يعتبر مقتل عنتر الزوابري زعيم"الجماعة الإسلامية المسلحة" في الجزائر على أيدي القوات المشتركة المكلفة مكافحة الإرهاب ثاني انتصار كبير ورمزي للمؤسسة العسكرية. وتمثل الانتصار الأول في استسلام الجيش الإسلامي للإنقاذ ثم حله. وأصبح الزوابري نتيجة للمجازر التي ارتكبها رمز الرعب والخوف والدم في البلاد، بل تحول إلى أسطورة قد يختلط فيها الواقع بالخيال. أسطورة لصغر سنه، فقد قاد أخطر تنظيم إسلامي متطرف في الوطن العربي كله منذ العام 1996 بعد مقتل أميره جمال زيتوني وعمره آنذاك لا يتجاوز 26 سنة. وفي هذه السن فرض نفسه بالبطش والمبالغة في القسوة والقتل واعتمد ذلك طريقا لتثبيت زعامة شاب مغمور لم يحصل على تعليم. وكبرت الأسطورة وتضخمت حين اتهمته قوى أخرى معادية للنظام و"الجماعة المسلحة" بكونه عميلاً مخلصاً للاستخبارات العسكرية، فأصبح إرهابياً عند النظام وعميلا للجيش لدى قيادة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، لكنه بقي إلى يوم وفاته أميرا على جماعته. هذه هي الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن الجدل فيها وسط الضباب الكثيف الذي أحاط بصورته. هذا الغموض كان سببه أسطورة أكبر هي أسطورة "الجماعة المسلحة" وأساطير زعمائها المتلاحقين. فهذه الجماعة حسب بعض قيادات "الجبهة الإسلامية" أو حتى شهادة بعض الضباط الفارين مثل العقيد محمد سمراوي أو ما تنشره الحركة الجزائرية للضباط الأحرار، هي من صنيع الاستخبارات العسكرية الجزائرية التي أنشأتها حسب رأيهم منذ بداية الأزمة لخلط الأوراق. قد يمر وقت طويل قبل رسم صورة حقيقية وواضحة لهذه الجماعة. لكن قبل ذلك من المشروع القيام ببعض المحاولات. ولا تتوافر مصادر كثيرة موثوقة لمعرفة كيف نشأت "الجماعة المسلحة" في البداية، فالمصادر متضاربة والتقويمات متناقضة. لكن من الممكن القول إن هذه الجماعات المسلحة شهدت أوج تأثيرها في 14 أيار مايو 1994 عندما تمكنت من عقد اجتماع تاريخي بينها وبين "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" التي مثلها كل من الشيخ محمد السعيد وعبدالرزاق رجام ويوسف بوبراس، و"حركة الدولة الإسلامية" التي مثلها الشيخان السعيد مخلوفي ورابح قطاف. أنتج هذا اللقاء وحدة تنظيمية بينهم جميعاً تحت قيادة "الجماعة المسلحة" وقائدها أبو عبدالله أحمد الشريف قواسمي الذي أصبح أميراً على الجميع. لكن هذه الوحدة التنظيمية لم تدم طويلا إذ قتل قواسمي بعد أربعة أشهر فقط في معركة مع قوى الأمن في ضواحي العاصمة يوم 26 أيلول سبتمبر 1994. ووجد التنظيم الموحد نفسه أمام مأزق اختيار أمير جديد، فتم الاتفاق على مضض على شخص أبو خليل محفوظ الذي واجه معارضة من قادة الميدان وخصوصا جمال زيتوني المكنى بأبي عبدالرحمن أمين. واستمر هذا الخلاف حتى منتصف تشرين الأول اكتوبر حين أعلن عن تنازل محفوظ لزيتوني عن الإمارة. وعكس وصول زيتوني الى القيادة رغبة الجيل الشاب في الحركة في القيادة. وكان يؤمن بالبطش وبانتهاج العمل المسلح غير التقليدي الذي يمكنه أن يجذب انتباه وسائل الإعلام العالمية ليجعله في العناوين الأولى في الأخبار. ولم تستطع هذه الأحداث والقرارات الدموية التي اتخذها زيتوني أن تحجب ما بدأ يبرز من خلافات وانشقاقات داخل الجماعة. وفي الضفة الأخرى من ميدان الصراع، اختلف الوضع منذ أواخر العام 1994 وبداية 1995 إذ تغير المشهد الأمني العسكري في الجزائر. وعلى عكس ما كان متوقعا لم يؤد استخدام الجماعة العنف بكثافة إلى تقويض النظام، وإنما أدى إلى نتيجة عكسية ازداد بموجبها هذا النظام قوة وتدعمت قاعدته. وزاد من ضعف الجماعة اشتداد الخلافات داخلها وعزل زيتوني الشيخين مدني وعلي بن حاج من مجلس شورى الجماعة وأهدر دم شيوخ جبهة الإنقاذ في داخل الجزائر وخارجها. وقتل عدد من قادة "الجماعة المسلحة" غير الخاضعة لسلطة زيتوني أو المتهمة ب "مخالفات شرعية". كما حصلت تصفيات عشوائية داخل الجماعة ذهب ضحيتها عشرات. وكانت النتيجة أن تفككت الجماعة وانشق عنها كثيرون بعدما اتهموا أميرها باعتماد منهج الخوارج في تحليل دماء المسلمين. ثم سرعان ما تمت تصفية جمال زيتوني نفسه الذي خلفه مفتي الجماعة عنتر الزوابري الذي أراد أن يواصل عمليات القتل الوحشي، فتميز عهده بالمذابح المتواصلة التى استهدفت سكان الأرياف المعزولة، خصوصاً في منطقتي وسط الجزائر وغربها. إضافة إلى المواقف الجديدة التي اتخذها "الجيش الإسلامي للإنقاذ" بقيادة مدني مزراق وتميزت بتقارب مع الجيش وإعلان هدنة وانتهت باستسلام عناصره وحل التنظيم. ثم انشق حسان حطاب عن عنتر الزوابري وأسس "الجماعة السلفية للدعوة والقتال"، التي التزمت عدم القيام بعمليات عسكرية ضد المدنيين. إن قتل أمير "الجماعة المسلحة" وبث صور جثته على شاشة التلفزيون له مغزى ورهانات كبيرة لدى قيادة الجيش الجزائري. هل يجب التذكير أن واشنطن اهتمت كثيراً بالوضع الجزائري منذ هجمات 11 أيلول؟ وهل يجب التذكير بأنها وضعت جماعة الزوابري على قائمة المنظمات الإرهابية التي يجب استئصالها؟ إن المؤسسة العسكرية الجزائرية كانت في حقيقة الأمر تبث رسالة قوية حين عرضت الجثة مفادها أنها قادرة على مقاومة الإرهاب لوحدها وأنها تسيطر كلياً على كل شبر من أرضها، وما تطلبه هو تفهم الغرب ومساعدته لا تدخله في شؤونها. كاتب تونسي مقيم في جنيف