لا نكاد نعرف نموذجاً ناجحاً في توظيف السياسة الداخلية لخدمة الأهداف الخارجية مثلما نرى الحالة الإسرائيلية، فقد برعت الدولة العبرية منذ السنوات الأولى لقيامها في تحقيق الاستخدام الأمثل للتركيبة السياسية الداخلية وتأثيره على مواقفها السياسية بل ومغامراتها العسكرية ايضاً. واذا كانت إسرائيل حققت تفوقاً بدءاً من بريطانيا مروراً بفرنسا وصولاً إلى الولاياتالمتحدة الاميركية، فإننا نرى أنها تفوقت في لعبة توزيع الأدوار بين الاتجاهات اليمينية والدينية واليسارية ووظفت الديموقراطية المزعومة - لأنها تقوم على أسس عنصرية واضحة - في خدمة أغراضها الاقليمية وأطماعها السياسية. ولستُ أرى التطورات الاخيرة على الساحة الداخلية في إسرائيل الا امتداداً لذلك النهج الذي درجت عليه الدولة العبرية خصوصاً منذ بداية الحديث عن السلام وانطلاق الاتصالات بينها وبين بعض الدول العربية بعد العام 1973. إنها إسرائيل التي تدعي احياناً أن "الكنيست" طرف مباشر في الصراع مع العرب، وتقف احياناً اخرى أمام الاتفاقات لكي تزعم أن اليمين الإسرائيلي سيتحفظ أو أن الأحزاب الدينية سترفض، وكأنه كُتب على العالم كله أن ينتظر نتائج الصراعات السياسية الإسرائيلية الداخلية كما يتحتم على العرب أن يضعوا في حساباتهم أن المفاوض الإسرائيلي محكوم بديموقراطية دولته وأن كل ما يصل اليه معلق في النهاية بموافقة القوى السياسية والتجمعات البرلمانية داخل الدولة الإسرائيلية. بينما يبدو المفاوض العربي وقد حصل على تفويض مطلق لا تحدده القوى السياسية العربية وانما يضع اطاره الخارجي نظام الحكم في كل دولة فقط. وهكذا نجحت إسرائيل في أن تحتل مكاناً ليس لها، وأن تظهر بغير حقيقتها. وذلك كله يقودنا إلى تأمل المرحلة الحالية من الداخل الإسرائيلي وانعكاسها على مسرح الاحداث لكي نقرر أننا أمام وضع يتزايد فيه تأثير السياسة الداخلية الإسرائيلية على سياستها تجاه الفلسطينيين والعرب، ونحن اذ ندرك ذلك فإننا نرصد التطورات في النقاط الآتية: - أولا: ان الشهور المقبلة ستشهد سباقا محموما وتنافسا عدوانيا بين شارون ونتانياهو، فكل منهما يريد أن يثبت للناخب الإسرائيلي ولقواعد الليكود انه هو الأجدر بمواصلة العدوان على الفلسطينيين وأنه صاحب القبضة الحديد في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية، وهذا نمط جديد من توزيع الأدوار لم تكن مأساة الشعب الفلسطيني الحالية في حاجة اليه. - ثانياً: ان تقديم موعد الانتخابات الإسرائيلية يعكس هو الآخر عاملاً اضافياً في اذكاء الروح المحمومة لما تقوم به الحكومة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في المرحلة المقبلة، وهو ما يضع على كاهل القيادة الفلسطينية اعباء جديدة، اذ أن نتانياهو يأتي بسياسة متشددة ضد عرفات شخصيا وينضم الى مجموعة المطالبين بإبعاده وإنهاء دوره وتصفية زعامته، وتكمن الخطورة الحقيقية لنتانياهو في أنه إسرائيلي اميركي مباشر قادر على فتح الحوار مع واشنطن، عارف باللغة السياسية المطلوبة، مقبول لدى الجماعات الصهيونية والقوة الداعمة لإسرائيل في الولاياتالمتحدة الاميركية. فإذا كان شارون شخصية صدامية مع الادارة الاميركية احيانا فإن نتانياهو يمثل في هذه الظروف السيئة قنطرة جديدة تربط تلك الادارة بالحكومة الإسرائيلية. - ثالثاً: ان التغييرات التي طرأت على الداخل الإسرائيلي في هذه الظروف الاقليمية المعقدة توحي بأن هناك حالة تهيئة لحكومة حرب حقيقية تضم كل الصقور الإسرائيلية في مواجهة فترة مقبلة قد يكون فيها العدوان على العراق متوقعاً، كما أن الشرق الاوسط سيواجه ظروفاً جديدة يصعب التنبؤ بنتائجها حتى أن الحديث المطروح على الساحة الإسرائيلية هو هل يتعارض موعد الانتخابات الإسرائيلية المبكرة مع احتمالات العمل العسكري الاميركي ضد العراق؟. - رابعاً: ان وصول نتانياهو الى وزارة الخارجية الإسرائيلية يعطي اشارات واضحة للتعاون الاميركي الإسرائيلي في الظروف المقبلة ويوحي بالدور الإسرائيلي المنتظر في احداث الشرق الاوسط الملتهبة والتي نكاد نقف على أعتاب بداياتها، وخطورة نتانياهو الحقيقية هي أن اسلوبه في الحديث امام الرأي العام، وخطابه السياسي المعلن، وطريقة تعامله مع القيادات الدولية المختلفة، تبدو كلها مقبولة مقارنة بصفات نتانياهو المعروفة وغياب عنصر الجاذبية الشخصية لديه. - خامساً: ان النقلة النوعية التي طرأت على الدور الاميركي في تعقب الارهاب وفلول تنظيم "القاعد" في المنطقة تبدو حاليا وكأنها تدخل مرحلة جديدة بعد اغتيال المجموعة المشتبه في صلتها بتنظيم "القاعدة" وجماعة بن لادن، وهي التي جرت تصفيتها بطائرة اميركية من دون طيار داخل الدولة اليمنية في سابقة جديدة تدعو الى القلق وتثير التساؤل، من هنا فإن الاوضاع الجديدة في إسرائيل يجب تناولها في هذا السياق الجديد. إن ما أريد أن أشير اليه في هذا المقال هو التركيز على نقطة مهمة وهي قدرة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على وضع سياستها الداخلية في قمة أجندة الاولويات السياسية للشرق الاوسط كله، فلم يعد هناك مجال لتجاهل تأثير الداخل الإسرائيلي على الخارج الشرق اوسطي بل وانعكاسه على الفضاء العربي الجماهيري والحكومي على السواء، إننا لا يجب أن نستقبل الاحداث بحسن نية مطلق او بعفوية تستطرد مع ما يجري كل يوم، بل لا بد من تحليل النيات والدخول في جوهر التغييرات، لأننا تعلمنا من أحداث الشهور الاخيرة الكثير وأدركنا ان لكل شيء سبباً، كما أن لكل حديث ما يبرره، ولكل موقف ما يدعمه. ولعلي اطرح هنا تصورنا لأسوأ "السيناريوات" التي تنتظرها المنطقة العربية. فكل رصيد سوء النية الذي علمتنا اياه إسرائيل، وبكل مخزون انعدام الثقة بيننا وبينهم، استطيع ان الْمح في الأفق القريب ارتباطا زمنيا محتملا بين العملية الاميركية العسكرية ضد العراق وبين عمليات عسكرية اخرى تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين، مستغلة الانشغال العالمي بما ينتظر بغداد لكي تحاول جاهدة من جانبها تصفية القيادات الفلسطينية الفاعلة وتغيير المعالم على الارض وممارسة اقسى أنواع العدوان في المناطق المحتلة حتى ترهب الشعب الفلسطيني وتتمكن من تحضيره لقبول فتات موائد التفاوض المقبل، حيث لا يكون هناك مانع من دولة فلسطينية منزوعة السلاح، مسلوبة الارادة، تبدو كالجنين الذي يولد مشوهاً فيعاني طوال حياته، بل ويعاني معه كل من حوله، ان الشهور المقبلة تحمل في طياتها ما يستدعي كل اليقظة العربية والصحوة القومية لأننا أمام تطورات غير مسبوقة ومواقف غير تقليدية. فالجمهوريون يعيشون عرس انتصارهم في انتخابات التجديد النيابي الاخيرة التي شهدتها الولاياتالمتحدة الاميركية، كما ان الإسرائيليين يعيشون فترة تحول في التركيبة الحاكمة لا تبدو بواردها مبشرة بأي خير، بل ان هناك تعظيماً لدور السياسة الداخلية الإسرائيلية في السياسة الخارجية للدولة العبرية. وهكذا تبدو فرصة حزب العمل الإسرائيلي محدودة في الوصول الى السلطة كما أن سيطرة الصقور على القرار السياسي الإسرائيلي تبدو ممتدة لفترة طويلة مقبلة، انها لعبة توزيع الأدوار التي لم تتوقف عنها إسرائيل طوال سنوات وجودها، فاليمين واليسار والاتجاهات الدينية تصب كلها في خانة واحدة وهي تقديم القيادة المناسبة لكل مرحلة، كما ان هناك سباقاً اشرنا اليه من قبل بين الصقور نحو التشديد والتعنت والعدوان، ولعلي اتساءل هنا لماذا نجح الإسرائيليون في ما أفقنا فيه نحن، فهل صحيح أن السبب هو التفوق الديموقراطي كما يزعمون!، ربما كان جزء كبير من ذلك يمثل الإجابة على هذا التساؤل لا لأن إسرائيل تمكنت من توظيف الديموقراطية لخدمة السياسة الخارجية فحسب ولكنها لأنها امتلكت منذ البداية نظام حكم ديموقراطياً رغم كل ما يرد عليه من اتهام بالعنصرية وتكريس للفوارق العرقية، حتى أنني كنت اشعر بغيرة قومية وأنا أرى محطات التلفزيون العالمية تتسابق على متابعة احداث الايام الاخيرة في الانتخابات الإسرائيلية وتسهر مع المشاهدين ليلتها الاخيرة وكنت أصف تلك الاجهزة الاعلامية بالانحياز السياسي وتملق النفوذ الصهيوني الى أن لاحظت أن تلك الاجهزة ذاتها تعطي كل تقدم ديموقراطي في المنطقة العربية اهتماما موازياً ولكنه يتناسب مع حجم كل تجربة. فالانتخابات البرلمانية المصرية العام 2000 لأنها كانت مختلفة فقد استأثرت بقدر من الاهتمام، كما استحوذت الانتخابات المغربية الاخيرة على قدر من الإثارة الإعلامية الدولية، وتمكنت الانتخابات الاخيرة في البحرين من فرض وجودها على الإعلام الدولي والاقليمي. فالقضية إذن هي وجود الديموقراطية من عدمه لأن فاقد الشيء لا يعطيه ولن تتغير الصورة أبداً ما لم يتغير الأصل، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فهل نستطيع يوماً توظيف الديموقراطية العربية - عندما تأتي بعد طول انتظار - في خدمة الاهداف العربية العليا والمصلحة القومية الواحدة! يومها سنقول للعالم إن الشارع العربي يقبل أمراً أو يرفض قراراً فيصغى إلينا الآخرون باحترام، ويومها ستلعب الدول العربية أدواراً في ذلك الإطار وفقاً لخطة مرسومة وتنسيق عربي شامل، ويومها سننجح في توظيف التعددية الفكرية والسياسية بل والعرقية والدينية أيضاً في خدمة غايات مشتركة يسعى اليها الناطقون بالعربية كلغة اولى بغض النظر عن انتماءاتهم ومعتقداتهم وأصولهم، انه مستقبل نتطلع اليه، وحلم لا نريد أن نحرم أنفسنا منه، ومرحلة ننتظرها عندما يتطابع العالم الداخل العربي في جدية واحترام عندما يدرك أن نتائجه ستنعكس بالضرورة على الأحداث الاقليمية بل والتطورات الدولية، انها مرحلة لا تستأثر فيها إسرائيل وحدها بفرض تأثيرات الداخل لديها على المنطقة حولها بينما يبدو الجميع في حال ترقب وانتظار لا يملكون الا ردود الافعال، والتصريحات النارية، والانفعالات الوقتية. كاتب قومي، عضو البرلمان المصري