مديرو شركات الكومبيوتر عن التقنيات التي تصنعها مؤسساتهم في الانترنت، واوتوسترادات المعلوماتية السريعة، والاتصالات الخلوية المتطورة، وما الى ذلك. ويصعب ايجاد مكان جدي وقوي اكثر من "دافوس" نظَّر لسيطرة شبكات الكومبيوتر والمعلوماتية على مسارالاعلام العام، ولعالم توحده الالياف الضوئية وشبكات الكومبيوتر والاقمار الاصطناعية للاتصالات، ولدخول الافراد والجماعات، الى عالم تضمن له الميديا المتطورة تواصلاً ووحدة حال...الخ. انها ميديا "القرية الكونية" الواحدة والصغيرة التي تضم الارض كلها، ميديا العولمة التي كرس بها "دافوس" من دون كلل. ثم وصل هذا النقاش الهادر الى نيويورك، فصمت صمتاً ثقيلاً!