اذا كانت القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ، بحسب المثل الذي كان سائداً، فالقاهرة تكتب أيضاً في المقهى، الذي له دور كبير في رعاية الأدب، ولا سيما المقهى الشعبي العامل الأهم في "تفريخ" الأدباء حتى بداية السبعينات. ففي الستينات كان الانتماء الى مقهى بذاته علامة على اتجاه الأديب، فعرف عن أدباء "متاتيا" الاتجاه الليبرالي التحرري في كتابة القصة وسرد أحداثها، فيما استقر لدى المصريين أن معظم أدباء "ريش" و"ايزافتيشي" يساريو النزعة ومجددون، واشتهر عن رواد "استمبينوس" اتجاههم الجاد الى التيارات الأوروبية الشابة ذلك الوقت. لكن الواضح ان للعامل الاقتصادي والخلل الاجتماعي أثره السلبي الشديد في أدباء المقهى، إذ بدا في السنوات الأخيرة وكأن هناك أدباء ابتعدوا من المتابعة المتعمقة، وانفصلوا عن الحركة الثقافية بتياراتها المعروفة، وشكلوا لأنفسهم مجتمعاً جديداً هامشياً صح أن يطلق عليه الكثيرون "مجتمع الأدباء المهمشين". هؤلاء "المهمشون" انقسموا بين مدعي ثقافة، وبين وافد الى خيمة الأدب من مهنة أخرى. واكتفى أدباء المقهى بتمرير أعمالهم ليراها زملاؤهم - في المقهى فقط - بعدما رفضتها دور النشر المهتمة بالأدب الحقيقي. "الحياة" حاولت رصد هذه الظاهرة فسألت عدداً من أدباء المقهى وحاولت الوقوف على المناخ الحقيقي لمجتمع الأدباء المهمشين. أحمد حسان 45 عاماً له ثلاث مجموعات قصصية تتداولها معظم مقاهي وسط البلد قال ل"الحياة": "نحن تفاعل مجتمع ولسنا نسيج وحدنا، ولسنا مسؤولين عن الوضع الذي نحن عليه. الطرق ليست مفروشة بالورود. وإذا لم يكن الاديب على علاقة بالسلطة او بالقائمين على العملية الثقافية، فإنه لن يظهر. الادب امتكلته الصفوة ولا مكان للبسطاء، على خلاف سنوات الستينات عندما كان الاديب الممتاز يخرج من أقاصي الحارة المصرية متخذاً له مكانه في الصدارة من دون محسوبية". يكمل حسان: "نحن نكتب ونقرأ لبعضنا بعضاً، ومنا من لا يطمع في أكثر من أن يشعر بالامتنان في وجوه اصدقائه، ليس أمامنا في الوقت الحالي إلا هذا الى أن يقضي الله امراً كان مفعولاً". أما الأديب الطبيب علاء صابر فقال: "معظم أدباء المقهى يحتاج الى مهنة أصلية يستطيع معها تحمل أعباء الحياة، ومن ليس له مهنة يتكفل به اصدقاؤه لأن مجتمع أدباء المقهى مترابط الى أبعد حد، وكل مقهى بمثابة وطن قومي لأفراده". وفيما يسري الرأي بين مشاهير الأدباء أن أدباء المقاهي ليسوا إلا شراذم من مدعي الثقافة وأنصاف المثقفين، يقول محمد عبدالواحد 35 سنة: "الأحكام مطلقة في هذا العصر تطاول أي شخص من دون موضوعية. واذا كان كثيرون منا يكتبون بالفطرة وينقصهم الاحتكاك، فتجارب مشاهير الادباء تشير الى أنهم مروا بالمراحل نفسها، ولكن لأن زماننا مختلف عن زمانهم، ظهرت فجوة حقيقية بين ما يمكن ان نطلق عليهم ادباء السطح، وأمثالنا من أدباء القاع". أدباء المقهى ثلاثة أنواع: المتعلمون الموهوبون، وصغار السن الذين يحاولون الكتابة، وأخيراً المجاهدون لنسب أنفسهم الى تيار الأدب. الطريف أن حامد بوتقة 62 سنة أشهر شعراء مقهى "الخُرس" في وسط المدينة لا يعرف القراءة والكتابة، لكن أشعاره يغنيها معظم مطربي النوادي الليلية الدرجة الثالثة في شوارع وسط المدينة. وفيما يعرف "بوتقة" الشاعر الراحل فؤاد حداد لكنه لا يحفظ أبياته، فهو لا يعرف صلاح عبدالصبور ولا الاسمر الراحل أمل دنقل". قال بوتقة ل"الحياة": "الريس بيرة هو الآخر لا يعرف القراءة ولا الكتابة ومع ذلك كتب اشعاراً أشهرها "السح الدح امبو" التي غناها عدوية المطرب الشعبي". وفيما يصر بوتقة على أن الشعر لا علاقة له بمعرفة القراءة والكتابة، يقول ناصر حميدة 40 عاماً: "أنا مدين لحامد بوتقة بالفضل، اذ انه علمني الاحساس الشعري الأهم في تكوين القصيدة وصوغها، وكان سبباً في ظهور شعراء عدّلوا في شكل القصيدة في ما يمكن ان نطلق عليها القصيدة الثائرة لشعراء المقهى". يضيف: "نحن نسعى الى تكوين صيغة جديدة لقصائد تدل على هويتنا ومجتمعنا الذي نحارب فيه هجوماً شرساً من الآخرين من دون أن نعرف سببه". وفيما كانت الآراء السابقة لا تعدو كونها آراء الفئة الثالثة فئة مدعي الثقافة، كان لدى من يملكون موهبة حقيقية رؤية مختلفة، إذ يقول صابر نصار 48 سنة ل"الحياة": "من خلال احتكاكي بمجتمع المقهى في القاهرة، واحتكاكي بالمجتمع نفسه في المقاهي الفرنسية وجدت أن من الخطأ مصادرة أي محاولة أدبية، إذ ان هذه المحاولات مهما كانت ركيكة فهي مهمة للحركة العاملة، ومثل هذه النوعية من المهمشين موجودة في معظم العواصم الثقافية". ويكمل: "نسبة كبيرة من أدباء الشارع ليس لديهم أي ملكة إبداعية يمكن الاعتماد عليها أو تنميتها، لكن في الوقت ذاته يخرج منهم أديب حقيقي من آن لآخر، واذا كان الإبداع تحفزه الهزات الاقتصادية والاجتماعية للبلدان، فإن هؤلاء الأدباء أدباء الشوارع يظهرون همّ الآخرين نتيجة العوامل نفسها. ومعظمهم يقلع عن عادة "أدب المقهى" فور حصوله على وظيفة مربحة، وغالباً ما تكون هذه الوظيفة بعيدة من مجال الأدب والإبداع".