موضوع مذبحة النازيين اليهود كتب عنه العشرات من الكتب من جوانب مختلفة وبلغات متعددة كما ان التفسيرات التي اعطيت لحدوث المذبحة كانت متباينة وأحياناً متضاربة. وليس هنا مجال الحديث عن هذه التفسيرات والخوض فيها لكن التفسير الذي اعطاه دانيال غولدهاغن مؤلف الكتاب الذي نحن بصدده هو تفسير ندر من قال به. ومع ان الكتاب عندما صدر في طبعته الأولى كان من اكثر الكتب مبيعاً في الولاياتالمتحدة - حيث يعمل المؤلف محاضراً في الجامعة - الا ان الكثير من الباحثين انتقد افكاره واعتبروها ضعيفة لا تدعمها أدلة. ويمكن ايجاز افكاره كالآتي: ان المذبحة التي ارتكبها النازيون بحق اليهود تعود الى جوّ العداء المتأصل في ثقافة الألمان كشعب نحو اليهود ولم يكن العداء مقتصراً على النازيين وحدهم. ويرى المؤلف بأن هذا العداء تراكم لعدة قرون منذ مارتن لوثر الذي وصفه المؤلف ب "سيد أعداء اليهود". وهذه بعض النصوص لتوضيح افكاره: يقول المؤلف "في القرون الوسطى وحتى عصر الأنوار كان المجتمع الألماني معادياً بشكل عام للسامية وكان عداء النازية لليهود جزءاً من عداء الألمان العاديين"ص30. و"ان هذا العداء استمر كجزء مكوّن للثقافة الألمانية خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين وفي هذه الحقبة اصبح مركّزاً ومطوّراً عن شيء كان موجوداً ومقبولاً سابقاً"ص32. و"ان فكرة الألمان عن اليهود هي فكرة تخلصية، اي التخلص من اليهود لاعتقادهم بأن لليهود تأثيراً مدمراً ولذلك يجب على المجتمع ان يتخلص منهم بتدميرهم"ص48. و"ان المؤسسات والجماعات التي كانت تعلن العداء لليهود خلال القرن التاسع عشر في المانيا كانت في المحصلة النهائية لامست كل شريحة من شرائح المجتمع"ص59. و"ان الألمان العاديين كانوا قد غُذوا وفطموا على الثقافة المعادية لليهود وهم ورثوا هذا عن الافكار المسيحية حول اليهود"60. و"إن هذه الفكرة استمرت بشكل واسع وعميق في ثقافة الألمان حتى وصلت الى شكلها الذي اخذته في القرن العشرين"ص375. اختار المؤلف الكتيبة 101 من الجيش الألماني للتدليل على ان العداء لليهود موجود بين الألمان العاديين. وتحدث المؤلف بشكل مفصل عن هذه الكتيبة واستغرق حديثه عنها اكثر من ستين صفحة. ومضمون ما يقول فيها ان افراد هذه الكتيبة - الذين قتلوا الاف اليهود - تطوعوا ليكونوا قتلة بسبب الكراهية لليهود. كما ان اعضاء هذه الكتيبة كانوا اناساً عاديين اذ كان منهم الخباز وجامع التذاكر والمعلم وأمثال هؤلاء. كما ان قتلهم لليهود لم يكن بسبب طاعة عمياء للأوامر او الخوف من العقاب لأن افرادها خيّروا بين القيام بالقتل ورفضه ورفض بعضهم. وزود المؤلف كتابه بمجموعة من الصور التي تعكس معاملة الألمان لليهود. ومن هذه الصور صورة جندي الماني يوجه بندقيته الى امرأة يهودية وعلق عليها غولدهاغن بقوله "ان هذا الجندي الذي ارسل الصورة الى امه يعرف بأنها ستكون مسرورة بها". وأفكار غولدهاغن تنفخ الروح في نظرية مدرسة كانت تراجعت في السبعينات وهي مدرسة الذين يرون بأن اليهود قتلوا عن عمد وقصد وليس بسبب ظروف احاطت بتلك العملية وهو رأي مدرسة اخرى ترى بأن اسباباً مثل الصراع على السلطة بين المحيطين بهتلر والحرب ضد روسيا اذ اعتبر الحكم هناك موسكو تحت سيطرة اليهود وغيرها من اسباب أدت الى قتل اليهود. انتقد الكثير من الباحثين افكار غولدهاغن ورفضوها. وكان من الناقدين زاؤول هلبرغ الذي يعتبر حجة في تاريخ الفترة النازية وسياستها ضد اليهود اذ وصف الكتاب بأنه مفتقر الى الحقائق والمنطق واعتبره كتاباً مهلهلاً وغير محكم في عرضه. وقال فرتز شترين، وهو بروفسور في جامعة كولومبيا عن المؤلف بأنه صاحب ادعاء عريض وان كتابه يعتمد على رطانة لا تلبث ان تتبخر بسرعة وهو أسوأ ما يمكن ان يستعمل في النقاش العلمي الاكاديمي. وشكك نيل فيرغسون - استاذ في جامعة اكسفورد - في معرفة المؤلف بظاهرة العداء للسامية في اوروبا قبل عام 1933 اضافة الى تقليله من عداء غير الالمان العاديين لليهود مثل اللاتفيين والرومانيين الذين ايضاً ارتكبوا اعمالاً عدائية ضد اليهود "وهي اعمال لا تقل فظاعة عن تلك التي ذكرها غولدهاغن عن الألمان". ويقول "ان المؤلف يقلل ايضاً من اهمية ضحايا النازية من غير اليهود وكذلك التخلص من المرضى المزمنين والمتخلفين عقلياً والغجر والشاذين جنسياً والشيوعيين والمعارضين السياسيين بل كثير من آلاف الألمان العاديين. كما ان غولدهاغن مخطئ في فصله بين العداء للسامية في الرايخ الثالث وما حدث بشكل عام من نقلة اثنية كبيرة في أوروبا حيث كان العداء للسامية جزءاً منها. كما انه يغفل اندماج اليهودي في المجتمع الألماني الذي وصل ذروته عند وصول هتلر الى الحكم وأهم مظاهر ذلك هو نسبة الزواج العالية بين اليهود والألمان". وعالج هذه النقاط المؤرخ البريطاني مايكل برليه بشكل يتفوق كثيراً على غولدهاغن. وأخيراً فان تفسير اعمال الناس العاديين على انها اعمال لاسامية ليس صحيحاً بل لا بد من مراجعة الوثائق من تلك الفترة ودراستها وليس فقط الاعتماد على محاضر المحاكمات في الستينات. وانتقد الكثير من الألمان الكتاب. وقالت مجلة "ديرشبيغل" في احدى مقالاتها عن رأي غولدهاغن بأن الألمان تميزوا بالروح العدائية بأنه كلام في منتهى السخافة ويدل على جهل وخبث وهو عبارة عن ذكرى للمذبحة بطقوس فارغة. انزعج الكثير من المثقفين الألمان مما وضع على غلاف الكتاب بأنه "عمل في منتهى الاصالة والأهمية" كذلك انتقدوه لما كتبه في الفصول الأولى من نقد لمن كتب عن المذبحة قبله حيث سخر منهم وقال عن بحوثهم بأنها لا شيء. وانتقد هؤلاء ايضاً الاستقبال الحافل له والمديح المبالغ فيه الذي اسبغه عليه بعض الصحافيين في الولاياتالمتحدة خصوصاً الذي كتبه روزنتال في صحيفة "النيويورك تايمز". وكان النقد الأكثر شدة هو ذلك الذي وجهته الدكتورة روث بتينابيرن وهي باحثة كبيرة من اصل الماني تعمل في وزارة العدل الكندية كخبيرة في تاريخ الحرب والاجرام ضد الانسانية. وكانت هذه الباحثة ساعدت غولدهاغن في بحثه كما انه شكرها في مقدمة كتابه ونشرت نقدها في المجلة التاريخية لجامعة كمبريدج عند مراجعتها للكتاب. وجاء في نقدها بأن غولدهاغن لم يلتزم طريقة البحث العلمي في عرضه وفي استعماله للمصادر اذ استعملها بشكل انتقائي منحاز كما انه اخذ افكار الآخرين وأعطاها تفسيراً ملتوياً - وهي هنا ربما تشير الى كتاب ستيفن براوننغ Ordenary Men الذي تحدث عن موضوعات ذكرها غولدهاغن. وكان كتاب براوننغ صدر قبل اربع سنوات من كتاب غولدهاغن - وتقول روث بيرن بأن غولدهاغن يحوك شبكة من الخيالات وكتابه يذكرنا برواية تاريخية سيئة. فهو أهمل الحديث عن ضحايا النازية من غير اليهود وقتل اليهود من قبل غير النازيين. وتقول انه عندما يتحدث عن الشراسة الفريدة للألمان مع اليهود فانه يتساهل مع مواطني اوروبا الشرقية الذين تعاونوا مع النازية وقاموا بأعمال شرسة. كما انه له نظرته الخاصة للتاريخ، اذ ينظر الى تاريخ المانيا من خلال المذبحة وكل شيء له علاقة بذلك يدخل ضمن ذلك طبقاً لمنطقه. وهو يلغي ضرورة التفكير الدائم لدى الناس حول الخطأ والصواب من وجهة النظر الاخلاقية. اذ لو قلنا بأن الألمان مخلوقون وفي طبيعتهم العداء لليهود فاننا نجردهم من كل المقاييس الأخلاقية المعروفة وطبقاً لهذا المنطق فاننا نبرئ غير الألمان الذين ارتكبوا مذابح ضد اليهود. ورد غولدهاغن بعنف - في مقالة طويلة في مجلة المانية - على نقد بيرن واتهمها بخرق قواعد النقد العلمي بشكل منظم وانها حرّفت افكاره كما انه اتهمها بشكل غير مباشر بالعداء للسامية. ولم يكتف بالرد على نقد بيرن وانما اتخذ خطوة لم يعهدها عالم الاكاديميين اذ طلب من محاميه اتخاذ اجراءات ضد بيرن وتعويضه عن الضرر الذي سببته له لتشويه سمعته والاساءة اليه كما قال. وطلب من محاميه كذلك ان يطلب من بيرن التوقف عن نشر اي شيء في المستقبل يتعلق بكتابه. وانتقد اكاديميون ما قام به غولدهاغن واعتبروه خرقاً للتقاليد الجامعية بل ان بعضهم اعتبر ما قام به غولدهاغن على انه ارهاب فكري يعطل البحث العلمي ويعيقه. ومن الناقدين ايضاً نورمان فنكلشتاين - وهو محاضر في جامعة نيويورك - وقال عن الكتاب بأنه لا قيمة له في مجال البحث العلمي وردّ على مؤلف الكتاب بأنه لم يكن هناك هجوم عام شعبي على اليهود في المانيا قبل وصول النازية كما انتقد ما سماه بپ"صناعة المذبحة" وقال ان كل سيرك يحتاج الى مهرج وان سيرك المذبحة وجد المهرج في شخص غولدهاغن. وردّ الأخير على فنكلشتاين واعتبره محرفاً لآرائه ومنتدياً عليه وانه اعطى فكرة خاطئة عن الكتاب بسبب عدائه للصهيونية. وفنكلشتاين يهودي معروف بعدائه للصهيونية وان والديه نجوا من المذبحة النازية. وأول ما برز اسم فنكلشتاين عندما ردّ على كتاب جوان بيترز المعنون From the time Immomrial التي حاولت ان تثبت فيه ان ليس للفلسطينيين حق في فلسطين وأن البلد كان خالياً من السكان عندما استوطنه اليهود. وكتب فنكلشتاين كتابين عن القضية الفلسطينية احدهما The rise and fall of palestine والثاني Image and reality of the Israel - palestines conflict. وهو في هذا الكتاب يحمل الاسرائيليين بشكل جمعي مسؤولية ما تقوم به حكومتهم من خرق لحقوق الانسان في الأراضي المحتلة ويقول كذلك بأن حرب الارهاب التي تشنها اسرائيل ضد الفلسطينيين تسيء الى ذكرى مذبحة اليهود على يد النازية. وصدر نقد روث بيرن ونورمان فنكلشتاين لكتاب غولدهاغن حديثاً في كتاب بعنوان: A nation on Trail: The Goldhagen thesis and Historical truth ونشرته دار المانية في نيويورك، وكانت هناك محاولات من قبل بعض الجمعيات اليهودية لمنع نشر هذا الكتاب. فقد كتب آلان شتاينبرغ من "المؤتمر اليهودي العالمي" الى الناشر وقال ان هولت ناشر الكتاب يمكنه ان ينشر أية نفاية لكنه يجب ان يعرف بأن المؤلفين هما مؤلفا نفاية كما انه قال عن فنكلشتاين بأنه معاد معروف للصهيونية وذو مؤهلات علمية مشكوك فيها وانتقد روث بيرن كذلك. وكتب ابراهام فوكسمان رئيس "الرابطة اليهودية ضد التشهير" الى ناشر الكتاب وطلب منه عدم نشره وقال عن فنكلشتاين بأنه شخص متهم ومعروف بعدائه للصهيونية "وهو ما لا يؤهله على الاطلاق ان يكتب عن المذبحة" وقال بأنه يتساءل لماذا يلجأ ناشر معروف الى مؤلفين غير معروفين احدهما شديد العداوة للصهيونية. وكذلك كتب رئيس "رابطة الدفاع اليهودية" الى الناشر رسالة تحضّه على عدم نشر الكتاب. واحتج "المؤتمر الكندي اليهودي" على مشاركة روث بيرن - بصفتها موظفة في الحكومة الكندية - لفنكلشتاين الذي يعتبره المؤتمر عدواً لاسرائيل. وتحت ضغط اليهود في كندا اضطرت وزارة العدل الكندية ان تباشر التحقيق في اتهام روث بيرن بالعداء للسامية وكانت بيرن برئت في العام الماضي من هذه التهمة. وتقول بأنها اصبحت هدفاً للنقد منذ نشرها مراجعة لكتاب غولدهاغن وإن تهمة العداء للسامية ستبقى معها الى الأبد. وكل هذه الاحتجاجات لم تثن الناشر عن نشر الكتاب اذ قال ان الكتاب نقد شرعي لكتاب غولدهاغن. وكتب فنكلشتاين مقالة بعد ظهور كتاب A nation on trail عنوانها "تأملات في ظاهرة غولدهاغن" قال فيها ان الدراسات حول المذبحة تنقسم الى قسمين احدهما "دراسات علمية" والآخر "دراسات ادبية" ويندرج تحت القسم الأول الدراسات العلمية الاصيلة التي تهدف الى العثور على الحقيقة اما القسم الثاني فهو دعاية صهيونية هدفها اضفاء صورة الاستشهاد الابدية وابعاد النقد لاسرائيل بعد احتلالها للأراضي الفلسطينية عام 1967. وهو يضع غولدهاغن في القسم الثاني ويعتبره مؤدلجاً للمذبحة ويقول "انني أراه شيئاً مهيناً ان يستغل عذاب والدي ويساء له بهدف "اجندة" ايديولوجية سياسية". وقال بأن المدافعين عن غولدهاغن يستغلون افكاره لرفض كل نقد ضد اسرائيل ويعتبرونه لاسامية مقنعة. واعتبر بعض اليهود افكار فنكلشتاين هذه تصل الى حد نكران المذبحة بل ان البعض اعتبرها افكاراً ضد السامية. واستغرب فنكلشتاين من ذلك وقال "كيف اتهم بذلك وأبويّ كانا من الناجين من المذبحة". كما هاجم فنكلشتاين منتقديه في مقابلة حديثة مع مجلة الآداب البيروتية العدد 5/6/1998. وجاء فيها قوله "لقد عملوا طوال الخمسة عشر عاماً الماضية على ان ابقى خارج الطيف وأنا الآن في وسط هذا الطيف. وهم لا يعرفون ماذا سيفعلون حيال ذلك، كما ان هناك اسبابا اخرى تجعلهم يلاحقونني اولها انني اهاجم اطروحة غولدهاغن وثانيها - وهو مؤسّس - انهم قالوا عن غولدهاغن عندما نشر كتابه "قتلة هتلر المتطوعون" انه اعظم كتاب ظهر منذ امد بعيد وربطوا سمعتهم بسمعته، فإذا سقط غولدهاغن فانهم ايضاً يسقطون. وثالثها سبب شخصي اذ عندما يثبت بأن ما اكتبه صحيح فان مصداقيتي العلمية تتأكد وهم بهذا يخسرون مرتين، ترتفع سمعتي وتسقط سمعتهم ولذلك كانوا مصممين على ايقاف نشر الكتاب. كما انهم هاجموا الدكتورة روث بيرن التي شاركتني في تأليف الكتاب وهم الآن يسعون الى طردها من عملها في كندا وكنت حذرتها منذ البداية ولكنها لم تكن تعتقد انه من المعقول ان يحدث ما حدث لها الآن. ويبدو ان النقاش حول افكار غولدهاغن سوف لا يتوقف في المستقبل القريب ما دام هناك معارضون لهذه الافكار ورافضون لها. * باحث عراقي. - الكاتب: دانيا غولدهاغن - الكتاب: قتلة هتلر المتطوعون الألمان العاديون والمذبحة - 640 صفحة، لندن 1997، الطبعة الشعبية