بعد انهيار مفاوضات التسوية التي جرت بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي، طوال النصف الثاني من العام الماضي في كامب ديفيد وطابا، روّجت الآلة الإعلامية والديبلوماسية الاسرائيلية، بدعم من إدارة البيت الأبيض الأميركي، كذبة كبيرة مفادها ان ايهود باراك، رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق، قدم أقصى ما يمكن تقديمه للفلسطينيين في حين ضيع هؤلاء "فرصة جديدة" برفضهم أطروحات باراك للتسوية وبعدم طرحهم بدائل مناسبة لها وبالأخص بسلوكهم طريق الانتفاضة لفرض مواقفهم! والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل حقاً ضيعت القيادة الفلسطينية فرصة تاريخية آنذاك؟ ثم ما هي حقيقة هذه الفرصة؟ ومناسبة فتح هذا الحديث مجدداً انه وبعد مرور عام على هذه المفاوضات بدأت تظهر روايات اسرائيلية مغايرة ومتحررة من الرواية الرسمية تفيد بأنه لم يكن في الواقع ثمة أي عرض جدي من قبل باراك بشأن قضايا التسوية مع الفلسطينيين، وأن ما طرح لا يعدو كونه مجموعة من المقترحات الشفوية كانت تنقل اليهم بواسطة الطرف الأميركي. وتسلط الروايات الجديدة الضوء على التواطؤ الحاصل بين الطرفين الاسرائيلي والأميركي خصوصاً لجهة اعتبارهما الأفكار المطروحة وكأنها لم تكن إذا لم يقبل بها الفلسطينيون كرزمة واحدة! كما تثير هذه التحليلات حقيقة أن عقد المفاوضات المذكورة من دون ترتيبات مناسبة يؤكد بأن المقصود من عقدها ليس التوصل الى تسوية حقيقية وانما "حرق" القيادة الفلسطينية باظهارها بمظهر الرافض لعملية التسوية، من جهة، ولفلفة الاستحقاق المتعلق بانسحابات المرحلة الثالثة ومختلف استحقاقات المرحلة الانتقالية، من جهة أخرى، وهما ما نجح باراك فيهما، فعلا، اذ حمّل الطرفان الأميركي والاسرائيلي القيادة الفلسطينية وخصوصاً الرئيس ياسر عرفات مسؤولية فشل المباحثات. ويؤكد غابي شفر هذه الحقائق بقوله: "ايهود باراك لم يفشل وانما نجح في تحقيق نواياه الحقيقية بشأن العملية السلمية... باراك، ببساطة، لم يكن ينوي التوصل الى اتفاقات بروحية الاقتراحات السخية التي عرضها. ان المؤرخين في الأجيال القادمة سوف يشيرون الى حقيقة أن باراك أسهم عملياً في تصعيد الصراع مع الفلسطينيين. وذلك لأن الفشل أو النجاح لمفاوضات كامب ديفيد أسهم في نشوب الانتفاضة الثانية" هآرتس 24/7. أما ألوف بن فقد أماط في مقال له اللثام عن الاستراتيجية الاعلامية التي اتبعها باراك لعرض صورته "كشخص نزيه قدم تنازلات بعيدة المدى في مقابل رفضية ياسر عرفات"، وفي التفاصيل يقول بن: "استغل باراك العزلة والتعتيم اللذين فرضهما الأميركيون على الوفدين. وكان الرجل الذي أدار عملية الاعلام الاسرائيلي في كامب ديفيد، هو الداد يانيف، الذي عمل آنذاك رئيساً لشعبة الاعلام في ديوان رئاسة الحكومة. في كامب ديفيد، تمركز يانيف في غرفة القيادة.. وكان يانيف "محطة الارسال".. ومهمته تهيئة الرأي العام ليوم ما بعد القمة ولواحد من خيارين: اما الاتفاق واما الأزمة" هآرتس 27/7. ويؤكد بن بأن يانيف هذا هو الذي سرّب المقترحات الأميركية وظهّر صورة باراك قابلا لها تحت الضغط الأميركي في حين قابلها عرفات بالرفض! ويذهب بعض الروايات الاسرائيلية الجديدة حد اتهام باراك بالتآمر على عملية السلام، وتدعو الى محاكمته، فهذا باروخ كيمرلينغ من تيار ما بعد الصهيونية يرفض الأطروحات المتعلقة بإلقاء تبعات الفشل في المفاوضات على الفلسطينيين معتبراً اياها "تضليلاً للرأي العام الاسرائيلي والعالمي.. وحتى مؤامرة.. أدت الى تغيير سريع جداً في الرأي العام، والى شل معسكر اليسار.. ومهدت لانتخاب شارون، وخلقت فراغاً في المعارضة يسمح بسيطرة لا سابق لها لليمين" هآرتس 12/7. وتصل جرأة أوري افنيري زعيم كتلة السلام الآن الى القول بأنه: "لو كان يوجد محكمة دولية لمجرمي السلام لكان باراك قدم لها بتهمتين: إرغام عرفات وكلينتون على الموافقة على عقد قمة كامب ديفيد وإفشالها بطرحه اقتراحات بديلة غير مقبولة، وترويج كذبة انه عرض على عرفات كل ما طلبه، وان عرفات رفض هذه الاقتراحات السخية. ويتابع افنيري: "بواسطة مثل هذا الادعاء الكاذب دمر باراك معسكر السلام الاسرائيلي الذي صدقه، وقاد اليمين المتطرف الى السلطة".. ويرى افنيري انه "في محاكمة باراك ستقدم الأدلة التي تثبت انه اقترح في كامب ديفيد الضم الرسمي لحوالى 10 في المئة من مساحة الضفة الكتل الاستيطانية والضم الفعلي لحوالى 10 في المئة أخرى غور الأردن وغير ذلك من خلال فصل المناطق الفلسطينية وعزلها عن البلدان المجاورة، وادعى بأنه تنازل عن القدسالشرقية ولكنه لم يمنح الفلسطينيين سيادة كاملة عليها وبخاصة ليس على الحرم، ولم يوافق على حل وسط لقضية اللاجئين وطلب من الفلسطينيين التوقيع على أن هذا يعتبر "نهاية النزاع".. وبحسب افنيري فإن "باراك لم يقدم أي اقتراح خطي ولم يدخل في تفاصيل الاقتراحات الشفوية ولم يكشف لعرفات وكلينتون ما هي التسوية النهائية التي يسعى اليها.. وبعد كل هذه الشهادة كيف ستحكم المحكمة؟" معاريف 24/7. وكان افنيري في أطروحة له نشرها في صحيفة "هآرتس" أواخر نيسان ابريل الماضي قد القى بالمسؤولية عن فشل مفاوضات كامب ديفيد على عاتق باراك والشعب الاسرائيلي، يقول انفيري: "لقد تصور باراك والشعب الاسرائيلي برمته انه عرض على الفلسطينيين عروضاً سخية لم يقدمها أي رئيس حكومة من قبله، وطلب لقاءها توقيعاً فلسطينياً يقضي "بانتهاء النزاع".. باراك طلب منهم التخلي عن أسس تطلعاتهم الوطنية. ويستنتج افنيري بأن سبب انهيار المفاوضات انما يعود الى : "تصرف المفاوضين الاسرائيليين من منطلق تجاهل القصة الوطنية الفلسطينية وعدم تفهمهم لتطلعات الشعب الفلسطيني الوطنية، نكساته، آماله ومخاوفه"، ويرى في باراك "تجسيداً للحيرة الاسرائيلية وصل الى السلطة مقتنعاً أن بإمكانه قطع دابر النزاع التاريخي بضربة واحدة، يدفعه جهل تام لوجهة النظر الفلسطينية. وقدم اقتراحاته بشكل ينطوي على الانذار النهائي". ومن جهته رفض رون فونداك أحد مهندسي اتفاق أوسلو الادعاءات الاسرائيلية الرسمية بقوله: "ثمة الكثير من الناطقين من اليسار، ومن اليمين تمسكوا بالشعار: نحن اقترحنا الحد الأقصى، والفلسطينيون ليس فقط لم يجيبوا، بل شنوا الانتفاضة. ان اقتراحاً اسرائيلياً رسمياً من هذا النوع لم يطرح أبداً" يديعوت أحرونوت 13/6. ويقول اوري سافير الذي يعتبر من أهم صانعي اتفاق أوسلو: "باراك اقنع الفلسطينيين انه لا يريد السلام الحقيقي، وانما مواصلة الاحتلال بشروط أخرى.. لم يكن هناك أية احتمالية لحدوث شيء في كامب ديفيد، لأن باراك فرضها على الأميركيين والفلسطينيين، الذين ناشدوه بالتحضير ولكنه لم يبال" 9/3. وحتى ان شلومو بن عامي أدلى بدلوه في هذا الأمر إذ تحدث في شهادة له نشرتها صحيفة "معاريف" عن الجحيم الذي واجه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في ظل ضغوط الادارة الأميركية وتبني الرئيس كلينتون للموقف الاسرائيلي المتضمن: بقاء 80 في المئة من المستوطنين تحت السيادة الاسرائيلية، القدس يهودية، رفض حق العودة، ورفض قبول مبدأ العودة لحدود العام 1967. وفي مقابلة معه فسر بن عامي فشل المباحثات بالكلمات التالية: "يبدو اننا ذهبنا الى القمة بميل استعمار جديد. حتى حين تحدثنا عن دولة فلسطينية تحدثنا عن استقلال محدود" يديعوت احرونوت 9/5. وهذا هنري سيغمان وهو يهودي/ أميركي من مجلس العلاقات الخارجية يعبر عن تفهمه للموقف الفلسطيني ويرى بأن استراتيجيات التعامل مع الفلسطينيين بوصفهم منتصرين، مطلوب منهم تقديم المزيد من التنازلات والأراضي، لم تنجح في الماضي ولن تنجح في المستقبل، يقول سيغمان: "يعيش الاسرائيليون حال انكار تام بشأن الطبيعة الحقيقية لعلاقاتهم بالفلسطينيين، فهم لا يستطيعون أن يعترفوا بمكانتهم كمحتلين لشعب آخر.. ويرون أنفسهم ضحايا لعدوان الفلسطينيين" "الحياة" 31/7. بكل الأحوال لا بد هنا من الاشارة الى التقصير الفلسطيني بكل ما يتعلق بالمفاوضات بغياب الشفافية وضعف الادارة وتخلف الأداء الاعلامي، ما أسهم بقسط وافر في نجاح الترويج للرواية الاسرائيلية وبالتالي ضعضعة التعاطف الدولي مع الفلسطينيين. فقد مؤخراً، وبمناسبة يوم النكبة 15/5، أدلى الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بدلوه في هذا الموضوع متحدثاً عن مفاوضات كامب ديفيد في كلمة مباشرة خاطب فيها الشعب الفلسطيني والأمة العربية والرأي العام العالمي، جاء فيها: "كامب ديفيد كانت هي الفرصة الأولى العملية للتفاوض على الحل النهائي.. ولكن باراك لم يكن مستعداً للاستمرار.. ومع الإقرار ببعض التقدم في هذه المفاوضات، إلا أن ما تبقى بدون حل فيها يقطع باستحالة قبولنا بها كحل دائم يرضى به شعبنا بعد قرن من النضال.. هل كان يمكن لنا القبول بحل دائم يبقي الحرم وبعض أهم المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس تحت السيادة الاسرائيلية. بحل لا يسمح للاجئين بحق العودة لبلادهم.. بدولة مجتزأة محدودة السيادة.. باعطاء اسرائيل الحق في استخدام أراضينا كقواعد انطلاق عسكرية لمهاجمتكم أيها الاخوة العرب؟ نحن لم نقبل بذلك ولن نقبله أبداً... رفضنا الوصول الى حل لا يمكن لشعبنا ولأمتنا القبول به". كل ما تقدم يوضح حجم التعقيد المحيط بعملية التسوية مع الفلسطينيين، وحجم الضغوط المعنوية والسياسية والمادية التي يتعرضون لها. ويبقى ان هذه العملية ما زالت تحتاج الى فرصة حقيقية، بعيداً عن لغة الارهاب والإملاء التي تمارسها اسرائيل، مستغلة علاقاتها بالولايات المتحدة الأميركية. وما دامت اسرائيل لم تعترف بنفسها كقوة احتلال وما دامت غير قادرة على ايجاد حل أخلاقي وقانوني وعادل يتأسس على الاعتراف بالظلم التاريخي الذي الحقته بضحاياها، وما دامت الظروف الاقليمية والدولية غير قادرة على إجبار اسرائيل على سلوك هذا الطريق فإنه يمكن القول بأن الفرصة الحقيقية لم تأت بعد. * كاتب فلسطيني، دمشق.