يقوم النسيج المجتمعي السليم على أن لكل انسان كرامة وحقوقاً تفرضها هذه الكرامة. ولعل اهم بعد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يكمن في تبني هذا الإنجاز عالمياً عام 1948. فأين صار هذا الإعلان اليوم؟ وكيف تتخفف الولاياتالمتحدة من تبعات اتفاقيات جنيف إذ تعتبر الأسرى الأفغان العرب وغير العرب "مقاتلين غير شرعيين" لا يصح النظر إليهم كأسرى حرب؟ في عامي 1948 - 1949، سعت البشرية الخارجة من اكبر حرب دمار كونية الى فتح صفحة جديدة في حقوق الإنسان ايام السلم وفي القانون الإنساني الدولي في زمن الصراعات المسلحة. وجاءت اتفاقيات جنيف الأربعة، كتتويج لآلام ملايين الضحايا الذين قضوا في معسكرات الاعتقال الجماعي، تحت التعذيب كأسرى حرب أو في مراكز المختبرات الطبية النازية كحيوانات تجربة. وكون البشرية فشلت في تحريم الحرب، فقد قبلت بعقد اجتماعي اخلاقي يخفف من ويلاتها على البشر. هذا العقد لم يلبث ان تم اختراقه في اكثر من مناسبة. ولكن، كان الاختراق في كل مرة فرصة لتحسين النصوص والخروج ببروتوكول مكمل هنا وملحق توضيحي هناك. هكذا جاء البروتوكولان الأول والثاني لاتفاقيات جنيف الأربع الموقعان في 1974 و1977 ليسدا ثغرات في هذه الاتفاقيات. مع استمرار اشكال الانتهاك الجسيمة لحقوق البشر في ظل الأعمال المسلحة، جرى عمل لتوسيع مفهوم جريمة الحرب والجريمة ضد الإنسانية تجاوز بكثير تجربة محكمتي نورنبورغ وطوكيو الاستثنائيتين. فتشكلت المحكمة الجنائية الدولية ad hoc ليوغوسلافيا السابقة ورواندا قبل التوصل الى اقرار النظام الأساس لمحكمة جنائية دولية في روما عام 1998. لكن، هل تكفي النصوص الحقوقية لانعتاق البشر من تلك الرغبة الجهنمية في الانتقام؟ وإذا أوقفت شعارات الطلاب واليساريين الأميركيين حرب فيتنام بعد مجزرة ماي لاي ومآسي تلك الحرب، هل هي قادرة على إرجاع صدى صرخات النساء الأميركيات وقتها: Never again في حروب القصف الأحادي الجانب التي تميز حقبتنا؟ لم يكن في وسع الجيل المصاب في فيتنام ان يتصور انه منذ مطلع كانون الأول ديسمبر 2001 لم يعد المرء في حاجة الى التوجه الى متحف الإنسان في ساحة التروكاديرو في باريس ليرى التصاوير المعروضة لإنسان العصر الحجري: وجه شاحب مكبّل، لحية مطلقة العنان، شبه ملابس من شبه انسجة، لا اسم ولا جنسية ولا هوية، مع او من دون عصا تساعد الجريح الخارج من كهوف القرون الوسطى على السير. لم يخطر في بال جيل رفض الحرب ان ضابطاً في الاستخبارات المركزية سيكون شاهد عيان على مجزرة قلعة جانغي وأن يدفع حياته ثمناً لشهادته، وأن الولاياتالمتحدة ستقتاد أسرى الحرب ملثمين، مقيدين بالأصفاد، يرتدي حراسهم الكمامات خوفاً من السل الذي يرتع في صدور المحتجزين الخارجين عن التعريفات المألوفة إذ يرفض السيد رامسفيلد اعطاءهم صفة اسرى حرب؟ ها نحن في مطلع القرن الحادي والعشرين نعود بكل بساطة الى ما قبل عام 1899 على يد القوة العظمى على سطح البسيطة اليوم. قالت لي مسؤولة كبيرة في لجنة الصليب الأحمر الدولي: "لا أظن ان السيد وزير الدفاع الأميركي يجهل المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الثالثة" اما البروفسور لويجي كوندوريللي من جامعة جنيف فيقول: "تشكل المقاربة الأميركية انتهاكاً صارخاً للقانون الإنساني الدولي. فهي تترك الاحتمال مفتوحاً، من الناحية النظرية، لاتهام هؤلاء المحاربين مثلاً، بإطلاق النار على الجنود الأميركيين، في حين لا يمكن توجيه تهمة لهم كهذه إن كانوا محميين باتفاقية جنيف الثالثة". والحقيقة ان المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الثالثة، المكونة من خمسة عشر مقطعاً قانونياً، تضع في نطاق أسرى الحرب أفراد القوات المسلحة والميليشيات والوحدات المتطوعة ومن يرافقهم أو يواليهم حاملاً السلاح من اية مجموعة منظمة ذات قيادة. ولإزالة اللبس حول بعض التعابير، جاءت المادتان 43 و44 من البروتوكول الملحق الأول لتوضحا هذه المسألة اكثر، فهما تنصان على: المادة 43- 1 تتكون القوات النظامية المسلحة لطرف النزاع من القوات المسلحة والمجموعات والوحدات النظامية كافة التي تكون تحت قيادة مسؤولة عن سلوك مرؤوسيها، وإن كان ذلك الطرف ممثلاً بحكومة أو بسلطة لا يعترف الخصم بها. ويجب ان تخضع مثل هذه القوات المسلحة لنظام داخلي يكفل في ما يكفل اتباع قواعد القانون الدولي التي تطبق في النزاع المسلح - 2 بعد افراد القوات المسلحة لطرف النزاع عدا افراد الخدمات الطبية والوعاظ الذين تشملهم المادة 33 من الاتفاقية الثالثة مقاتلين، بمعنى ان لهم حق المساهمة المباشرة في الأعمال العدائية- 3 إذا ضمت القوات المسلحة لطرف في نزاع هيئة شبه عسكرية مكلفة يفرض احترام القانون وجب عليه إخطار اطراف النزاع الأخرى بذلك. المادة 44- 1 يعد كل مقاتل ممن وصفتهم المادة 43 أسير حرب إذا ما وقع في قبضة الخصم - 2 هذه الأحكام لا تحرم المقاتل حقه في ان يعد مقاتلاً، أو ان يعد اسير حرب إذا ما وقع في قبضة الخصم، وذلك باستثناء ما تنص عليه الفقرتان الثالثة والرابعة من هذه المادة - 3 يلتزم المقاتلون، إزكاء لحماية المدنيين ضد آثار الأعمال العدائية، ان يميزوا انفسهم عن السكان المدنيين اثناء اشتباكهم في هجوم او في عملية عسكرية تجهز للهجوم. أما وهناك من مواقف المنازعات المسلحة ما لا يملك فيها المقاتل المسلح ان يميز نفسه على النحو المرغوب، فإنه يبقى عندئذ محتفظاً بوصفه كمقاتل شريطة ان يحمل سلاحه علناً في مثل هذه الظروف: أ اثناء اي اشتباك عسكري، ب طوال الوقت الذي يبقى خلاله مرئياً للخصم على مدى البصر اثناء انشغاله بتوزيع القوات في مواقعها استعداداً للقتال قبيل شن هجوم عليه ان يشارك فيه، ولا يجوز ان تعتبر الأفعال التي تطابق شروط هذه الفقرة من قبيل الغدر في معنى الفقرة الأولى ج من المادة 37 - 4 المقاتل الذي يقع في قبضة الخصم، من دون ان يكون قد استوفى المتطلبات المنصوص عليها في الجملة الثانية من الفقرة الثانية، يخلّ بحقه في ان يعد أسير حرب، لكنه يمنح - على رغم ذلك - حماية تماثل من النواحي كافة تلك التي تضيفها الاتفاقية الثالثة وهذا البروتوكول على أسرى الحرب. تشمل تلك الحماية ضمانات مماثلة لتلك التي تضيفها الاتفاقية الثالثة على أسير الحرب عند محاكمة هذا الأسير أو معاقبته على جريمة ارتكبها - 5 لا يفقد اي مقاتل يقع في قبضة الخصم، من دون ان يكون مشتبكاً في هجوم أو في عملية عسكرية تجهز للهجوم، حقه في ان يعد مقاتلاً أو أسير حرب، استناداً الى ما سبق ان قام به من نشاط - 6 لا تمس هذه المادة حق اي شخص في ان يعد اسير حرب طواعية للمادة الرابعة من الاتفاقية الثالثة - 7 لا يقصد بهذه المادة ان تعدل ما جرى عليه عمل الدول المقبول في عمومه بشأن ارتداء الزي العسكري بمعرفة مقاتلي طرف النزاع المعنيين في الوحدات النظامية ذات الزي الخاص - 8 يكون لأفراد القوات المسلحة كافة التابعة لطرف في نزاع، كما عرفتهم المادة 43 من هذا البروتوكول، وذلك إضافة الى فئات الأشخاص المذكورين في المادة 13 من الاتفاقيتين الأولى والثانية، الحق في الحماية طبقاً لتلك الاتفاقيات إذا ما أصيبوا أو مرضوا أو - في حالة الاتفاقية الثانية - إذا ما نكبوا في البحار أو في اية مياه اخرى". كان من الضروري إظهار هذا النص، لتوضيح البعد اللاقانوني للقرار الأميركي. لكن، لماذا تصر الولاياتالمتحدة على رفض صفة أسرى الحرب للطالبان والأفغان غير الأفغان من العرب والكرد والشيشان وغيرهم؟ من المعروف ان الولاياتالمتحدة صوتت ضد النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية في العاصمة الإيطالية. وهي إن وقعت في الساعة الأخيرة من عام 2000 على النص، لم تصدّق حتى اليوم على قيام المحكمة التي لم تجد بعد النصاب القانوني لقيامها، وذلك حماية لمجرمي الحرب الأميركيين، ولكي تتمكن من محاكمة مجرمي الحرب غير الأميركيين، تحتاج الإدارة الأميركية الى نقلة نوعية في القضاء على صعيد الولاية الجنائية العالمية أو ما يسمى بالاختصاص العالمي. الأمر الذي يشكل سلاحاً ذا حدين يمكن عبره محاكمة ليس فقط الملا عمر وإنما ايضاً هنري كيسنجر ودونالد رامسفيلد، لكن كون الإرادة الأميركية ما زالت تعتبر نفسها فوق المحاسبة وخارج موضوعة العقاب، فقد خرجت علينا بمصطلح غير موجود في القانون الإنساني الدولي المحاربون غير الشرعيين لكي تتمكن من تحويل اسرى الحرب في افغانستان الى محاكم عسكرية استثنائية، إذ يعفيها ذلك من التزامين اساسيين: الأول، إطلاق سراح أسرى الحرب عند انتهاء الأعمال العدوانية، عملاً باتفاقيات جنيف في حال غياب الأدلة على تورطهم في جرائم حرب او جرائم ضد الإنسانية. الثاني، احترام التحقيق مع الأسير الذي يمنع السلطات الأميركية العسكرية من اجراء اي استجواب لأسرى افغانستان أثناء فترة احتجازهم. هذا في المدى القريب، اما في المدى البعيد، فإن الولاياتالمتحدة تستطيع البقاء خارج منظومة الحقوق الإنسانية في كل ما يتعلق بالجرائم الكبرى الى أبعد حد ممكن تأجيل قيام محكمة جنائية دولية قدر الإمكان وعدم دخول هكذا محكمة حيز الفعل داخل الولاياتالمتحدة لسبع سنوات بعد قيامها. من هنا، يتعدى الحداد على القتلى امهاتهم وأسرهم ليشمل المدافعين عن الحقوق الإنسانية والقانون الإنساني الدولي. فهم يشهدون بأم أعينهم وفي وضح النهار عملية اغتيال المبادئ التي دافعوا عنها باسم "التمدن والحرية ومناهضة الإرهاب". في رسالة وجهها السيد كوفي انان، الأمين العام للأمم المتحدة، الى الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، تعهّد انان بتشكيل لجنة لحقوق الإنسان حول افغانستان. وأوضح في الرسالة المذكورة ان اللجنة المزمع تشكيلها لن يكون في وسعها ان تحقق بشكل فاعل في واقعة قلعة جانغي "إلا بعد مرور بعض الوقت". هل هو الوقت الذي تنتهي فيه عملية تسلم قوات تحالف الشمال الفديات المالية للأسرى الموجودين في سجونهم؟ أم ذلك الذي تصل فيه قاعدة غوانتانامو الى درجة استيعابها القصوى 2000 سجين في مساحة 117 كيلومتراً مربعاً؟ لقد أحصت مراسلة صحيفة "الغارديان" اكثر من ستين جثة في فناء قلعة جانغي ايديهم مربوطة الى الخلف. ولم تتمكن اية منظمة انسانية حتى اليوم من احصاء عدد زوجات وأطفال المقاتلين العرب الذين ترفض معظم الأقطار العربية عودتهم الى بلدانهم. على رغم ان القانون الإنساني الدولي والشريعة الإسلامية يتفقان على ان لا تزر وازرة وزر اخرى. بعد ايام من الحرمان من الماء والطعام، لم يعد يصدر عن المقاتلين العرب الستة المتحصنين في مستشفى ميرويس في قندهار ما يدل على انهم على قيد الحياة، ثم جرى اقتحام المستشفى اثناء أو بعد سماع انفجار يؤكد موتهم. وبذلك لن يتمكن مقاتلو القبائل البشتونية من اخذ فدية مالية عند تسليمهم للجيش الأميركي او استبدالهم بأسرى باكستانيين من البشتون. هل يمكن ان نتحدث عن حق الناس في الأمل في غياب حق الإنسان في الكرامة؟ * كاتب سوري مقيم في باريس وناشط في "اللجنة العربية لحقوق الإنسان".