لم يعلق أي زعيم أو مسؤول عربي على تعهدات الرئيس الأميركي إقامة أنظمة ديموقراطية في المنطقة - بدءاً بالعراق وفلسطين - أسوة بما فعلت بلاده عقب انتصارها على المانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية. ولعل السبب في العزوف عن التعليق هو ان المسؤولين العرب لا يأخذون تلك التعهدات على محمل الجد، أو لأنهم واثقون بأن ما ينطبق على المانيا واليابان لا ينطبق على الأنظمة البطريركية التي تحكم المنطقة. ولربما يعتبر بعض الأنظمة العربية أن الأمر لا يعنيها، باعتبار أنها تطبق ديموقراطية خاصة بها، تنسجم مع الثقافة العربية، وبأن الديموقراطية على الطريقة الغربية لا تصلح نظاماً للحكم في بلدانها. الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد كان يعتبر أن نظام حكمه ديموقراطي على رغم اختلافه عن الأنظمة الغربية، وبأن لسورية خصوصيتها، أي أن ما قد يصلح للحضارات الغربية لا ينفع بلاد الشام، رافضاً فكرة الانفتاح على طريقة "بيريسترويكا" غورباتشوف التي أودت بالاتحاد السوفياتي قبل أن تودي به شخصياً. ويعرف بعض الأنظمة العربية ان اقامة نظام ديموقراطي قد يعني تقويض النظام الحاكم وأركانه، أو اضعافه وتهميشه على أقل تقدير، على رغم أن دولاً عربية مثل الأردن واليمن ولبنان أطلقت تجارب محدودة في الديموقراطية كان لها أثرها الايجابي على العلاقة بين الحاكم والمحكوم، على رغم تعرضها لانتكاسات وتقلبات في مسيرتها، من دون أن يؤدي ذلك إلى تهديد النظام فيها. ولعل الدول التي اتخذت خطوات محدودة في اتجاه التحول الديموقراطي ستكون أكثر قدرة على التعامل مع الضغوط في المرحلة المقبلة، في حال نفذت واشنطن خطتها ازاء العراق وقررت الانطلاق في اتجاه "دمقرطة" المنطقة التي يصف مسؤولون أميركيون دولها بأنها "فاشلة" في أحسن الأحوال. ويمكن في هذا السياق اعتبار تقرير الأممالمتحدة للتنمية البشرية، الذي أظهر مدى تأثير غياب الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان على فرص التنمية، بمثابة تأكيد لوجهة النظر الأميركية. أما الشعوب العربية، فهي أقل تصديقاً للإدعاءات الأميركية في شأن الديموقراطية من الأنظمة التي تحكمها. إذ شهدت تلك الشعوب مزيداً من القمع لحرياتها في فترة ما بعد أحداث أيلول سبتمبر 2001، تحت غطاء مكافحة الإرهاب، من دون أن يصدر عن واشنطن أي احتجاج أو تذمر. وفي الوقت نفسه، منحت الإدارة الأميركية مجرمي الحرب الإسرائيليين ضوءاً أخضر لمواصلة جرائمهم بحق الفلسطينيين من دون حساب، وكأنها تقول للعرب إن هذه هي الديموقراطية التي نريد في الشرق الأوسط! الأكيد هو ان أحداً في المنطقة، شعوباً وأنظمة، لن يقتنع بجدية الادعاءات الأميركية طالما أن الاحتلال الإسرائيلي يواصل، يومياً، تقديم أمثلة صارخة على استهتاره الكامل بحقوق الفلسطينيين وازدرائه لإنسانيتهم. فإذا كان ما ترتكبه إسرائيل بحق الفلسطينيين هو مثال على الديموقراطية التي تسعى أميركا إلى نشرها في المنطقة، فإن الأرجح هو أن الشعوب العربية المسحوقة ستهب للدفاع عن الأنظمة التي تقمعها خوفاً من أن يطالها مصير الفلسطينيين على يد حلفاء أميركا الجدد في النظام الاقليمي الذي تعد واشنطن بإقامته. فالأمور نسبية، والأقربون أولى بالمعروف!