قبل أيام قلائل، أدّى إعلان حملت كلماته شيئاً هيّناً من الالتباس، إلى وقوع جمهور وسائل التواصل الاجتماعي لبنانيّاً وعربيّاً في هوّة غير متوقّعة من الارتباك وسوء الفهم. ولم يكن فقدان الصدقيّة أبرز ما رافق الارتباك، بل تجلي واقع أنّ نقاش الأمن الرقمي على الشبكات لا يكون معمّقاً إلا حين يجري تحت الأضواء الكاشفة لمسألة التشفير وضرورة أن ينتشر بين جمهور الإنترنت، بل يكون جزءاً من عملهم اليومي. الأرجح أن الناس لن يصبحوا آمنين حقاً على الإنترنت إلا إذا تولوا بأيديهم مسألة تشفير بياناتهم واتصالاتهم وأنواع المحتوى الذي يضعونه على الشبكات، خصوصاً مواقع التواصل الاجتماعي. في التفاصيل أن شركة «واتس آب» أعلنت بشكل هادئ تماماً عن إضافة خاصيّة الاتصال الفردي المتبادل، إلى سلّة خدماتها. وبطريقة شابها التسرع وسوء الفهم وإسقاط الأماني على قراءة الوقائع، ساد ال «سوشال ميديا» في أوطان عربيّة (لعل أبرزها لبنان) أنّ تلك الخطوة تعني أنّ «واتس آب» باتت تعمل بطريقة مشابهة لما يحصل في تطبيق «سناب شات»! لم يكن الوقوع في مغطس الأوهام في شأن تشفير «واتس آب» للمكالمات الفردية، إلا لأن «سوشال ميديا» تقدّم يوميّاً براهين متراكمة عن الإشكالية الكبرى في موثوقيّتها. وما كان لل «سوشال ميديا» أن تخلط بين تشفير «واتس آب» الاتصال الفردي مع عدم تدخل «واتس آب» نفسه بين المتحاورين، وبين المحو السريع للاتصالات الفردية في تطبيق «سناب شات» Snap Chat، لولا ضعف في ذاكرة متابعي التقنيات الرقميّة أيضاً. والأرجح أن ثمة وهناً في ذاكرة مجموعات كثيرة، حال دون تذكّر أن «واتس آب» لم تفعل سوى أنها نفّذت ما أعلنت عنه في 2016، عقب معركة التشفير التي اندلعت بين شركة «آبل» و «مكتب التحقيقات الفيديرالي» (أف بي آي) عقب طلب الأخير من «آبل» كسر شيفرة هاتف «آي فون» كان يحمله من نفّذ هجوماً إرهابيّاً في بلدة «سان برناردينو». ماذا قالت «واتس آب» حقّاً؟ أحياناً، تنطق الأحداث بلسان طليق عن نفسها. وعند مواجهتها مع «أف بي آي» بدت «آبل» كأنها انتصرت برفضها الاستجابة لطلبه كسر التشفير، لكن ما حدث فعليّاً أنّ «مكتب التحقيق الفيديرالي» تمكّن من كسر التشفير من دون الحاجة إلى تعاون «آبل»! ويصلح ما سبق مدخلاً لصبّ شيء من الماء البارد صباحاً على الوجوه المستبشرة في شأن تفعيل خاصية تشفير الاتصال الفردي على «واتس آب». ثمة قناعة عميقة عند المدافعين عن خصوصيّة بيانات الجمهور واتصالاته (خصوصاً المنظمات الأهلية الأميركية المختصة بالدفاع عن الحريّات الإلكترونيّة والعامة)، بأنّ الخطوة الحاسمة إنما تكون بأن ينخرط الأفراد بأنفسهم في تشفير اتصالاتهم وبياناتهم. ليست مجازفة كبرى القول أنّ الانتشار الواسع للتشفير هو مخرج أساسي للأزمة الضارية في شأن حماية الجمهور في الفضاء الإلكتروني (من الاختراقات والشركات وأجهزة الاستخبارات وسواها)، وليس الوقوع في شرك واهٍ من الأوهام في شأن خدمة تشفير على «واتس آب». ولعل الطريف في مياه الوهم أن ضجيج ال «سوشال ميديا» لم يدقّق في الفارق الضخم بين تشفير «واتس آب» وتخلي الشركة عن دور الوسيط في كل اتصال فردي، وبين المحو المتواصل للاتصالات الذي يقدّمه تطبيق «سناب شات». سؤال لجمهور ال «سوشال ميديا». ففي إعلانها إياه، أوردت «واتس آب» أنّها تتخلّى عن دور الوسيط في المكالمات بين الأفراد، بل تباهت اختيالاً بذلك التخلي، وفق كلماتها على موقعها الشبكي. لكن، متى أعلنت الشركة بجلاء أنها تؤدي دور الوسيط (لنقرأ أيضاً: الرقيب) الذي تمر عبر عينيه وأذنيه الاتصالات الفردية بين الناس؟ أليست مناسبة للتفكير في ما تبديه الشركات التي تدير مواقع ال «سوشال ميديا»، وما لا تنطق في شأنه حرفاً وتخفيه؟ استطراداً، لا يقع أحد في وهم في شأن مسألة خروج «واتس آب» من دور الوسيط/ الرقيب. لا يعني ذلك أبداً أن تلك المكالمات المشفّرة ستمحى وتزول، بل أنّها تبقى (في صيغتها المشفّرة) على خوادم «واتس آب» وأرشيفاتها الإلكترونيّة الضخمة. ضرورة إمساك الناس أمن الشبكات بأيديهم ثمة تذكير واجب في شأن تلك الفرحة المضمرة التي حركّتها خطوة تشفير «واتس آب». إذ ما كانت مسارعة الجيل الشاب غرباً لتبني «سناب شات» إلا تعبيراً عن عمق أزمة الانكشاف المذهل للناس وبياناتها واتصالاتها، بل إنّ الخلط المتوهم بين تشفير «واتس آب» والمحو السريع في «سناب شات»، يشير إلى توق للتوصل لحل فعّال لتلك الأزمة. ثمة قناعة لدى كثيرين بأن البداية الفعليّة لحل أزمة الخصوصيّة والانكشاف على شبكات الاتصالات كلّها، تكون في انخراط الجمهور جديّاً في التشفير، بل على أوسع نطاق ممكن. في العام 2013، قدّم الخبير الأميركي المنشق إدوارد سنودن (هو الذي كشف التجسّس الإلكتروني الشامل الذي تمارسه «وكالة الأمن القومي» على الاتصالات في الكرة الأرضيّة)، رأياً بصدد التشفير بالطريقة التي يُمارس فيها في شركات المعلوماتيّة والاتصالات. ووفق سنودن يكون «التشفير مفيداً عمليّاً. وإذا نُفّذ بطريقة ملائمة، يكون باستطاعتك الاعتماد على نظام جيّد التشفير. ولسوء الحظ، فإن الأمن عند نقاط التقاطع بين التشفير والنُظُم والأدوات، يكون هشّاً في الغالب، ما مكّن «وكالة الأمن القومي» من الالتفاف حوله دوماً». وعند التدقيق في الكلمات السابقة، ربما كان مجدياً تذكّر أنّ سنودن كان يعمل خبيراً في شركة تقنية أميركية كبرى قبل انتقاله للعمل خبيراً لدى «وكالة الأمن القومي» التي فضح ممارساتها، ما يعني أنه رأى التشفير من الجهتين أيضاً. بقول آخر، رأى سنودن كيف يصاغ التشفير في الشركات من جهة، ثم رأى كيف تنفذ الاستخبارات الأميركيّة بسهولة، من الجهة الثانية. لنسأل علم الرياضيّات متابعو الشأن التقني يعرفون أنّ ثمة أفضليّة رياضيّة بنيويّة متأصّلة بين كتابة الشيفرة، بالمقارنة مع محاولة كسر التشفير. وأساساً، يستند الأمن المعلوماتي إلى طول مفاتيح الشيفرة، وإذا حدث أضأل تغيير في طول المفتاح، فسيفرض ذلك على المهاجم عملاً إضافيّاً فائق الضخامة. وتتضخم تلك الصعوبة بما يشبه الانتقال من رفع العدد إلى قوة 2 ثم 3 ثم 4 وهكذا دواليك. ربما يستغرق المُهاجِم يوماً كي يكسر مفتاحاً من 64 بايت، لكنه يحتاج ضعفي ذلك الوقت: إذا زاد طول المفتاح إلى 65 بايت. وعند صنع مفتاح من 124 بايت، يتطلّب ذلك ضعفي الزمن في كتابة الشيفرة، لكن المُهاجِم يحتاج إلى زمن أطول بمقدار الضعفين مرفوعاً إلى قوة 64، ما يساوي مليون بليون سنة من العمل الإضافي لكسر تلك الشيفرة. (للمقارنة، يبلغ عمر الكرة الأرضيّة 4.5 بليون سنة). لدى التدقيق في الإعلان عن خدمة تشفير الاتصالات الفرديّة في «واتس آب»، من المستطاع التفكير في أشياء أساسيّة تتعلق بها. هل هي آمنة تلك الرقاقة الإلكترونيّة التي تدير هاتفك الخلوي (وكذلك نظيراتها في الكومبيوتر وجهاز ال «تابلت» وغيرهما أيضاً) التي تمر منها مواد «واتس آب» قبل أن تعبر إلى تلك الشبكة؟ أبواب خلفيّة بات معروفاً تماماً أنّ الحكومة الأميركيّة تفرض على صنّاع تلك الرقاقات وضع «أبواب خلفيّة» Back Doors كي تتمكن مؤسّساتها الأمنيّة والاستخباريّة من الدخول إلى شيفرتها كاملة، وتالياً النفاذ إلى كافة أشكال الاتصالات عبرها. وبموجب تلك الوثائق، هناك مجموعة من الحلفاء لأميركا في البلدان الصناعيّة الكبرى (هي أيضاً أعضاء حلف الأطلسي)، تتعاون معاً في ذلك المجال. ووصل ذلك التعاون إلى حدّ أن التجسّس على هاتف المستشارة الألمانية أنغيلا مركل لم يوقف تعاون جهاز الاستخبارات في بلادها مع «وكالة الأمن القومي»! دقّق النظر، وراجع الأمر مرّة ومرّة، بل مراراً. هل أنت آمن لمجرد حصولك على ميزة من شركة «واتس آب» بتشفير مكالماتك، مع مرورها في رقاقات مخترقة، وتخزينها في مستودعات رقميّة لا تكف أيدٍ كثيرة عن اختراقها، بل تملك الاستخبارات سلطات رسميّة في الحصول عليها ؟ لنتذكّر تجربة «تويتر» أيضاً حفز الإرباك الذي صاحب إعلان «واتس آب» عن تشفيرها الاتصالات الفرديّة، بعض المهتمين في الشأن التقني على تذكّر وقائع مشابهة حدثت في مسار ظهور ال «سوشال ميديا» وتطوّرها، خصوصاً تجربة موقع «تويتر» الشهير. وكذلك عاد مهتمّون آخرون إلى وقائع من أزمنة أكثر قرباً. وقبيل اندماجها مع «واتس آب» في 2014، كانت شبكة «فايسبوك» مهدّدة بموجات هجران متواصلة من الشباب في الغرب. وفي فرنسا، وصل الأمر ببعض الشباب إلى صنع شبكات «بديلة» عن «فايسبوك». بقول آخر، أنقذ اندماج «واتس آب» و «فايسبوك» وما رافقه من توسّع في خدماتهما سويّة، مصائر كثيرة في شبكات التواصل الاجتماعي. في المقابل، إذا كان التوسّع في الخدمات والوسائط هو الحل، فمن يضمن أن لا تصبح شبكات الميديا الاجتماعية مجرّد جزء من تقنية ما ربما ظهرت مستقبلاً فبدت أكثر تقدّماً وجدوى من «واتس آب» و «فايسبوك» سويّة؟ حملت حملات مرشحي الرئاسة في فرنسا شيئاً من ذلك، عندما أعلن مرشح اليسار لوك ميلانشون اعتزامه الظهور في أكثر من مدينة لإعلان ترشّحه للرئاسة، واعداً أن يكون ذلك عبر مجسّمات إلكترونيّة متحرّكة على طريقة ال«هولوغرام» Hologram، التي تعتبر تقنية متقدّمة في حقل المشهدية التفاعليّة الثلاثية الأبعاد. (لم يستطع ميلانشون الوفاء بوعده لأن ال«هولوغرام» لم تنضج تقنيّاً حتى الآن). ماذا لو كان ال «هولوغرام» هو النقلة المقبلة في الأجهزة والخدمات؟ ماذا عن تفاعل تقنية ال «هولوغرام» مع التقنية القابلة للارتداء، والإعلام المرئي - المسموع وفنون السينما والمسرح، بل حتى الصحف والكتب؟ عن أهرام من البيانات هناك صعود لظواهر كبرى في المعلوماتية، لم تستطع شبكات الميديا الاجتماعية التفاعل معها بطرق فعّالة ومؤثّرة. لعل أبرز تلك الظواهر هو دخول الانترنت عصر «البيانات الكبيرة» («بيغ داتا» Big Data) التي تمثّل رديفاً لازماً في دخول مرحلة «انترنت الأشياء» Internet of Things، بمعنى أن تكون الأشياء كلها موضوعة في هيئة ملفات رقمية على الانترنت. مثلاً، إذا أصبحت السيارات روبوتية، تتولى انترنت الأشياء توجيه السيارات كافة، وضبط حركة السير على المستويات المختلفة. لم تلامس شبكات ال «سوشال ميديا» ذلك الأفق، على رغم صعوده وانتشاره المستمرين. هناك مساحة للتذكير أيضاً بأن شبكة «فايسبوك» بدت في ختام 2014 كأنها تعود إلى تاريخ قديم عبر إحياء «غرف الدردشة» على صفحات «فايسبوك». والأرجح أنها تجربة تؤشّر إلى اتساع الأمدية التي تفلت من الشبكات الاجتماعية، وتظهر حين تحاول ال «سوشال ميديا» التقاطها، على غرار النقاشات الجماعية غير المفتوحة على الجمهور ولا على جدران الصفحات الاجتماعيّة. إنها عودة إلى ماضٍ لم يندثر كليّاً، وتعطي انطباعاً قويّاً بوجود ارتباك أصيل في مسار شبكات الميديا الاجتماعيّة، أعمق كثيراً مما ظهر في الالتباس بشأن تشفير اتصالات «واتس آب» الفرديّة. ولعل التجربة الأقرب إلى ما حدث مع «واتس آب» أخيراً، هو تجربة موقع «تويتر» للتغريد بنصوص مصغّرة لا يزيد عدد حروفها عن 140 حرفاً. وظهر موقع «تويتر» في العام 2006 على يد شركة «أوبفيوس» Obvious الأميركية (مقرها مدينة «سان فرانسيسكو»). وانتشر بقوة منذ العام 2007. ولفت البعض إلى أن شبكات الميديا الاجتماعية لا تلغي وسائل الإعلام العام التقليديّة، خصوصاً الصحافة الورقية. وأشاروا أيضاً إلى نمو المحتوى الإعلامي مع انتشار ال «سوشال ميديا»، مع زيادة موازية في الإعلانات. كما جرى النظر إلى شبكات التواصل الاجتماعي بوصفها شيئاً يتناسب مع سعي صحافة الورق للتواصل والتفاعل المستمر مع القرّاء، ولتجاوز القيود الثابتة في عملها أيضاً. ونبّه بعض الخبراء إلى أن انتشار الصحف عبر شبكات الميديا الاجتماعية يساهم في تعزيز صورة هذه الصحف أمام قرّائها، ويُظهر اهتمامها بالحداثة والتطور التقني. وكذلك ينسجم ذلك مع سعي صحافة الورق للوصول إلى الأجيال الشابة التي باتت أيديها تتداول الرسائل القصيرة باستمرار، وتعتبرها أداة أساسية للتواصل في الحياة اليوميّة.