الاقرار بوجود سياسة التمييز الطائفي في العراق يعد الخطوة الأولى في أية معالجة لهذه المشكلة، وهي تشبه الى حدْ كبير اقرار المريض بأنه مصاب بمرض خبيث وأن عليه ان يتلقى العلاج اللازم للشفاء منه، ورفض المريض أو من حوله من الناس الإقرار بذلك لن يؤدي الى شفائه بل ربما كان سبباً في هلاكه. وهناك اتجاهان في الوسط الشيعي العراقي، لا نجد كثير اختلاف بينهما في اقرارهما بوجود المشكلة الطائفية في العراق، لكن ما يميّز أحدهما عن الآخر هو أسلوبه في التعامل مع المشكلة وطرق معالجتها. ايهما أنفع لشيعة العراق في شكل خاص وللعراقيين في شكل أعمّ، تقنين هذه الطائفية وتنظيمها ضمن أطر وصيغ دستورية شبيهة بأوضاع الشيعة في لبنان، أم ان الأسلوب الصحيح لمعالجة هذا المرض المزمن في الجسد العراقي هو القضاء على الطائفية واجتثاث جذورها ومعالجة آثارها التي خلفتها طوال أكثر من ثمانية عقود من تاريخ العراق الحديث ووضع صيغ دستورية وقوانين تمنع عودتها وتحول دون ممارستها لدى الحكومات أو المؤسسات أو الأشخاص تحت طائلة القانون؟ ان معالجة اي مشكلة من مشكلات العراق السياسية والثقافية والاجتماعية لا بد من ان تنطلق من ادراك واقع المجتمع العراقي بمفرداته المتعددة، فهو متعدد القوميات والأديان والمذاهب. وان الحفاظ على وحدة هذا المجتمع وتماسكه يجب ان يأخذ في الحسبان هذا التنوّع والتمايز من جهة، والحاجة والرغبة في العيش في وطن اسمه العراق والمساهمة في بنائه وإعماره على قدم المساواة في الحقوق والواجبات من جهة أخرى. ما طرحه "إعلان شيعة العراق" الذي صدر في لندن ووقّعه حوالى مئة شخصية، هو رفض للطائفية ودعوة الى بناء عراق جديد تكون المواطنة فيه الرابطة التي تجمع ابناءه وتحدد حقوقهم ومسؤولياتهم، فالتمييز الطائفي الذي يتعرّض له شيعة العراق - كما يرى الموقعون على الاعلان - لا يعالج بتقنين هذا التمييز أو تكريسه، وإنما بالغائه وتحريم ممارسته. ان بناء العراق على أسس الديموقراطية وإلغاء الطائفية والتمييز العنصري كفيلان باقرار الحقوق المشروعة لكل مكونات المجتمع العراقي وطوائفه، وفي مقدمهم شيعة العراق الذين دفعوا ثمناً باهظاً طوال أكثر من ثمانين عاماً من السياسات التي مارستها الحكومات والانظمة التي تعاقبت على الحكم في العراق. فالديموقراطية تمنح الشيعة الذين يشكلون حوالى 60 في المئة من سكان العراق وحوالى 80 في المئة من عربه، الفرصة التاريخية لرسم معالم الوضع السياسي العراقي وإرساء قواعده على أسس متينة تضمن لهم حقوقهم اسوة ببقية العراقيين، وتحول دون اضطهادهم ومصادرة وجودهم السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي. كما ان تقنين محاربة الطائفية يحول دون ان تستبدل سياسة طائفية بسياسة طائفية اخرى، مما يوفر جواً من الأمن والاستقرار الضروريين لمشاركة كل العراقيين في حكم العراق واعادة بنائه والمساهمة في رقيه وازدهاره على مختلف الصعد وفي شتى المجالات. واذا كان هذا الاتجاه هو السائد بين هذه الاوساط ويحظى بتأييد واسع من المرجعيات الدينية الشيعية ومن غالبية الحركات الاسلامية ومختلف الفاعليات السياسية ومراكز القوة الاجتماعية في الوسط الشيعي العراقي، الا انه لا يمثل كامل الصورة ولا يلغي وجود اتجاه آخر كان موجوداً منذ وقت طويل وأخذ يتبلور ويأخذ شكلاً واضحاً خلال الاعوام القليلة الماضية. هذا الاتجاه يعتقد كسابقه بوجود سياسة تمييز طائفي يتعرض لها الشيعة، الا انه يختلف مع "اعلان شيعة العراق" في أسلوب مواجهته للتمييز الطائفي وحماية الشيعة من آثاره المدمرة، وهذا الاسلوب يقوم ليس على الدعوة الى الغاء الطائفية بل التعامل معها كظاهرة موجودة لا يمكن التخلص منها، وبالتالي ضرورة تقنينها واقرارها ضمن صيغ قانونية وأطر تنظيمية. ولعل النموذج اللبناني لا يغيب عن اذهان المنظّرين لهذا الاتجاه. فالوضع السياسي اللبناني، كما هو معروف، قائم على اقرار الطائفية واعتمادها في تنظيم الدولة والمجتمع، فالأفراد والمؤسسات يصنفون بحسب انتمائهم الطائفي ويتمتعون بحقوقهم السياسية والثقافية تبعاً لهذا الانتماء. ويعلل الداعون الى هذا الاتجاه دعوتهم الى اقتفاء النموذج اللبناني بالقول ان من شأن هذا التقنين ان يحفظ لشيعة العراق هويتهم الثقافية ويصون مؤسساتهم الدينية من تدخل الدولة. هناك فروق كثيرة، تاريخياً وواقعياً، بين العراقولبنان في التركيبة السياسية والاجتماعية. فعلى رغم الطائفية التي مارستها الحكومات العراقية المختلفة، الا ان المجتمع العراقي، في الأعم الأغلب، ظل في منأى عن تلك السياسات. فالطائفية السياسية التي مارستها الدولة لم تنتقل الى المجتمع العراقي، الذي ظل متماسكاً لا تفصل بين ابنائه الفواصل المذهبية أو القومية. كما ان درجة النضج السياسي التي وصلت اليها النخب العراقية من مختلف الانتماءات الفكرية والسياسية والمذهبية والقومية تشكل عنصراً يساهم في استئصال الطائفية من الواقع السياسي العراقي. ان تصوير مطالب الشيعة في العراق على انها لا تتعدى الاشراف على المراقد المقدسة وادارة أوقافهم والسماح لهم بممارسة القضاء في قضاياهم الشخصية وفق المذهب الإمامي، انما هو تقليل من حجم الطموحات الشيعية المشروعة والتعامل مع الشيعة كأقلية دينية أو مذهبية في بلد يشكلون غالبية سكانه. وان ضمان الحقوق السياسية والدينية وغيرها من الحقوق المشروعة لكل العراقيين ومنهم الشيعة، إنما يتأتى من خلال اعادة صوغ الدولة العراقية ومؤسساتها على أسس تنبذ الطائفية والعنصرية وتتيح أمامهم كمواطنين وعلى قدم المساواة فرص التعبير عن هوياتهم الثقافية والدينية في اطار الانتماء الى العراق كوطن يجمعهم ويوحدهم. وإقرار السياسة الطائفية والسعي الى تكريسها وتقنينها من خلال مؤسسات ومجالس انما يشكل انتكاسة للعقل السياسي الشيعي وتراجعاً عن الطرح الوطني الواسع الذي يستوعب العراق كشعب ووطن، وعودة الى السياسة العثمانية التي كانت تتعامل مع الملل والنحل التي تضمها السلطنة في ذلك الوقت، تلك السياسة التي كان يجري التعامل فيها مع مواطني الدول القابعة تحت سيطرة الحكم العثماني من خلال مجالس خاصة لكل طائفة أو دين، وهي مجالس تكون الوسيط بين المواطن والدولة في ظل غياب مفهوم المواطنة كما نفهمه في وقتنا الراهن. ما طرحه "اعلان شيعة العراق" اضافة الى نبذه الطائفية السياسية ودعوته الى محاربتها، حدد ولو في شكل مجمل بحاجة الى مزيد من التفصيل، الآليات التي من خلالها يجرى بناء العراق الجديد الذي يحفظ لكل العراقيين حقوقهم السياسية والدينية والثقافية والاقتصادية. وشيعة العراق يقفون اليوم امام فرصة تاريخية ومسؤولية خطيرة. فرصة ان يساهموا في تطهير الواقع السياسي العراقي من مرض الطائفية السياسية، وبناء الدولة العراقية على أسس سليمة، قوامها الحفاظ على الهوية العراقية وصون استقلال العراق ووحدته الوطنية، ومسؤولية الحفاظ على دورهم التاريخي كبناة للعراق وحراس أمناء لمصالح شعبه بكل قومياته ومذاهبه وطوائفه الدينية. * كاتب عراقي مقيم في لندن.