المملكة رئيساً للمنظمة العربية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة «الأرابوساي»    "التجارة" تكشف مستودعًا يزور بلد المنشأ للبطانيات ويغش في أوزانها وتضبط 33 ألف قطعة مغشوشة    وفد عراقي في دمشق.. وعملية عسكرية في طرطوس لملاحقة فلول الأسد    مجلس التعاون الخليجي يدعو لاحترام سيادة سوريا واستقرار لبنان    الجمعية العمومية لاتحاد كأس الخليج العربي تعتمد استضافة السعودية لخليجي27    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي كبار ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة    الإحصاء: إيرادات القطاع غير الربحي في السعودية بلغت 54.4 مليار ريال لعام 2023م    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    استمرار هطول أمطار رعدية على عدد من مناطق المملكة    استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية بمنطقة تبوك    الذهب يرتفع بفضل ضعف الدولار والاضطرابات الجيوسياسية    استشهاد خمسة صحفيين في غارة إسرائيلية وسط قطاع غزة    السعودية وكأس العالم    الفكر الإبداعي يقود الذكاء الاصطناعي    «الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    المملكة ترحب بالعالم    رينارد: مواجهة اليمن صعبة وغريبة    وطن الأفراح    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    نجران: «الإسعاف الجوي» ينقل مصاباً بحادث انقلاب في «سلطانة»    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فنزويلا على حافة الإنهيار وأبناء الثورة يفرون قبل أن تأكلهم
نشر في الحياة يوم 18 - 12 - 2002

لعل أول ما يثير اهتمام زائر العاصمة الفنزويلية كاراكاس هذه الأيام هو العصبيَة التي تسيطر على أطباع الفنزويليين والتي جعلتهم يضاعفون إستهلاكهم من المسكّنات، بعدما وصلت الأمور في البلاد خلال الاسبوعين الأخيرين الى مفترق طرق يشير الى أن الأمور لن تستمر كثيراً في هذا الغليان من دون أن تؤدي الى نتائج دراماتيكية تتأرجح بين تحديد موعد إستفتاء لتقرير نهاية أو إستمرار ولاية الرئيس هوغو شافيز بين شباط فبراير كما تطالب المعارضة، وآب أغسطس كما توافق الحكومة، والأرجح وفق المعطيات الحالية ألا تكون نتيجته لمصلحة الرئيس اليساري إلا إذا قبل شافيز الإستقالة، وهو إحتمال ضعيف على ضوء سيرة من يعتبر نفسه مولجاً ب"قيامة فنزويلا".
هذا في ما يتعلق بالمخارج الدستورية. أما المخارج غير الدستورية أي الإنقلاب العسكري فتصبح الحل الوحيد إذا فشلت وساطة "منظمة الدول الأميركية" التي تبحث عن "حل إنتخابي ودستوري"، أي حل جامع بين شرط المعارضة وشرط السلطة، من دون أن يكون مفهوماً حتى اليوم إذا كان "حسم الثكنات" هذا سينصب لمصلحة الحكومة أو المعارضة.
وهذه "الخيارات الصعبة" التي قد لا تكتمل مرجحة في أن تدخل فنزويلا في دوَامة من العنف والشلل الإقتصادي هي سبب من أسباب العصبيَة الحالية. أما السبب الآخر، فيعود الى الثنائية التي صارت تمزق الشارع بين أنصار ما يسميه شافيز "الثورة البوليفارية" ومعارضي الرئيس الذين يزدادون عدداً وقوة يوماً بعد يوم.
بوليفار وفنزويلا
تغوص جذور "التجربة البوليفارية" التي يروّج لها هوغو شافيز منذ وصوله الى السلطة بواسطة الإنتخابات عام 1998 عميقاً في تاريخ فنزويلا. فهناك أولاً وراء التسمية، التي تعترض المعارضة على إحتكارها من قبل شافيز، صورة "المحرر" سيمون بوليفار الذي لعب ومعاونه الكفوء أنطونيو دي سكر، دوراً حاسماً في إنهاء سلطة الإستعمار على قسم كبير من القارة وصولاً الى حدود الأرجنتين. وكان بوليفار نفسه خلفاً لفرنسيسكو دي ميراندا الذي إعتقل ونفي الى إسبانيا وتوفي فيها.
وبعد محاولات فاشلة للتغلب على الإسبان، فضَل بوليفار الإنسحاب الى كولومبيا ومن ثم الى جامايكا حتى نضوج الظرف المناسب عام 1817.
في هذا الوقت، كانت إنتهت الحروب النابليونية، فتمكن مندوب بوليفار في لندن في جمع الأموال والتعاقد مع خمسة آلاف من المحاربين الإنكليز المتقاعدين وأيضاً مع جيش من الخيَالة من سهول فنزويلا، فتحرك هذا الجيش من طريق جبال الأنديز وهزم الاسبان في معركتين فاصلتين، واستقلت كولومبيا عام 1819. وبعد أربعة أشهر، تم إعلان دولة "كولومبيا الكبرى" التي ضمت أيضاً فنزويلا والإكوادور حتى قبل تحريرهما من حكم الإستعمار.
وتحقق تحرير فنزويلا عام 1821 وبقيت القوات الملكية تقاوم في مواقع خلفية حتى 1823، وحرَر بوليفار وسكر الإكوادور وبيرو وبوليفيا عام 1824. ومع أن فنزويلا كانت الأقل أهمية من الناحيتين السكانية والإقتصادية، من مناطق "كولومبيا الكبيرة" إلا أنها كانت خزَاناً للمقاتلين داخل فنزويلا وخارجها أيضاً حتى ساحل محيط الباسيفيك. ويقدر أن أكثر من ربع سكان فنزويلا ماتوا في هذه الحروب. ولم تستمر "كولومبيا الكبيرة" أكثر من عقد واحد، وسرعان ما انفصلت الى ثلاث دول، وإنهار حلم بوليفار حتى قبل وفاته عام 1830.
صعوبة الديموقراطية
وتمت هذه التجربة أيضاً بصلة الى علاقة فنزويلا المعقدة مع الديموقراطية التي عانت بإستمرار من صعوبة ترسيخها في واقع هذا البلد. اذ يتلخص تاريخها منذ عام 1830 بسلسلة غير منقطعة من حالات الإستبداد أو الفوضى وصولاً الى الحكم العسكري الذي يتزعمه من يلقب بتسمية ال"كوديللو" أي الديكتاتور. وإستمر الوضع على هذا المنوال حتى تمكن روميلو بيتانكور، وهو مؤسس حزب "العمل الديموقراطي" اليساري عام 1945 في تجنيد أكثرية الشعب وعدد من الضباط الصغار لإستلام السلطة، فتم إقرار دستور جديد عام 1947 وأجريت أول إنتخابات حرة أوصلت الكاتب المشهور روميلو غاليغوس الى سدَة الرئاسة.
ولكن يبدو أن الخطوة كانت متقدمة أكثر مما يتحمل البلد، فبعد ثمانية أشهر، نفذ الكولونيل خيمينيز إنقلاباً استلم اثره الحكم حتى عام 1958 عندما أزاحه إئتلاف من المدنيين ومن ضباط في البحرية والطيران. فعادت الديموقراطية وانتخب بيتانكور رئيساً، وكان أول رئيس منتخب ينهي ولايته، اذ أصر على رغم شعبيته العارمة على ترك السلطة عند نهاية ولايته عام 1963 بعدما وضع دستوراً جديداً عام 1961. ومن بعده، كانت كل التغييرات الرئاسية بالوسائل الدستورية، واستقرت الحياة السياسية في تداول السلطة بين حزب العمل الديموقراطي الإشتراكي الديموقراطي وحزب "كوبيه" الديموقراطي المسيحي. وشهدت ولايتا الرئيسين ليوني 1964 - 1969 وكالديرا 1969 - 1974 هدوءاً نسبياً بفضل التدفق الثابت لموارد النفط. وساهمت الحرب العربية - الاسرائيلية في 1973 أثناء ولاية كارلوس أندريس بيريز 1974 - 1979 الذي أمم صناعتي النفط والحديد في زيادة إنتاج النفط ورفع أسعاره أربعة أضعاف، فبدأ إستيراد البضائع الفخمة، واعتقد الفنزويليون أن عهد الإلدورادو تجسد أخيراً.
إلا أن هذه الفترة الذهبية لم تدم طويلاً، ففي نهاية السبعينات، إنكمش الإقتصاد العالمي وبدأت أسعار النفط بالتراجع مهددة استقرار فنزويلا، فارتفعت نسبة البطالة ومعها غلاء المعيشة، وبالتالي الغيظ الشعبي. وواكب الرئيسان هيريرا كامبينس 1979 - 1984 وخيمي لوسينشي 1984 - 1989 الإنحدار التدريجي للإقتصاد.
وفي عام 1989 عاد الزعيم الإشتراكي الديموقراطي كارلوس أندريس بيريز الى الحكم. وأجبره تدهور أسعار النفط على إقرار سلسلة من زيادات الأسعار أدت الى تظاهرات صاخبة قمعت بقوة السلاح وتركت أكثر من 300 ضحية. وفي عام 1992، عرفت فنزويلا محاولتين إنقلابيتين، قاد الأولى هوغو شافيز مع ضباط من الصف الوسط، وسجن أثرها لمدة عامين. والثانية بعد أشهر وشهدت معارك جوية بين طائرات إنقلابية وأخرى موالية في سماء العاصمة. وقبل نهاية ولايته بثمانية أشهر، أقيل بيريز واعتقل بعدما دانته محكمة القضاء الأعلى في تهم فساد. ومع إنهيار الحزب الإشتراكي الديموقراطي عاد كالديرا من حزب "كوبيه"، وأفرج عن شافيز الذي تحول الى زعيم المعارضة مع تزايد الفراغ الحزبي.
النفط يتحكم
العنصر الثالث الذي يتحكم بواقع فنزويلا هو سعر النفط العالمي. اذ ان فنزويلا بمناخها الرطب ليست أرضاً ذات شأن عند المستعمر الإسباني، وبعد إستقلالها إقتطعت منها بريطانيا مساحات ضمتها الى غوايانا. وعلى رغم التسوية القضائية التي كرست هذا الواقع، تنص الخرائط الفنزويلية حتى اليوم على أن هذه المنطقة متنازع عليها. أيضاً، وفي عهد الديكتاتور سيبريانو مطلع القرن العشرين غرقت فنزويلا في ديون خارجية مع بريطانيا وإيطالبا وألمانيا عجزت عن دفعها مما جعل أساطيل هذه الدول الثلاث تحاصر المرافئ الفنزويلية. وتغيرت الصورة مع إكتشاف النفط في العقد الأول من القرن ما سمح بدفع الديون المتراكمة. وفي نهاية العشرينات، أصبحت فنزويلا المصدر الأول للنفط، لكن هذا التغيير لم يرتد نفعاً على الواقع الإجتماعي، بل أدى في ما أدى اليه الى إنهيار الزراعة وتحول البلد الى دولة تستورد حاجاتها الزراعية. وكادت الجماهير المنتفضة عام 1935 أن تحرق منشآت النفط. إلا أن الذهب الأسود كان أيضاً، بدءاً من الأربعينات، المورد الأساسي للقيام بالبنى التحتية ولمحاولة بناء صناعة محلية ولتحديث العاصمة. ويبدو أن الفرصة الضائعة كانت في السبعينات والثمانينات حيث، بدلاً من تطوير البلد، استغلت موارد النفط لتمويل الإستهلاك، فصارت الطبقات الوسطى تمضي نهاية الأسبوع في ميامي لشراء حاجاتها. وأتت الفاتورة في نهاية الثمانينات مع النتائج المذكورة أعلاه.
ويبقى النفط المورد الأساسي اذ تتحكم الصناعة النفطية بنحو 80 في المئة من الإقتصاد ما أدى الى إنهيار المداخيل عام 2001 نتيجة تراجع الطلب في السوق العالمية، وترافق ذلك مع زيادة الأسعار الداخلية، ما أدى الى تفاقم إقفال المؤسسات وإنتشار البطالة وخفض سعر العملة. وصار القطاع الخاص المعتاد على الإفادة من موارد الدولة يعترض على حجمها وعلى سوء إدارتها للشؤون المالية والإقتصادية، ما ساهم في تعثر حكومة شافيز وفقدانها التدريجي لصدقيتها الإقتصادية.
وما يهدد اليوم حكم شافيز أكثر من التظاهرات والتحركات الإجتماعية هو الإضراب في القطاع النفطي الذي يلحق خسائر يومية تقدر ب50 مليون دولار. إذ إنخفض الإنتاج اليومي من أكثر من مليوني برميل الى أقل من مليون من مركز الإنتاج الأساسي في بحيرة ماراكيبو في الطرف الغربي من فنزويلا الحالية والتي نعتها الإيطالي أميريكو فاسبوشي عام 1499 ب"فينيسيا الصغيرة" البندقية الصغيرة عندما رأى القبائل الهندية تعيش في مساكن على سطح الماء، في ما أصبح اليوم أحد أكبر مرافئ تصدير النفط في العالم.
صعود نجم شافيز وأفوله
يصعب فهم كيف أهدر شافيز، وبأي سرعة، رأس مال الثقة الذي جمعه والذي سمح له بالفوز في إنتخابات الرئاسة عام 1998 بعدما أقنعه عدد من السياسيين اليساريين تخلوا عنه بأكثريتهم تدريجاً بتغيير النظام بواسطة الإنتخابات بدلاً من السلاح. وتأسست لهذه الغاية "الحركة البوليفارية" عام 1994، ومثّل شافيز أملاً جديداً للشعب في فنزويلا، وخصوصاً الفقراء الذين عرف كيف يحركهم ويجذبهم ويجندهم، ما سمح له بأن يفوز عبرهم بكل الإستحقاقات الإنتخابية المتتالية، وبنسبة الثلثين في العادة من دون حسبان نسبة المقاطعة التي وصلت أحياناً الى أرقام تاريخية. وفور وصوله الى السلطة، أراد شافيز أن "يدفن النظام العفن وأن يؤسس عهداً جديداً".
وبإستفتاءات متتالية، ألغى شافيز الدستور القديم وأسَس جمهورية جديدة أعطته سلطات على قياسه. وأعيد انتخابه عام 2000 لرئاسة الجمهورية لولاية جديدة من ست سنوات، متسلحاً هذه المرة بصلاحيات شبه مطلقة وبمؤسسات تحت إمرته، ليتابع حلمه ببناء "مجتمع جديد".
لكن شافيز ارتكب عدداً من الأخطاء. فهو من جهة، شرعن حق العسكريين في التمرد وأخذ يسيِّس الجيش، ومن جهة أخرى أغرقه بالمال والمناصب لضمان ولائه. وبعد إقامة "الجمهورية الجديدة" نسي شافيز أن الفنزويليين ينتظرون منه أعمالاً وليس فقط تلك الخطب والبرامج الإذاعية التي سحرت ثلثي الفنزويليين خلال فترة والتي صارت الآن تيئسهم وتخيفهم وتجمَعهم ضده. وإذا كانت القدرة على الحكم تقتضي دائماً تأمين شروط ممارسته، فصار شافيز ينتج ويغذي حالات دائمة من المواجهة، ولم يستطع أن "يعود الى الواقع" بحسب لويس ميكيلينيا الذي يعتبره شافيز "أباه السياسي" والذي كان حتى قبل سنة أحد أهم وزرائه قبل ان يلتحق بالمعارضة.
ودخل الرئيس في نوع من الهروب الى الأمام مكرساً إنقسام المجتمع الفنزويلي بين أقلية تكن له الولاء الأعمى وتمنعه من التراجع حتى عندما يقترب من هذا القرار، وأكثرية مؤلفة من أقلية عاندته بإستمرار منذ البداية أضيف اليها سيل لا ينقطع من حلفائه السابقين الذين انفكوا عنه. وهذه الكتلة الجديدة، ذات الجذور الطبقية المتنوعة والميول السياسية الممتدة من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، لا يجمعها إلا كرهها الأعمى ل"مشروع الديكتاتور". وفي هذا المعسكر الجديد، ليست الأقل تطرفاً الشريحة الكبيرة من الناخبين التي آمنت بشافيز وارتدت ضده، وهي اليوم بتحركها تريد أن تكفّر عما صارت تعتبره ضياعها السابق.
سنة كاملة من الإضرابات
عندما احتكر شافيز كل السلطات، بدأ يخسر شرعيته في المزاج الشعبي: أسس حركة "الحلقات البوليفارية" على نموذج "لجان الدفاع عن الثورة" الكوبية ما أثار حفيظة كل الأحزاب السياسية، الموالية منها والمعارضة، وتورط في إستفتاء قاطعه 80 في المئة من الناخبين من أجل حل النقابات العمالية وإستبدالها ب"جبهة الشغيلة البوليفارية"، إلا أن النقابات عرفت كيف تلتف على نتائج الإستفتاء وسيرت على "إتحاد عمال فنزويلا" على حساب مرشحي شافيز، وهي اليوم طليعة حركة الإعتراض. وفي عام 2001، أصدر شافيز 49 مرسوماً رئاسياً دفعة واحدة أرعبت المجتمع بكل طبقاته التي أخذت تخشى تحول البلاد ديكتاتورية عسكرية. وهذه المرة أيضاً برر شافيز قراراته بخطب كلامية تؤكد أن الوقت حان لخوض المعركة الفاصلة مع كل "أعداء الثورة".
وقبل عام تماماً، واجه شافيز أول إضراب عام وطني جمع رجال الأعمال والنقابات العمالية. وفي نيسان ابريل الماضي، عاودت المعارضة التحرك، وأدى القمع الى مقتل 17 مواطناً، وتخلى شافيز عن الرئاسة خلال 48 ساعة، إلا أنه عاد اليها بسبب أخطاء خصومه الذين حاولوا حل البرلمان ما أدى الى تدخل الجيش لمصلحته حفاظاً على الشرعية الدستورية. عندئذ اعتقد أنصاره بأن شافيز "عاد لمئة سنة"، ففي الأسبوع الأول لعودته بدا شافيز واعياً للأخطاء التي كان ارتكبها ومهتماً بمصالحة أخصامه.
إلا أن طبيعته التصادمية عادت لتسيطر عليه، وبعد ذلك الأسبوع عاود أسلوبه التقليدي.
ونجحت وساطة "منظمة الدول الأميركية" قبل ثلاثة أسابيع في إقناع الطرفين بتنظيم إنتخابات عامة يشارك بها الجميع بمن فيهم شافيز في الفصل الأول من السنة المقبلة، لكن التيار المتشدد في صفوف الحركة الشافيزية أفشل الإتفاق. ومنذ مطلع الشهر الجاري، بدأت البلاد إضرابها العام الرابع خلال سنة. بدأ الإضراب ليوم واحد للمطالبة بإعادة سلطة البوليس الى رئيس بلدية كاراكاس، وهو حليف سابق لشافيز انتقل الى صفوف المعارضة.
وفي الوقت نفسه، كان حزب "العدالة أولاً" يقدم عريضة بمليوني توقيع تطالب بتنظيم إستفتاء إستشاري حول موقف الشعب من إستمرار شافيز في السلطة. ويبدو ان الإضراب كان يتجه الى التعليق بسبب إقفال التجار والصناعيين الضعيف عشية الأعياد. الا ان قمع الحرس الوطني تظاهرة سلمية أوقع فيها عشرات الجرحى، أجبر المنظمين على تمديد الأضراب، ليشمل المنشآت النفطية التي تؤمن جزءاً أساسياً من واردات الولايات المتحدة. وكانت هذه الخطوة، كما وصفها شافيز، "الطلقة الموجهة الى القلب"، فقرر تدخل الجيش وإقالة بعض الإداريين. وبعد يومين، أطلق البعض ممن اعتبروا من أنصار الرئيس النار على تجمع شعبي متضامن مع ضباط متمردين ما أدى الى مقتل ثلاثة أشخاص. وفي الأيام التالية، هوجمت مراكز للصحف والإذاعات المعارضة التي تحزبت ولم تعد تحترم أصول المهنة، تماماً كما تفعل وسائل الإعلام الموالية.
ومرة أخرى كعادته عاود شافيز وأنصاره شحن عزيمة المعارضين الذين كانوا يبحثون عن وسائل أخرى للتحرك. ومنذ ذلك اليوم، تلتحق يومياً بالإضراب فئات وشرائح جديدة، ما يؤكد ما تقوله إستطلاعات رأي جدية وهي بضاعة نادرة في فنزويلا من أن ثلثي الفنزويليين يطالبون بذهاب شافيز، فيما يبقى هذا الأخير يتمتع بثقة ثلث الشعب، وهو رقم يفوق شعبية أي منافس له على أي حال.
مرة أخرى، لن يستمر الوضع على هذا المنوال فترة طويلة: اذ ربما ينفجر العنف في أي لحظة، خصوصاً ان قبول الرأي الآخر وصل الى أدنى مستوياته، وباتت الثقة مفقودة بكل المؤسسات القائمة. وحده الأمين العام ل"منظمة الدول الأميركية" سيزار غافيريا رئيس كولومبيا السابق يحاول إيجاد حل ما قبل فوات الأوان. وتبدو البلاد اليوم في سباق ضد الوقت: الحكومة تطالب بوقف الإضراب وتوحي بقبول تنظيم إستفتاء كما ينص الدستور في أواسط آب المقبل. فيما المعارضة لا تثق بهذه الوعود وتطالب بإستقالة شافيز أو أقله تنظيم هذا الإستفتاء أو إنتخابات عامة في الفصل الأول من السنة الجديدة كموعد أقصى.
والسؤال المطروح بقوة: أي فنزويلا تحتضر وأيها تنبعث؟
في الواقع، يبدو وضع شافيز في حكم المنتهي. فالبلد منقسم على نفسه. اذ في بعض الأحياء، يبدو الوضع طبيعياً ويفتح التجار مخازنهم، وفي أحياء أخرى يصيب الشلل معظم القاعات ويحتل الناس الشوارع ليلاً ونهاراً. ولكن هنا وهناك، يتطلب الحصول على الوقود ساعات طويلة من الانتظار، وتصطف طوابير طويلة أمام المصارف لسحب مدخراتها. وفي ساحة فرنسا، يتجمع عشرات من كبار الضباط المتمردين.
أوساط القصر الجمهوري ووسائل الإعلام الموالية، تصف الوضع ب"الطبيعي بعد فشل الإضراب". ووسائل الاعلام المعارضة تضخم كل حادث مهما كان صغيراً. هكذا هي فنزويلا اليوم، الشعب يعيش حال إنفصام والواقع يتجه الى التفتت. فالطرفان خرجا من أي سياق منطقي، وما يجمعهما هو ولاء أعمى أو كراهية مطلقة لشخص الرئيس. وعندما يلتقي الطرفان اللذان يعيشان حال مواجهة إفتراضية بواسطة وسائل الإعلام، يندلع العنف، وعادة بمبادرة من الطرف الحكومي. لم يجمع بين الطرفين أخيراً إلا ممثل "منظمة الدول الأميركية"، بحكم صلاحياته الذي تخوله دعوة المنظمة لإقرار قطع علاقات القارة مع البلد. إنه نوع من الحائط الإحترازي الذي يمنع إنفجار العنف في إنتظار حل ما يبدو صعب المنال مع مرور الوقت وتشدد كل طرف في مواقفه وانتظاره رضوخ الآخر، إن لم يكن بعد أيام ففي أسابيع.
لكن فنزويلا التي تنزف مالياً لن تكون قادرة على الصمود أسابيع أخرى في وضع كهذا. العناصر المنطقية تدل أن شافيز يعيش آخر أيام حكمه، لكن المنطق على أي حال لا يحكم بالضرورة تطور الأحداث الذي يتبدل كل يوم. في الأيام الأخيرة، أخذ رئيسا البرازيل والإكوادور الجديدان وكلاهما من أصدقاء شافيز مسافة عنه، ووجهت اليه زوجته نداء طلبت منه فيه "أن يستجيب لصرخة الشعب". لخص شافيز الأسبوع الماضي الأزمة الحالية مستشهداً بغرامشي: "عندما تستعر الأزمة، هذا يعني أن شيئاً يحتضر ولم يلفظ أنفاسه بعد، وأن شيئاً جديداً يولد ولم يكتمل بعد...". المفارقة في فنزويلا اليوم أن أحداً ليس قادراً على الجزم أي من الفنزويلتين تموت وأيهما في طريق الولادة.
* كاتب وصحافي لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.