بات واضحاً ان واشنطن تعتبر غياب الديموقراطية وحرية التعبير في المنطقة العربية من بين أهم الأسباب التي قادت الى التطرف الذي جسدته أحداث 11 ايلول سبتمبر. ولعل وزير الخارجية كولن باول ومساعده ريتشارد هاس على حق في انه من الضروري الدفع في اتجاه تحول ديموقراطي في المنطقة مع احترام القيم الثقافية والدينية لشعوبها. غير ان تخصيص 29 مليون دولار لتحقيق هذا الهدف، في مقابل رصد عشرات البلايين من الدولارات لتمويل حرب الخليج الثالثة، يبدو أقرب الى المهزلة من أي شيء آخر. فهل يتوقع باول وهاس ومؤيدوهم في الإدارة ان يقتنع أحد بجدية توجه اميركا الى دعم القوى الديموقراطية في منطقة ينفق فيها النظام العراقي على أعوانه العرب والأجانب عشرات أضعاف ما خصصته واشنطن من أجل الديموقراطية؟ وهل يعتقد المبشرون الديموقراطيون الجدد، والمستشرقون في الادارة الاميركية ان بالإمكان تحقيق تحول ديموقراطي في دول تنفق الجزء الأكبر من عائداتها لتثبيت "النظام" وتركيز دعائمه بأجهزة استخبارية واسلحة اميركية وغربية الصنع لا تستخدم الا ضد الشعوب الساعية الى الحرية والانعتاق من الاستبداد؟ من المستبعد ان تكون واشنطن حققت شيئاً على صعيد بث التفاؤل في أوساط "الديموقراطيين" العرب بعد اعلانها عن تخصيص مبلغ لدعم نشاطهم يقل عن ثمن شراء طائرة مقاتلة واحدة! ومن المستبعد ايضاً ان ترتعد فرائص الأنظمة الشمولية في المنطقة خوفاً من الزحف الديموقراطي الآتي من واشنطن. ولعل أكبر دليل الى عدم جدية ادارة بوش في دعم الديموقراطية، الى جانب دعمها الفاشية الاسرائيلية ضد الفلسطينيين، هو استمرارها في التعامل في شكل طبيعي مع الأنظمة التي تدعي بأنها تسعى الى عزلها وتقويضها لمصلحة التحول نحو الديموقراطية. ولا يقتصر تنفيذ سياسة "احتواء" الأنظمة من طريق تقديم "مساعدات" اقتصادية لها على اميركا وحدها. اذ ان دول الاتحاد الأوروبي تمارس النفاق السياسي نفسه بتقديمها مساعدات مالية يتم انفاقها من خلال الحكومات التي لا توافق على قبول المساعدات تلك، إلا إذا سمح لها باستخدامها في شكل يضمن استمرار سيطرتها على الوضع القائم وتعزيز نفوذها الداخلي في شكل عام! من المفيد لواشنطن، قبل البدء في انفاق مخصصات صندوق الديموقراطية، ان تخصص مبلغاً لإقناع شعوب المنطقة أولاً بأنها ليست متحالفة مع أنظمتها القمعية. وبأنها لا تسعى الى تحقيق "الديموقراطية" في فلسطين على جثث أطفال الفلسطينيين والاسرائيليين، وبأنها جادة في توجهاتها الاقليمية عندما تخصص 10 سنتات لكل مواطن عربي في مقابل ثلاثة آلاف دولار لكل اسرائيلي! لا بد ان صدام حسين وقع مغشياً عليه من الضحك عندما سمع بمبادرة باول الأخيرة...