أقام الرسام الزميل في "الحياة" هاني مظهر معرضاً لأعماله التشكيلية في "متحف سبيكا" في طوكيو. والمعرض الآن يجول على مدن عدة في اليابان. هنا مقالة عنه وعن رد فعل الجمهور الياباني إزاء لوحاته التي تستوحي سيرة الحلاج وأعماله. يقع "متحف سبيكا" في منطقة "مينامي اوياما" العصرية النابضة بالحياة في طوكيو، وهي النظير الياباني لضاحية تشيلسي في لندن. وفيه قدّمت الى الجمهور الياباني الاعمال الفنية الحديثة لهاني مظهر، احد الفنانين العراقيين المعاصرين. وتضمن المعرض اثنتين وعشرين لوحة وثلاثة كتب محدودة الطبعات من الرسوم المطبوعة. وباعتباري منظمة المعرض وأمينته، قررت ان اعطيه عنواناً طريفاً هو: "من الشرق الى الشرق". وكنت ارمي من وراء ذلك الى أمرين: اولاً، تسليط الضوء على الاعمال الاخيرة المتميزة لهاني مظهر، وهو فنان شرقي معروف، وثانياً، تركيز الانتباه على العلاقة بين غرب آسيا وشرقها في الوقت الحاضر. وبهذه الطريقة كنت آمل ان ادفع الجمهور الى التفكير ملياً بالروابط الثقافية القديمة بين هاتين المنطقتين من العالم عبر وسائل فنية. فقد تقاسم شرق آسيا وغربها رابطة ثقافية ثابتة عبر العصور تحت تأثير "طريق الحرير" ومن خلال الصلات التجارية التي اُقيمت عبر البحار. وفي القرن التاسع عشر، من مصر الى اليابان وما وراءها، نشأ، بتأثير الثقافة الاوروبية في تطور الفنون، مفهوم "الفنون الجميلة" كأمر مختلف عن "الفن التطبيقي". وفي دول الشرق جرى التعرف عبر قيم عصر النهضة إلى الافكار الاوروبية في شأن استخدام الرسم المنظوري والشكل البشري. لذا يمكن القول عموماً ان التأثيرات التي يشترك فيها كل الآسيويين هي قديمة وحديثة أيضاً. في الشرق، تأثر اوائل ممارسي الفن الحديث بقوة بالاساليب الاوروبية. لكن المفارقة هي أن ولادة الفن الاوروبي الحديث ذاته تدين بالكثير لاكتشاف الفن الشرقي، وتحديداً الفن الياباني وغيره من الانماط الشرقية. وبالفعل، يمثل التلاقح في تاريخ الفن، عنصراً أساسياً في ازدهاره وتطوره. ويمكن اعتبار معرض هاني مظهر في طوكيو عملية تقصٍ غير رسمية لهذه العلاقات المتداخلة كما تتجلى في عمل الفنان وردود افعال جمهوره. في دليل المعرض، كتب السياسي والاقتصادي والمثقف الياباني المعروف هايديوكي أيزاوا ان "الفن كحوار مرئي يمثل واحداً من اكثر السبل فاعلية للتواصل والتعارف الأفضل بين ثقافات العالم وشعوبه". وتابع قائلاً ان معرض هاني مظهر في اليابان يوفر "فرصة ممتازة لحوار مثمر بين الفنان وجمهوره". أما بالنسبة إليّ كأمينة لمعرض "من الشرق الى الشرق"، فكانت نتائج هذا الحوار بالغة الاهمية. وأود هنا الاشارة الى انه خلال عقد الثمانينات المزدهر انشغلت اليابان تماماً بمفهوم "التدويل" الذي اصبح موضوعاً ثابتاً في وسائل الاعلام ويتخلل كل مناحي الحياة، من السياسة الى فنون الطبخ. لكن هذا "التدويل" انصبّ في شكل اساس على تجدد الاهتمام بتجربة الشرق - الغرب في القرن التاسع عشر، مع الفارق هذه المرة بأن اليابان التي كانت آنذاك في قمة جبروتها الاقتصادي كانت تملك دوراً قوياً يوازي دور الغرب .... وكأمينة للمعرض وخبيرة في تاريح الفن، عطفاً على كوني أقمت وقتاً طويلاً في اليابان، شعرت ان اللحظة للقاء الشرق بالشرق حانت مرة اخرى، وانه يمكن بهذه الوسيلة وحدها ان نخلق مجدداً حواراً فنياً وثقافياً مبتكراً ومنعشاً بالفعل. ماذا كانت نتيجة الحوار اذاً بين الفنان هاني مظهر وزائري متحف سبيكا؟ قال الكاتب الانكليزي البارز سكوت ستوكس مؤلف كتاب مهم عن سيرة يوكيو ميشيما في عموده "من سيحرس الحراس؟" في صحيفة "طوكيو ويكندر"، ما يأتي: "انا احد الذين ضاقوا ذرعاً بالكم الهائل من سخف الفن في لندن هذه الايام. لا اريد ان استنهض نفسي في الصباح وأهرع لرؤية اعمال في معرض "تيت" لفنانين يعرضون أسرّة غير مرتبة... بدلاً من ذلك، اسعدني ان ارافق هاني مظهر في رحلة استكشافية. فهو يحرّكه اهتمام بالصوفية. ويعبّر عن ذلك برسوم تجريدية يستخدم فيها الخط، وهي مشغولة بدقة متناهية تضاهي الأسلاك في لوح دائرة كهربائية مدمجة". في هذه المجموعة، تبدو اللوحات جرداء ظاهرياً لكنها في الواقع مغطاة بترسيمات تشكيلية وهندسية وخطّية. ثم يزيل مظهر ويمحو ويشطب تدريجاً آثار فرشاته من سطح اللوحة في ممارسة مضبوطة لنسيان الذات. وكما فعل جياكوميتي ذات مرة، يؤمن مظهر على نحو مماثل بأن "الأقل هو اكثر"، وهي بالذات مقاربة يابانية تماماً. من الناحية التصويرية، يبدو ان مظهر اكتشف الصوفي الحلاج، الذي يشكل موضوع معظم اعماله الاخيرة، ماثلاً امامه تماماً كدليل هادٍ وحقيقي وليس مجرد مرجع تاريخي مبهم. ولا يكتفي بمجرد اظهار النصوص الصوفية رسماً، بل يتخذ عبر تخييله البصري لها، خطوة أخرى نحو الحرية الفنية. وبدوره أتاح له هذا، ان يستكشف تنوعاً ثرياً من الامكانات المرئية والتفسيرات الجمالية. وبحسب تعبير مايكل بن من جامعة كيتاكيوشو اليابان، فإن الموضوعات التي تكمن في لب اعمال مظهر هي الإعتاق والتقصي والتوسع. وهو يقول ان "مظهر ... لا يتناول حياة الصوفي من منظور الوعظ الروائي او السياسي، بل يحاول ان يعبّر في شكل حدسي عن جوانب رحلته الداخلية في طريقة تتعدى العصور وتمتاز بكونيتها". وفي متحف "سبيكا" قال لي الشاعر غوزو يوشيماسو ان "لعمل مظهر ايقاعاً نابعاً من التفاعل بين ما تراه العين وما هو تحت ذلك، انه مثل لعبة الاستغماية حيث هناك دوماً التناوب بين عنصري المفاجأة والتأمل". وقال مصمم أزياء في اوائل العشرينات من العمر متأثراً: "انها تعطي انطباعاً آسيوياً قوياً: اختيار الألوان واستعمال المساحة .... كلها تبدو أليفة لدي". وأضاف قبل المغادرة ان تصميمه المقبل سيستلهم لوحات مظهر. كانت غاية "من الشرق الى الشرق" استكشاف السؤال الآتي: هل يمكن من خلال أعمال هاني مظهر تكوين رؤية حدسية تقوم على تشابهات معينة بين ال"زن" الياباني والصوفية الاسلامية لتشكل جسراً بين الفنان العراقي من غرب آسيا والجمهور الياباني في شرقها؟ حظي معرض هاني مظهر بتغطية واسعة في اليابان في صحف رئيسة مثل "يوميوري" و"جابانيز تايمز"، ومعظم مواقع الأخبار على الانترنت. وغطاه البرنامج الاذاعي الشعبي "صباح الخير يا طوكيو". وكانت نتيجة هذه التغطية الاعلامية الاقبال الكثيف على المعرض في أيامه الأخيرة. وعلى رغم التنوع الكبير للجمهور من حيث الخلفية والاهتمامات فقد كانت السمة المشتركة للأكثرية ذلك الوقت الطويل الذي قضته في المعرض والتأمل المتأني في اللوحات. ولا شك أيضاً في ان الأجواء السياسية التي تضع العراق في مقدم نشرات الأخبار في كل مكان أسهمت في اثارة اهتمام اليابانيين بلوحات هاني مظهر. وربما كان المعرض بالنسبة الى الكثيرين بمثابة نافذة للاطلال على ثقافة الشرق الأوسط منفصلة عن الصراعات السياسية المعتادة. وعلى حد تعبير المذيع المعروف جون كابيرا في برنامج "صباح الخير يا طوكيو"، فإن "هذا المعرض النادر للوحات فنان من العالم العربي في متحف "سبيكا" يتيح لنا أن نضع جانباً تلك المعلومات السلبية عن الشرق الأوسط التي تبثها وسائل الاعلام". * ديبلوماسية سابقة وكاتبة من باراغواي، مقيمة في طوكيو. وهي حالياً أمينة معارض تعمل على التأثيرات والعلاقات الثقافية والفنية بين اسبانيا والشرق.