ورد في محاضرة محمود عباس أبو مازن التي ألقاها أخيراً في غزة ونشرتها "الحياة" في 26/11/2002: "أريد أن أنوه ان العالم وللمرة الأولى أصبح يقول بدولة فلسطينية، وهذا لم يقل سابقاً، وبانسحاب اسرائيل من الأراضي التي احتلت في حرب 1967". لم يقل أبو مازن أن هذا التحول هو من انجازات انتفاضة الأقصى التي كانت المحاضرة مخصصة لهجاء "عسكرتها" وانحرافها "عن مسارها الصحيح"، بيد ان السياق العام يقول ذلك بوضوح. ففي شهر أيار مايو الماضي قال الكاتب البريطاني باتريك سيل في احدى مقالاته: "إذا قامت الدولة الفلسطينية من بين الأنقاض فإن ذلك معناه ان الانتحاريين قد لعبوا دوراً في قيامها، لذلك وبغض النظر عن الجانب الأخلاقي من الموضوع، فإن من السابق لأوانه الحكم في ما اذا كانت العمليات الانتحارية قد نجحت في تحقيق الأهداف الفلسطينية أم أنها كانت وبالاً عليهم". في حزب العمل الاسرائيلي دخل عمرام ميتسناع الانتخابات على أساس برنامج "حمائمي" يتضمن الغاء المستوطنات في غزة والضفة والاعتراف بدولة فلسطينية، ففاز على "صقر" العمل بنيامين بن اليعازرو فيما نكتب مقالتنا هذه قبل فوز شارون المؤكد على نتانياهو بسبب "اعتدال" موقفه قياساً بهذا الأخير. ما سبق هو محاولة للبحث عما فعلته الانتفاضة الفلسطينية خلال أكثر من عامين بالمجتمع الاسرائيلي على صعيد الموقف من التسوية، وما إذا كانت قد رمته في أحضان الفكر اليميني بالفعل كما يروج الكثيرون، أم أنها دفعته فقط الى المراهنة على رجل قوي بحثاً عن الأمن، وحين تأكدت من عبثية المراهنة بدأت بالتراجع، كما كانت تفعل دائماً حين تتصاعد المقاومة وتكثر الخسائر، ما يعني أنها في حال رسوخ قناعتها الجديدة، ستعيد النظر في الموقف برمته. تحمل المجتمع الاسرايلي الكثير فضلاً عن التراجع المذهل في الاقتصاد بعدما وعده شارن بأنه سيجلب له الأمن والسلام معاً. ولكن ذلك لم يحدث، فكان لا بد من اعادة النظر في الموقف، ألا يعني ذلك ان الانتفاضة قد نجحت في تحقيق بعض أهدافها؟ يقول أوري افنيري زعيم ما يسمى "كتلة السلام" في الدولة العبرية في مقال في صحيفة "معاريف" قرأ من خلاله دلالات فوز ميتسناع، انه كان متأكداً من ان الجمهور الاسرائيلي "سيصحو في أحد الأيام بعد أسبوع أو خمس سنوات ويقول ذات صباح: كفى فالأمور لا يمكن ان تتواصل على هذا النحو". ويصل الى القول ان "هذه النبوءة والتوقعات قد بدأت تتحقق"، وان "التيارات الباطنية في اللوعي الجماهيري تتغير"، والسبب هو ان "جيش الدفاع يحتل ويقتل و"يهدم البنية التحتيجة للارهاب"، الا ان العمليات لا تتوقف ولا للحظة"، ويرى افنيري ان "الفجوة بين اليمين واليسار هي فجوة ضيقة للغاية حتى الآن"، ويتفاءل بأن "الانقلاب الهائل" في الحياة السياسية الاسرائيلية ممكن، وينبغي ان يكون هدفاً. اننا إذاً امام تحولات تؤكد ان الانتفاضة تركت آثاراً واضحة في الوعي الاسرائيلي، ورسخت قناعة باتت تتردد في الأروقة الاسرائيلية مفادها انه من دون أفق سياسي لا يمكن للنزاع ان يتوقف. وذكرت صحيفة "معاريف" في 24/11 ان "أوساط الجيش وأجهزة الأمن الاسرائيلية"، تقدر ان "الانتفاضة لا توشك على الانتهاء بل انها ستمتد أكثر فأكثر إذا لم تكن هناك انطلاقة سياسية". فيما تعترف تلك الأوساط بأن التقديرات السابقة حول استمرار الانتفاضة لثلاث سنوات فقط لم تكن صحيحة. من المؤكد ان هذا الانجاز ثمرة لنقل الصراع الى العمق الاسرائيلي، وهو ما يصل بنا الى استنتاج مهم يخالف ما هو سائد هذه الأيام في أوساط النخب السياسية والمثقفة حول دفع المقاومة للشارع الاسرائيلي باتجاه اليمين. ولعلنا نراهن هنا على أن تصعيداً شاملاً في المقاومة مدعوماً من السلطة سيسقط شارون ويدفع ميتسناع نحو الواجهة. وإلا فما معنى قول وزير الدفاع شاؤول موفاز ان "عرفات والسلطة الفلسطينية يحاولان بواسطة الارهاب ليس فقط قتل ابنائنا ومواطنينا، بل التدخل في العملية الانتخابية الديموقراطية لدولة اسرائيل"؟ قصارى القول هو ان المقاومة - كخيار واضح ومحسوم لا تراجع فيه - هي الحل، ليس للمؤمنين بالتحرير الشامل فقط، ولكن للمؤمنين بالتحرير المرحلي أو التسوية والاعتراف مع الحصول على دولة حقيقية، أما التفاوض والأيدي مغلولة فلا أفق له أبعد من ذلك الذي لاح في كامب ديفيد، صيف العام 2000. * كاتب أردني.