بعد مضي سنة ونصف السنة على انطلاق أحداث الربيع العربي، يحصل ما كان متوقعاً من إهمال للوضع الفلسطيني على الصعيدين العربي والدولي. ويؤدي انشغال كل من الدول المؤثرة، إما بأوضاعها الداخلية، وإما بالتفاعلات الإقليمية للثورات العربية على الأوضاع الداخلية لدول أخرى، الى استفراد إسرائيل بالفلسطينيين، فتمعن في سياسة الاستيطان والحرب الجوية والاستخباراتية ضد قطاع غزة وتواصل اغتيال الناشطين، وعملية إلغاء الشريك في عملية السلام المزعومة، من دون ضجة تذكر. وإذا كانت هذه السياسة الإسرائيلية تدل على أن العقل الإسرائيلي ليس قادراً على استخلاص النتائج من الثورات العربية باعتبارها أحد مظاهر التمرد على حكّام أمعنوا في الخنوع والخضوع لسياسة إذلال الدولة العبرية لسائر العرب في كرامتهم القومية، فيدفعها ذلك الى استباق تنامي عداء الأنظمة العربية الجديدة لها، بالإقبال على «الحل السلمي» للقضية الفلسطينية، فإن الدول العربية الفاعلة هي الأخرى تبدو عاجزة عن استخلاص العبر. وبدلاً من أن تغادر هذه الدول سياسة المهادنة والمراعاة للسياسة الأميركية المنحازة لإسرائيل التي كانت سبباً رئيساً، كامناً تارة وظاهراً تارة أخرى، للثورات العربية، من بين أسباب أخرى تتعلق بالانتفاض على القمع والديكتاتوريات والقهر... يبدو حكّام هذه الدول مستغرقين في الاستسلام أمام السياستين الأميركية والإسرائيلية القائمتين على الإفادة من الانشغالات العربية بمخاض التحولات العربية، عمّا تواصل إسرائيل ارتكابه من تهويد للقدس وتوسيع للمستوطنات واستمرار العمليات العسكرية وربما الذهاب الى حرب جديدة ضد غزة، تحت غبار الحديث عن حرب ضد إيران، من الواضح أن واشنطن لا تريدها. بل إن بعض هذه الدول العربية ذهب الى حد ممارسة الضغط على الرئيس الفلسطيني محمود عباس والسلطة الفلسطينية بالنيابة عن إدارة الرئيس باراك أوباما من أجل الامتناع عن طرح مشروع قرار للاعتراف بدولة فلسطين كعضو مراقب في الأممالمتحدة، على الجمعية العمومية الصيف الماضي. وإذا صح الاعتقاد القائل إن نشوء أنظمة عربية ديموقراطية محل الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية سيساهم في تعديل موازين القوى لمصلحة قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، (وهو قول ستثبت الأيام صحته)، فإن إهمال الأنظمة التي شهدت تغييرات في بنيتها، وتلك التي تواجه تململاً شعبياً، سيكون حتماً سبباً لضغوط شعبية متزايدة على هذه الأنظمة في المرحلة المقبلة. وعليه بات على حكام الأنظمة الجديدة، وعلى الأنظمة التي تمكنت حتى الآن من البقاء، أن تقتنع بأن حجر الرحى في قيام نظام إقليمي جديد بنتيجة التحولات العربية هو إجراء تعديل جوهري في أساليب تعاطيها مع التساهل الدولي إزاء السياسة الإسرائيلية، إذا كانت تنوي التهيؤ لعضوية هذا النظام الإقليمي الجديد. هل يعقل أن تقف الدول العربية، بأنظمتها الجديدة أو القديمة، على الحياد أمام مطالب إدارة أوباما التي استسهلت التراجع عن كل وعودها السابقة في شكل مهين، الى درجة إصرارها على السلطة الفلسطينية أن تعلّق أي طموح لوقف الاستيطان الإسرائيلي كشرط لاستئناف مفاوضات السلام مع حكومة بنيامين نتانياهو، وأن تجمّد أي تحريك للحقوق الفلسطينية حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية، وأن تمتنع عن محاولة تحريك طلب الاعتراف بعضوية الدولة الفلسطينية في الأممالمتحدة، كمراقب، وأن تكف عن حض الجامعة العربية على التحرك في هذا الاتجاه؟ وهل يعقل أن تقبل المنظومة العربية الجديدة بتحذيرات إدارة أوباما للسلطة الفلسطينية بأن عليها الامتناع عن مواصلة خطوات المصالحة الفلسطينية وتشكيل حكومة وحدة وطنية مع «حماس»، وأن تؤجل إجراء انتخابات تشريعية جديدة لأن النتيجة ستكون مزعجة لإسرائيل لأنها ستقود حكماً الى حكومة وحدة تدفع نحو تجديد المفاوضات؟ كل ذلك من دون أن يبذل أوباما أي جهد لدى الجانب الإسرائيلي لتعليق الاستيطان أو تجميده، في المقابل، أو وقف الاغتيالات والهجمات على غزة. في اختصار، تطلب إدارة أوباما من الجانب الفلسطيني أن ينسى أنه فلسطيني. وبعد الانتخابات الرئاسية الأميركية سيطلب من الفلسطينيين أن ينسوا القضية الى حين انتهاء انتخابات الكونغرس الأميركي...