توجه إلى تركيا الأسبوع الماضي بول وولفوفيتز، نائب وزير الدفاع الاميركي، ليمارس الضغط على الاتراك كي ينضموا الى اميركا في حربها ضد بغداد. وكان وولفوفيتز، الصهيوني المتطرف الوثيق الصلة بأرييل شارون أول من نادى بالحرب على العراق منذ الهجمات الارهابية في 11 ايلول سبتمبر 2001. وعلى رغم تأكيد كوفي انان الأمين العام للأمم المتحدة أن العراق يبدي تعاوناً تاماً مع مفتشي الأسلحة، فإن وولفوفيتز وغيره من الصقور في واشنطن لم يفقدوا الأمل بأن يمنحهم صدام حسين الذريعة لسحقه والسيطرة على العراق، فيما يستمر الحشد العسكري الاميركي في المنطقة بخطى محمومة. لكن مهمة وولفوفيتز في أنقرة كانت محدودة النجاح: أجل وافقت تركيا على تقديم الدعم اللوجيستي لأميركا، خصوصاً استخدام القواعد الجوية، لكنها طلبت بالمقابل ضمانات وتعويضات مالية، وألحت على تبني وجهة النظر الأوروبية القائلة إن أي لجوء الى استخدام القوة ضد العراق لا يمكن ان يكون آلياً وتلقائياً بل لا بد ان يكون مستنداً الى قرار جديد من مجلس الأمن. الواقع ان تركيا تجد نفسها في وضع حرج. فالحكومة الجديدة لتركيا المسلمة والتي ألّفها حزب العدالة والتنمية الفائز في الانتخابات الأخيرة، تريد التبادل التجاري مع العراق لا أن تحاربه. فهي تقول إنها خسرت 38 بليون دولار خلال الاثنتي عشرة سنة التي فرض خلالها الحصار على العراق. يضاف الى ذلك ان الرأي العام في تركيا يعرف تماماً مدى ما يعانيه الشعب العراقي من ظلم ويعارض الحرب. لكن تركيا لا تستطيع رفض المطالب الاميركية. فهي كعضو قديم في حلف الاطلسي شريك تام في خطط واشنطن العسكرية. أضف الى ذلك ان الجنرالات الأتراك أقاموا علاقات وثيقة مع الصناعات الحربية الاسرائيلية خلال السنوات الست الماضية، ويدركون مدى حرص اسرائيل على ان تشن اميركا حربها على العراق. وفي مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها تعتمد تركيا اعتماداً حيوياً على المساعدة المالية التي يقدمها لها صندوق النقد الدولي. وهي، من ناحية اخرى، مدينة لأميركا في المساعي التي تبذلها كي تنضم الى الاتحاد الأوروبي... لذلك نجد هذا البلد يسير على الصراط في مواجهة الضغوط المتناقضة. هل تركيا جزء من أوروبا؟ عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي هي الهدف السياسي الأول لحكومتها الجديدة. وهي تنتظر بلهفة نتائج القمة الأوروبية في كوبنهاغن هذا الاسبوع، وتأمل بأن تسفر عن تحديد موعد لبدء التفاوض. ومن المعلوم ان أولى مهمات هذه القمة الموافقة على انضمام عشرة اعضاء جدد إلى الاتحاد بحيث يصبح عدد الدول الأعضاء 25 بدلاً من 15 وذلك في عام 2004. غير ان مشكلة الانضمام التركي الى الاتحاد قفزت الى مقام البند الأول في جدول الأعمال السياسي للقمة، إذ جال رجب طيب اردوغان زعيم "حزب العدالة والتنمية" على العواصم الأوروبية يحضها على قبول طلب بلاده، وأقنع زعماء أوروبا بأن انتصار حزبه في الانتخابات يشير الى بداية جديدة في تركيا. فهناك توافق واسع بين رجال الأعمال الأتراك واتحادات العمال ومنظمات المجتمع المدني على ضرورة المضي في الاصلاحات الاقتصادية والسياسية استعداداً للانضمام الى الاتحاد الأوروبي. يضاف الى ذلك ان الحكومة الجديدة ألغت حال الطوارئ ومنحت مزيداً من الحرية للأتراك من أصل كردي. اما إذا رفض الاتحاد الأوروبي الطلب التركي فستعود القوى الوطنية الى الظهور وتصبح أهداف اردوغان الاصلاحية أصعب منالاً. تدرك تركيا أنها قد تضطر الى الانتظار عشر سنين، وربما خمس عشرة سنة لتصبح عضواً تام العضوية في الاتحاد، لكنها تريد من الأوروبيين أن يضعوا جدولاً زمنياً واضحاً للمفاوضات بحيث تطمئن إلى أنها ستدخل النادي الأوروبي. انه طموح مشروع نظراً إلى كون اللجنة الأوروبية قبلت منذ ثلاث سنوات مبدأ ترشيح تركيا لعضوية الاتحاد. لكن اردوغان يدرك أن تركيا تسبح ضد تيار من المعارضة. وتلقت أخيراً صفعة أليمة حين نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية تفاصيل مقابلة مع جيسكار ديستان الرئيس الفرنسي السابق قال فيها بصفاقة: "تركيا ليست بلداً أوروبياً، انها دولة قريبة من أوروبا، دولة مهمة وفيها نخبة أصيلة، لكنها ليست أوروبية، فعاصمتها ليست في أوروبا، و95 في المئة من سكانها يعيشون خارج أوروبا. وبمجرد بدء المفاوضات مع تركيا سيطالب المغرب بالانضمام الى الاتحاد... وهذا في رأيي يعني نهاية الاتحاد الأوروبي". لا شك في أن رأي ديستان له وزنه نظراً إلى كونه يرأس حالياً مؤتمراً غايته وضع دستور لأوروبا. وبدا أخيراً كرجل دولة أوروبي بارز ومحنك ذي دور رئيسي في موضوع التوسع الأوروبي. أجل هنالك العديد من الدول الأوروبية التي نددت بآرائه، بما فيها فرنسا، لكن ذلك لا يمنع كونه يمثل تياراً قوياً في الرأي العام الأوروبي المتخوف من ان تغمره نسبة السكان المتزايدة في تركيا البالغ عددهم حالياً 70 مليوناً، والمتخوف ايضاً من هويتها الاسلامية. وقد تضطر تركيا في قمة كوبنهاغن، هذا الاسبوع الى الاكتفاء بعبارات الدعم من الزعماء الأوروبيين، من دون ان تحصل على التزام حازم بموعد لبدء المفاوضات. وهنالك أمور تتوقف على القرار الأوروبي وتترتب عليه: - هنالك أولاً موضوع الاستقرار في تركيا الذي سيتأثر كثيراً اذا نجمت عن القرار الأوروبي زعزعة مسيرة الإصلاح الداخلي. ثانياً، زعزعة الاستقرار قد تمتد الى العلاقات التركية - اليونانية التي تحسنت قليلاً أخيراً، وان كان هذا التحسن بعيداً عن الترسخ. فالآمال بالأمن شرق المتوسط معقودة على اقامة علاقات عمل وثقة بين اليونان وتركيا اللتين أوشكتا على الصدام الحربي مرتين خلال العقد الماضي. ثالثاً، إذا رفضت أوروبا قبول تركيا لن يكون بإمكان الأخيرة ان تلعب دور الجسر بين الاسلام والغرب. وهذا يدعو للأسف، في الوقت الذي يسعى أردوغان وزملاؤه - بما لديهم من وعي وتحسس للنزاعات بين الثقافات والحضارات - إلى أن يمارسوا دوراً في تهدئة التوتر الذي احدثته هجمات 11 ايلول. رابعاً، ولعله الموضوع الأخطر، ان هناك ارتباطاً واضحاً بين علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي وموضوع حل المشكلة القبرصية. فمن دون جدول زمني للمفاوضات بين أوروبا وتركيا ستجد الأخيرة صعوبة كبرى في اقناع القبارصة الأتراك وزعيمهم رؤوف دنكطاش بقبول مشروع التسوية الذي قدمه أنان أخيراً في شأن الجزيرة. هل يمكن حل المشكلة القبرصية؟ ومشروع أنان الذي قبله على مضض كل الأطراف المعنية كأساس للتفاوض، يطرح حلاً قائماً على نوع من الفيديرالية والكونفيديرالية للجاليتين التركية واليونانية في قبرص. انه يقترح قيام "دولة مشتركة مؤلفة من دولتين". بمعنى آخر يرمي المشروع الى إرضاء القبارصة اليونانيين وطموحهم في دولة موحدة يشكلون فيها الأكثرية الساحقة، ويأخذ في الاعتبار تفضيل القبارصة الأتراك نوعاً من الانفصال يجعل هذه الأقلية في مأمن من طغيان الأكثرية وقمعها، أو ما هو أسوأ. ان الاتحاد الأوروبي مستعد لقبول جمهورية قبرص، أي قبرص اليونانية بزعامة رئيسها كليريدس، في عداد أعضائه. وأوضحت اليونان أنها ستعارض أي توسع أوروبي اذا لم تقبل عضوية قبرص. لكن رد فعل تركيا قد يكون عدائياًَ جداً اذا لم تحل المشكلة القبرصية أولاً ولم يُقبل مبدأ انضمام تركيا نفسها الى الاتحاد. ولا بد ان هذه المخاوف تراود أذهان كل الأطراف المعنية. الواقع انه قلما واجه المسؤولون والديبلوماسيون مثل هذه المشاكل المتشابكة والمعقدة: النيات العدوانية لأميركا ضد العراق، آمال تركيا بالانضمام الى الاتحاد الأوروبي، طموح أوروبا في مسيرة التوسع والنقاش حول حدودها النهائية، وأخيراً وفوق كل شيء حل مشكلة العلاقات بين القبارصة اليونانيين والأتراك التي أفسدها نصف قرن من النزاع والاقتتال. استأجرت بريطانيا جزيرة قبرص من الامبراطورية العثمانية عام 1878 وحولتها الى مستعمرة تابعة للتاج عام 1914. وعند انهيار الامبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية، طرحت اليونان مطلب التوحيد اينوزيس مع قبرص، في حين طالب الأتراك بإعادة الجزيرة تحت السيادة التركية. إثر ذلك هاجم المتظاهرون في اسطنبول المباني المملوكة لليونان، ودفعت التظاهرات عشرات الآلاف من هؤلاء الى الهروب، وفي عام 1963 جاء دور القبارصة الأتراك ليعانوا الهجمات والمذابح. وبعد عشر سنين، عام 1974، وبعد انقلاب في نيقوسيا نفذه الجنرالات الذين كانوا يحكمون اليونان تحت شعار التوحيد، غزت تركيا الجزيرة القبرصية واقتطعت الجزء الشمالي منها لتقيم فيه جمهورية تركية. اذ ذاك وقعت خسائر جسيمة من الطرفين... ذلك هو الموقف المتأزم اليوم... فهل يستطيع الاتحاد الأوروبي تضميد هذه الجروح القديمة المستديمة؟ كاتب بريطاني متخصص بشؤون الشرق الأوسط.