ربما كنت مخطئاً غير انني أربط بين كثرة الكتب والأخبار عن اليهود هذه الأيام، والارهاب الاسرائيلي ضد الفلسطينيين والقتل والتدمير والاحتلال المستمر، فالحديث عن معاناة اليهود قبل 60 عاماً أو قرن او قرنين، محاولة واعية أو يمليها العقل الباطن لتحويل الأنظار عن الممارسات النازية لحكومة آرييل شارون ضد الفلسطينيين. الربط بين الكتب الصادرة وحالة معينة موجود في كل بلد، وأذكر انني قرأت كتاب "أنا اوكي، أنت اوكي" لتوماس هاريس في الولاياتالمتحدة والبلاد تعاني من انكماش اقتصادي رهيب في السبعينات، وهو عقد لم ينته حتى كانت بريطانيا تعاني، فصدرت كتب عدة عن الامبراطورية، وأمجاد بريطانيا وملوكها والثورة الصناعية التي أطلقتها. بل انني اذا عدت الى الانهيار الاقتصادي الكبير سنة 1929، فانني اجد ان هوليوود انتجت معه فيلماً قرأت انه ضم راقصة تلبس الذهب من فوق الى تحت وتغني "معنا فلوس، معنا فلوس". اليوم هناك حملة هائلة على الكنيسة الكاثوليكية، فاليهود يتهمونها بأنها نشرت اللاسامية، ووفرت الاجواء التي أوصلت اليهود الى المذبحة النازية. وفي حين ان هناك كتباً عدة عن البابا بيوس الثاني عشر الذي شغل السدة البابوية من 1939 الى 1958 وعقد اتفاقاً مع هتلر للتعايش، فان التوجه الجديد يعيد المشكلة الى أوائل القرن التاسع عشر. ديفيد كيرتزر في كتابه "حرب غير مقدسة: دور الفاتيكان في نمو اللاسامية الحديثة" يعود الى البابا بيوس السابع، ايام نابوليون، وكل بابا بعده حتى البابا بيوس الثاني عشر، ويقول ان الكنيسة الكاثوليكية غذت باستمرار اللاسامية التي انتهت بالمحرقة النازية. الكنيسة اوقفت لعن اليهود، والاتهامات التقليدية لهم بقتل السيد المسيح في الستينات، والبابا يوحنا الثالث والعشرون أصدر وثيقة بهذا المعنى سنة 1965. اما البابا الحالي يوحنا بولس الثاني فأصدر سنة 1998 وثيقة بعنوان "نحن نذكر: تأملات في المحرقة". غير ان كيرتزر لا يقبل شيئاً من هذا، وهو وغيره على ما يبدو لا ينسون ان البابا الحالي "طوّب" البابا بيوس الثاني عشر الذي يعتبره اليهود عدوهم الأول. وأفكار كيرتزر مكررة في كتاب ستصدره دار نوبف الأميركية بعنوان "المحاسبة الأخلاقية: الكنيسة الكاثوليكية خلال المحرقة واليوم" للأميركي دانيال غولدهاغن. والعدد الحالي من مجلة "نيو ريببلك" يكاد يكون وقفاً على غولدهاغن وآرائه، فهو يضم مقالاً عن الكتاب في 27 الف كلمة خلاصته ان الكنيسة الكاثوليكية مسؤولة عن اللاسامية التي اوصلت الى المحرقة النازية. الكنيسة الكاثوليكية تستطيع ان تدافع عن نفسها، وما أقول هنا هو ان إثارة الموضوع مرة ثانية وثالثة في هذا الوقت تحول النظر الى جرائم قديمة عن جرائم ترتكبها اسرائيل كل يوم بحق الفلسطينيين. وكان غولدهاغن اصدر قبل سنتين أو ثلاث كتاباً بعنوان "جلادو هتلر برضاهم" اتهم الألمان كلهم بقتل اليهود، لا النازيين وحدهم، وهو اليوم يتهم الكنيسة الكاثوليكية على مر القرون. في الوقت نفسه صدر كتاب بعنوان "أوديسا الحقيقية: كيف جلب بيرون مجرمي الحرب النازيين الى الارجنتين"، والتهمة هنا تلصق بشعب الارجنتين مع بيرون الذي لا يزال حزبه أقوى حركة سياسية في البلاد. ثم أقرأ عن يهود رومانيا الذين قتلهم النازيون، وعن تعاون سويسرا مع النازيين. ايضاً في الوقت نفسه، كان تلفزيون هيئة الاذاعة البريطانية يبث فيلماً عن مؤامرة فانسي حيث اجتمع قادة النازيين وخططوا للحل النهائي سنة 1942 للخلاص من اليهود. المحرقة حدثت وراح ضحيتها ستة ملايين يهودي، وقد دفع الألمان ثمنها ماركات للناجين، غير ان الفلسطينيين دفعوا ثمنها من وطنهم، مع انهم لم يرتكبوا الجريمة او يتهموا بها. اليوم أصبح الضحية جلاداً، والاسرائيليون يرتكبون بحق الفلسطينيين ما ارتكب النازيون بحق يهود أوروبا قبل نصف قرن او اكثر. وهنا النقطة الأساسية في سطوري هذه، فالفيض الهائل من الكتب والأخبار يتحدث عن جريمة وقعت قبل 50 سنة، وتعود جذورها الى القرن التاسع عشر، ثم ترتكب جريمة كل يوم ضد الفلسطينيين، ونسمع بذاءة من نوع ان مقاومة الاحتلال ارهاب، وكأن واجب شعب تحت الاحتلال ان يحمي المحتل المغتصب. "الغارديان" لم تسكت، وهي قالت في مقال افتتاحي الأسبوع الماضي ان "اللاشارونية" لا يمكن ان تعتبر "لاسامية"، وفي حين ان الجريدة اختارت كلماتها بحذر، فانني أزيد بالموضوعية الممكنة ان الدكتور جوناثان ساكس، كبير حاخامات بريطانيا لا يستطيع ان يخطب باقناع عن "اللاسامية الجديدة" الا اذا دان معها ارهاب الحكومة الاسرائيلية ضد الفلسطينيين. وهو اذا لم يفعل فالمواطن العربي العادي مثلي سيعتبر الحديث عن اللاسامية اليوم، او محرقة مضى عليها اكثر من نصف قرن محاولة للتغطية على جرائم اسرائيل، لا اكثر ولا أقل.