أثارت السيارة التي توقفت عجّة في المكان. توقف الأولاد عن اللعب محتارين في من سينزل من السيارة. نزل رجل طويل القامة، يمسك بيده حقيبة سوداء، ومشى في اتجاه أحد البيوت، دون أن يفلت من العيون التي تراقبه. قال أحد الأولاد: - هذا هو الدكتور... أسرع الأدهم مجارياً خطوات الرجل. عندما أصبح بمحاذاته تفحص وجهه وقال: - هل صحيح أن اسمك الدكتور؟ أنا اسمي الأدهم. تشرفنا. ومد يده، فمد الطبيب يده إلى الحقيبة، ونقلها إلى اليد الأخرى. تراجعت خطوات الأدهم إلى الوراء، وتمنى ألا يكون أصدقاؤه رأوا ما حدث، إلا أن ضحكاتهم زلزلت الأرض من تحته، فعرف أنهم كانوا يتابعون كل شيء. فر هارباً من وجوههم. راودته فكرة جهنمية أيدها على الفور: أن يفتح رأس "الدكتور" بحجر، حال خروجه من الدار. أعد الخطة جيداً: يصعد إلى سطح الدار والحجر ينتظر عند قدميه. حجر مدبب من ثلاث زوايا. لن يخطئ الهدف حال أن يطل "الدكتور" برأسه من الباب. وقف على السطح، صاح على الأولاد: - راقبوا من عندكم ما سيحدث. دبّ خوف مفاجئ في قلبه، عندما سمع أباه يقول: - تفضل دكتور. لاحظ الأولاد الذين انتشروا حول الدار، وتجمع بعضهم عند النوافذ، وسرعان ما سمع أمه تصيح: - انصرفوا يا أولاد. تأكد له أن الطبيب في دارهم. بدا باب الدار بعيداً وهو يركض نحوه. تمنى أن يسمع كلمة واحدة، ليعرف ماذا يجري في الداخل. لم يسمع إلا صرخة تبعتها سلسلة صرخات شلّت ركبتيه. ذهل من عدد النسوة اللواتي ظهرن فجأة أمام الدار، يصحن، ويضربن صدورهن ويصفعن وجوههن، كأنهم كن ينتظرن إشارة لأداء هذا الدور. كان يظن أنهن سيذهبن ما ان يتممن التمثيلية المرعبة التي يؤدينها، إلا أنهن لم يتزحزحن من أماكنهن. عرفهن واحدة واحدة، حفظ وجوههن، ولن يسامحهن على ما فعلنه به ما بقي حيّاً. هرعت نسوة أخريات، كدن يدسنه. بصعوبة خلّص جسده من بينهن. عبر إلى مسمعه "ماتت مخزية من الفضيحة، نقطة دم على المخ". حدسه يقول إنها جدته. كانت تحكي له حكايات "حديدون والغولة"، وتجلب له "حامض حلو" من الدكان. تذكر لحظة خرج من الدار. كانت تتناول فطورها. ماذا حصل بعد؟ فاجأه الصوت: - إبتعد عن البئر يا ولد. قال رجل آخر: - هذه البئر تخطف الصغار. إبتعد يا ولد. لم يثر هذا الكلام خوفاً لديه. بل أثار فضولاً طارئاً، واتخذ قراراً سريعاً بفتح غطاء البئر. أمسك بالمقبض الحديد، وقبل أن يرفعه، اللحظة التي تسبق هذه تحديداً، اختطفته يدان غليظتان وهربتا به. لم يفق إلا على صوت أمه وهي تؤنب ريمون ابو فرخة على ما فعله. رجته أن يشرب الماء الطارد للخوف من "طاسة الرجفة"، توسلت إليه: - مشان الله يمّا، جرعة واحدة. وقبل أن يقفز من حضنها، دلقت بعض الماء في حلقه فتشردق به، واسود وجهه. هرع إلى الخارج وهو يقح ويرتجف، كمن أصابه مس شيطاني، وهي تتمتم وراءه "اسم الله عليك يمّا". رجع إليها، دسّ رأسه في حضنها، وانهار باكياً. عندها عرفت أنه بال في بنطاله. لم يقل لها ذلك صراحة، لكنها فهمت من حركة قام بها، واكتفت بأن أخذته إلى الغرفة الأخرى وبدلت له ملابسه دون أن تجعل أحداً يلاحظ ذلك. ظن الأدهم أن القصة انتهت عند هذا الحد. لم يعرف كيف التقط الأولاد الخبر، وصاروا يلقبونه فيما بعد "أبو رطّة"، ويرددون خلال اللعب: "أدهم صغير... نط في البير... طلعوا عليه كل الدبابير". كان يعود إلى البيت مطاطأ الرأس مكسور الخاطر، وهو يمسح دموعه، ومخاطه يتدلى من منخاريه مثل الدودة الشريطية. أصبح يحب اللعب مع فارس الذي يكبره بعامين. عندما خطر في بال الأدهم أنه كان هنا منذ قليل، وأن أحداً اختطفه وهرب به، انتابه رعب هائل. على أي حال، لم تختطفه البئر كما حذروه، ولم ينزل بها إلى العتمة، حيث الأفاعي والسحالى. نظر إلى فارس، دون أن يسمع شيئاً مما قاله، ثم أصغى لما أردف به: - تخيل يا أدهم، لو رموا جدتك في هذه البئر فإنها لن تخاف ولن تتوجع. رد الأدهم وهو ينظر إلى داخل البئر: - من يجرؤ أن يرميها؟ سأرميه قبلها. ضحك فارس، وقال الأدهم بصوت عال: - أنت مجنون. قال فارس: - أنظر... كل هؤلاء الناس الذين يبكونها، هم الذين سوف يرمونها. تراهن؟ أجاب الأدهم محتداً: - أراهن. سوف أمنعهم. ثم ان أمي وأبي سوف يمنعانهم. هل تعرف ماذا سأفعل؟ سوف اطرد كل الناس من دارنا. - حتى إذا طردت الناس من داركم، هل تظن أن جدتك ستعود إلى الحياة؟ - لن أدعهم يأخذونها، إنها جدتي. أنت لا تفهم. قال فارس وقد احتد الجدال بينهما، وسمع صوتهما بعض المعزين: - سوف يأخذونها ويرمونها في الحفرة أمام عينيك. - قبلت الرهان. - وسوف يهيلون التراب فوقها. سرعان ما فقد الأدهم أعصابه وانهمرت الدموع تملأ وجهه. ركض نحو البيت وهو يهدد ويتوعد: - سوف نمنعهم، أنا وأبي. سوف نمنعهم، وسترى. عند عصر ذاك النهار البارد، حشر جسده بين الرجال الذين سرقوا جدته، وكادوا يذهبون بها، لولا أنه فتت قلوبهم لشدة ما صاح. لكنهم لم يستطيعوا تأخير مراسم الدفن، فذهبوا دون أن يعبأوا به. سار بين المشيعين. ركض أمامهم. تمنى لو كان رجلاً مثلهم. لو ان له يدين كبيرتين، وساقين طويلتين. مع ذلك، سيمنعهم من إلقائها في البئر. وعند لحظة ما، وبعد أن أنهى الكاهن صلاته، تدحرجت حبات تراب من تحت قدميه وهو يتقدمهم، وهوت داخل الحفرة. كانت جدته على وشك أن تمد يدها إلى جعبتها، وتناوله حبات "حامض حلو". همست له بشيء ما، فعرف أن عليه إبعاد الرجال من حول الحفرة. لم يعرف لماذا يكنّون لها كل هذا الكره! دفع بعض الأولاد والرجال إلى الخلف. دفع غيرهم. لم يتزحزح أحد، ظلوا هناك صامتين دون حراك. استنجد بابيه فأصابته العدوى وأصبح مثلهم. تململ التراب تحت أقدامهم. مرة أخرى صرخ ليبتعدوا، فحملوه وأبعدوه، ولم ير كيف تلاشت جدته تحت سخط الأتربة والحجارة. منذ أشهر، كان بعض الجيران قد جاءوا بها إلى بيت ابنها لتقيم عنده، بعد أن وجدوها فاقدة الوعي أمام المرحاض الخارجي، وفي أعلى جبينها جرح نزف والتأم. وبعد منتصف ليلة سبقت هذه، سمعوها تئن أنيناً موجعاً. وبين الفينة والأخرى كانت تنعي حالها وهي تصب اللعنات على اليوم الذي ولدت فيه ابنها الوحيد. لم تجهد نفسها في رزم حاجاتها. كانت تحتفظ بصرة تنام إلى جانبها، وفيها كل ما يلزمها، دون أن تضطر للنهوض من السرير لتتناول أيّ غرض. فيها احتفظت على مدى سنوات طوال: بشال خمري اللون عليه بعض المطرزات وله أهداب من الحرير كانت ترتديه في المناسبات الرسمية وأيام الآحاد. وشكة مطرزة على دايرها ليرات من الفضة الخالصة تتخللها بضع ليرات من الذهب، كانت تتباهى بها في الأعراس وفي عيد الفصح المجيد بعد ان تضع فوقها شالها الخمري، كما احتفظت بمسبحة للصلاة، وأيقونة للسيدة العذراء، ومرود كحلة كانت تستخدمه في صباها عندما كان يحلو لها أن تطرب لكلمات الإطراء من أبي إبراهيم. تفقدت كل ذلك قبل أن تعقد الصرة وتشيح بوجهها عن الدار، وهي تعلم أنها تغادرها إلى الأبد. ودعت الحيطان، وأطباق القش والغربال وصور القديسين، كما ودعت الباب الخشبي العتيق، والدرجتين أمام العتبة، وحجار الموقد، وبعض أعواد الحطب، التي ستظل تخشى اشتعالاً لن يتم. دسّت المفتاح في عب ثوبها المهترئ. تأكدت أنه هناك. لآخر مرة سمعت صرير الباب الذي ذكرها بأنها نسيت أن تمسح المزلاج بقليل من زيت الزيتون.... لاح لها وجهه حيثما التفتت، كما لو أن روحه تحوم حولها. طعم الحسرة عالق في حلقها. حتى عهد قريب ظلت تقيم المناحات ومراسم الحداد، وتتحدث إليه، وهي تلومه أشد اللوم، لأنه تركها وحيدة ولم يأخذها معه. للحظات مريرة عاشت أدق تفاصيل الفجيعة، كأنهم قالوا لها الآن إنه كان يتحدث ولم يشك من شيء، وفجأة أحنى رأسه وسكت. ظنوه نام للوهلة الأولى. حاولوا أن يوقظوه. ظلوا يوقظونه دون فائدة، دفنوه وهو نائم، مات ميتة القديسين. لم يتوجع أو يئن، فقط فرت من إحدى عينيه دمعة ثم بردت على خده. بدت ملامح وجهه واضحة أمامها، بعد أن كادت تنساها، وجه يأتي إليها من الغيم البعيد، يلفحها بذكريات الأيام الخوالي....