بيروت، نيروبي - "البيئة والتنمية" - صورة شنيعة لا بد أنها عالقة في أذهان كثيرين: مجرور يفرغ مياهه المبتذلة على شاطئ البحر. وترافق الصورة غالباً رائحة عابقة في الذكرى. فمياه المجارير في المدن الساحلية العربية تصب غالبيتها في البحر من دون أي معالجة، و"البحر يتسع لكل شيء". لكن يبدو أن المناطق الساحلية العربية لا تتأذى من مياه المجاري غير المعالجة بمقدار ما تتأثر بها بقية آسيا وشمال غربي الباسيفيك وأفريقيا الغربية. هذا ما أظهره تقرير لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة يونيب في تشرين الأول اكتوبر الماضي، يبين بالتفصيل الأخطار التي تهدد البيئة والسكان في المناطق الساحلية حول العالم نتيجة تصريف مياه المجاري غير المعالجة. يظهر التقرير أن نحو 40 في المئة من سكان العالم يعيشون في مناطق ساحلية تبعد أقل من 60 كيلومتراً عن الشاطئ. وأكثر من 800 مليون شخص، أي 40 في المئة من سكان السواحل المحرومين من الخدمات، يعيشون على بحار جنوب آسيا. وهؤلاء لا يحصلون على خدمات الصرف الصحي الأساسية، مما يعرضهم لأخطار المرض والموت الناجمين عن مياه المجاري. أما في غرب آسيا، فيبين التقرير أن المناطق الساحلية في الخليج العربي والبحر الأحمر وخليج عدن تتشابه تقريباً في هذا المجال، مع ازدياد عدد السكان الذين يحصلون على خدمات صرف صحي في شكل متناسق مع النمو السكاني في المنطقتين. لكن العدد المطلق للسكان المحرومين من هذه الخدمات ازداد قليلاً خلال العقد الماضي، وبينهم 17 مليوناً في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن. وهناك اتجاه ايجابي في منطقة البحر المتوسط، مع زيادة في خدمات الصرف الصحي خلال السنوات العشر الماضية وانخفاض شامل في عدد المحرومين منها. ولكن ما زال 19 مليون نسمة في بلدان المتوسط العربية يفتقرون الى مرافق صحية محسَّنة. من جهة أخرى، النفايات المنزلية غير المعالجة التي تصرف في المياه الساحلية في جنوب آسيا قد تكون الأعلى في العالم، مما يزيد خطر تلويث المحار والقشريات، وتكاثر الطحالب السامة التي تفتك بالأسماك والحياة البحرية. وتتعرض موائل مهمة، مثل الشعاب المرجانية، لمزيد من الاجهاد نتيجة ارتفاع مستويات "المغذيات" والأجسام العالقة التي تحويها مياه الصرف. ومن أكثر المناطق تعرضاً للملوثات بحار شرق آسيا، حيث 515 مليون شخص محرومون من خدمات الصرف الصحي الوافية. تليها بحار شمال غربي المحيط الهادئ، حيث المحرومون 414 مليوناً. خدمات لجميع سكان العالم بحلول سنة 2025 ان الافتقار الى خدمات الصرف الصحي هو من أكبر الاخطار التي تهدد صحة الانسان. وتقدر التبعات الاقتصادية العالمية للأمراض والوفيات الناجمة عن تلوث المياه الساحلية بنحو 16 بليون دولار سنوياً. لكن هذه المسألة هي أيضاً مسألة بيئية، تؤثر في صحة المياه والحياة والموائل الساحلية، كما تؤثر في موارد رزق صيادي الأسماك والقطاع السياحي. واعتبر كلاوس توبفر، المدير التنفيذي ل"يونيب"، أن ثمة حاجة ملحة الى "بذل الجهود لتقليل المخاطر من خلال الإفادة من القدرات الادارية والمالية للحكومات والسلطات المحلية والمجتمعات المتأثرة وقطاعي الأعمال والصناعة". ففي القمة العالمية للتنمية المستدامة التي عقدت أخيراً في جوهانسبورغ، وافقت البلدان على خفض عدد السكان الذين لا يحصلون على خدمات صرف صحي الى النصف بحلول سنة 2015، ودعم هذه الجهود بزيادة الانفاق عليها. وقال سيس فان دي غوشته، المسؤول عن تنفيذ خطة العمل الاستراتيجية لمياه الصرف البلدية، في البرنامج العالمي لحماية البيئة البحرية من الأنشطة البرية التابع ل"يونيب" والذي يتخذ من لاهاي في هولندا مركزاً له، ان أحد الأهداف الاضافية التي يمكن تحقيقها على المستوى العالمي هو أن يقوم 20 في المئة من المدن الساحلية على الأقل بتنفيذ نظم مستدامة وسليمة بيئياً لتزويد المياه ومعالجة مياه المجاري بحلول سنة 2012. والهدف النهائي هو توفير مياه شرب مأمونة وخدمات صرف صحي مناسبة لجميع سكان العالم بحلول سنة 2025. ويقدر بعض الخبراء أن هذا يكلف 180 بليون دولار سنوياً، أي ضعفين الى ثلاثة أضعاف أكثر من الاستثمارات الحالية في قطاع المياه. قد يبدو هذا الرقم مرتفعاً، يضيف فان دي غوشته، "لكن فوائده من حيث خفض الأمراض والتحسينات الهائلة للبيئة الساحلية والبحرية تعتبر مرتفعة أيضاً". نظم طبيعية للمعالجة لاحظ تقرير "يونيب" أن ازدياد تغطية خدمات الصرف الصحي ومعالجة مياه المجاري في كثير من البلدان النامية قد طمسه ارتفاع عدد السكان. ففي منطقة بحار جنوب آسيا، مثلاً، استفاد 220 مليون شخص من تحسين خدمات الصرف الصحي خلال الفترة 1990 - 2000. لكن عدد السكان ازداد 222 مليوناً خلال الفترة ذاتها، فبقي 825 مليوناً بلا خدمات صرف صحي مقبولة، وبقيت ألوف الكيلومترات من الخط الساحلي تعاني من التلوث. وفي منطقة شرق افريقيا، ارتفع عدد السكان الذين لا تصلهم خدمات الصرف الصحي الأساسية بمقدار الضعفين خلال العقد الأخير، فبلغ 19 مليوناً. في بعض المناطق، قد تكون هناك حاجة الى أنظمة لمعالجة مياه الصرف الصحي تشبه الأنظمة الموجودة في اوروبا والولايات المتحدة. لكن هناك أيضاً الكثير من التقنيات البديلة ذات التكاليف المتدنية. وهذه تشمل الصرف الجاف والنظم الطبيعية لترشيح مياه المجاري، مثل برك الترسيب ومستنقعات القصب وأشجار القرم المنغروف، اضافة الى إمكانات اعادة استخدام المياه المعالجة واعادة تعبئة خزانات المياه الجوفية. يقول فان دي غوشته: "هذا يتيح للبيئة مزايا مضاعفة: فالكثير من مستنقعات القرم والقصب، التي تعتبر موائل مهمة للحياة الفطرية كالطيور والأسماك، يجري إخلاؤها وتجفيفها لاستغلالها في الزراعة أو أغراض أخرى. واذا أدرك مزيد من الناس أهميتها كنظم طبيعية لمعالجة المياه العادمة، فسيؤدي ذلك الى المحافظة على المزيد منها، من أجل فوائدها الاقتصادية والصحية، ومن أجل أهميتها للطبيعة والحياة الفطرية". ينشر في وقت واحد مع مجلة "البيئة والتنمية"، عدد كانون الأول/ديسمبر 2002.