حديث العالم اليوم يتنقل بين الحرب المحتملة على العراق والحرب القائمة على الإرهاب. ومفاوضات الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن على الشأن العراقي تجاهلت ما أطلقته الإدارة الأميركية من ذرائع وتبريرات لحرب على العراق لها علاقة بالحرب على الإرهاب. لكن ما حدث على مسرح موسكو في المعركة بين الحكومة الروسية والمقاتلين الشيشان أقحمت الحرب على الإرهاب في مداولات الملف العراقي، ليس بصورة تبني لمنطق الإدارة الأميركية نحو بغداد، وإنما في تكييف سياسات موسكو مع سياسات واشنطن بسبب ما حدث وما سيحدث في الشيشان. فعولمة الحرب على الإرهاب تضع كامل السياسات على مفترق جديد. وكل تفكير تقليدي تبقى ركيزته هشّة واهدافه خاطئة الأهداف إذا تجاهل العلاقات الدولية في الزمن الجديد. ملف العراق، قد ينجو موقتاً من الاقتران بالحرب على الإرهاب في مسرح مجلس الأمن. لكنها نجاة موقتة يتقرر مصيرها مع ما سيجدّ في مسرح واشنطن ومسرح بغداد. فاشلة هذه الحرب على الإرهاب، ما دامت تستخدم كتأشيرة لكثير من الحكومات لفرض سياساتها الخاطئة وتغطي على إرهاب الدولة باسم مكافحة إرهاب الأفراد والمنظمات. وفاشلة بالقدر ذاته حرب الإرهاب نفسها لأنها تنطلق من الافلاس، على حساب القضايا التي تزعم أنها تدافع عنها، برؤية تدميرية فوضوية عنوانها الأول والأخير الكراهية. فباسم الإرهاب تُستباح أرواح المدنيين وكأنها سلعة في متاجر الاقطاعيين الجدد. وتحت لواء الحرب على الإرهاب يتباهى جنرالات التطرف في معارك اختلاق الإرهاب حيناً وزرع بذوره حيناً آخر عبر لصقه شعاراً على حروب لا علاقة لها بالإرهاب. أولياء التطرف في واشنطن يستقتلون لإضفاء الإرهاب سبباً وذريعة وحجة على الحرب المزمعة على العراق. وجنرالات التطرف في إسرائيل يضعون الشراكة مع أميركا في هذه الحرب في صدارة أولويات امتحان التحالف الأميركي - الإسرائيلي وتمتينه في الحرب على الإرهاب. شركاء التطرف هؤلاء ينطلقون من فكر سياسي وأخلاقي مريض قوامه ان مكافحة الإرهاب تتطلب ارهاباً مضاعفاً إنما مغلفاً بمبررات "حضارية" للتغطية على سياسات مفلسة في صميمها، إذ أنها تقفز على العدل والحقوق ومقومات المعالجة السلمية للنزاعات. سياسات هدفها الضمني تأجيج الإرهاب لتأجيج الحرب على الإرهاب لغايات خفية. روسيا، هذا الأسبوع، أخذت الحرب على الإرهاب إلى منعطف جديد. ما قام به المقاتلون الشيشانيون هو إرهاب، بغض النظر عما اذا كان في ذهنهم التفاوض أو لفت الأنظار إلى قضية الشيشان المنسية عالمياً، فيما المؤسسة العسكرية الروسية تفتك بالشيشانيين مقاتلين ومدنيين أبرياء. فأخذ أكثر من سبعمئة مدني بريء في مسرح موسكو رهائن هو الإرهاب بعينه، وهو مثال آخر على افلاس حرب الإرهاب. قد يقال إن ما حدث في مسرح موسكو ايقظ بعض العالم إلى أن هناك قضية في الشيشان يجب الكف عن تجاهلها، وأن التجاهل الأعمى لهذه القضية اضطر المقاتلين الشيشان للجوء إلى هذه الوسيلة. والرد هو ان نوعية الاهتمام أمر مهم. فما تركته أحداث مسرح موسكو من إدانة للحكومة الروسية لم يعفِ الشيشان من القدرة نفسه من الإدانة. لم يأتِ الإرهاب بالتعاطف المرجو مع المعاناة الشيشانية، ولم يؤدِ بالحكومات إلى إعادة النظر في سياساتها. جاء باهتمام عابر، عبر كارثة إنسانية، بل لعله اساء إلى عدالة القضية الشيشانية لأنه نقلها من خانة الضحية إلى خانة الاقتران بالإرهاب. حكومة فلاديمير بوتين، من جهتها، أعادت روسيا إلى عهد الاتحاد السوفياتي، ليس فقط بفظاعة حساباتها التي اختزلت أرواح مواطنيها مسبقاً في اقتحامها المسرح، وإنما أيضاً باستخدامها نوعاً من الغاز المسمم للاعصاب ليس جلياً بأنه لم يكن من الغازات السامة المحظور استخدامها، لأنها أسلحة كيماوية أو بيولوجية. ثم ان السرية التي رافقت محنة أهالي الضحايا، بمنعهم من الاتصال بالرهائن في المستشفيات، لها نكهة ستالينية. هذا إلى جانب قتل الشيشانيين الذين قاموا بالعملية من أجل قتل رسالتهم ودفنها في النسيان. ردود الفعل العالمية على تصرفات الحكومة الروسية، خصوصاً الحكومية منها، ملفتة. فلو حدث هذا قبل زمن 11 سبتمبر لاختلفت الردود جذرياً. وهذا جزء من الخلل الأساسي في الحرب على الإرهاب. اذ أصبحت هذه الحرب حرباً على القضايا وتأشيرة مرور للحكومات لتمارس إرهاب الدولة. منطقياً، تتطلب الحرب على الإرهاب صرامة ضد الإرهابيين مع حشد قاعدة شعبية ضدهم تنطلق من اقتناعهم بأن هؤلاء دخلاء على القضايا، الأمر الذي يتطلب بالضرورة معالجة حقيقية للقضايا وتصحيح الاعوجاج في السياسات نحوها بصورة متوازية مع نسف شبكات الإرهاب وركائزها، هكذا يتم اقتلاع شوكة الإرهاب من جذورها. ما يحدث هو العكس تماماً، انطلاقاً من تقويض قاعدة الاعتدال في الصفوف الشعبية، وتجنب الحلول العادلة للقضايا، وتعزيز الإرهاب من خلال تعزيز الاحباط، وتشريع أبواب المساومات. روسيا في حاجة إلى غض النظر عما اقترفته في مسرح موسكو وما تنوي اقترافه في مسرح الشيشان لإبراز رجلها، فلاديمير بوتين، قوياً غير آبه عازماً على قهر الشيشان. وهذا تطلب مرونة في ملفات أخرى، أبرزها ملف العراق. مطلع هذا الأسبوع، كانت النبرة الروسية في مداولات مجلس الأمن في الشأن العراقي قوية لدرجة الانذار بمواجهة حقيقية مع الإدارة الأميركية لحجب الشرعية الدولية عن غاياتها العسكرية في العراق. بعد أحداث مسرح موسكو، خففت النبرة، وعاد موسم المساومات. لذلك برزت بوادر التفاهم والاتفاق بعدما ألصقت حرب الإرهاب التي انطلقت من الشيشان نفسها على ملف العراق، وإن كان من دون قصد. انحسار زخم الموقف الروسي كان له أثر في مواقف الدول الأخرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن. فرنسا قادت الجولة الأولى من الاحتجاج على نص مشروع القرار الأميركي الذي تضمن صلاحية تلقائية لاستخدام القوة انفرادياً بقرار سيادي من واشنطن، وكانت متكلة على روسيا لتقود الجولة الثانية. بعد انحسار الزخم الروسي، اضطرت فرنسا لتعديل استراتيجيتها بعدما وجدت نفسها مرة اخرى في عربة القيادة. هذه من المرات النادرة التي يتماسك فيها الموقف الفرنسي باصرار وعزم وجدية. فباريس منذ البداية، عارضت التلقائية والانفرادية واقترحت مرحلتين بقرارين، الاول يعطي العراق الفرصة الاخيرة للعراق لينفذ مطالب التفتيش والثاني يعطي صلاحية استخدام القوة العسكرية بعد اخفاق العراق في التعاون. ما قبلت فرنسا به حتى الآن هو قرار واحد واجتماع لمجلس الامن، قد يصدر عنه قرار آخر، معتبرة ان هذا يلبي المرحلتين وان لم يكن بالصورة التي ارادتها، انما ما تعارضه هو ان يتضمن القرار لغة التلقائية والانفرادية الواردة في الفقرات العاملة الاولى والثانية والثالثة والرابعة من المشروع الاميركي البريطاني. واشنطن تصر على الاحتفاظ بحق الانفرادية والتلقائية في استخدام القوة العسكرية من دون العودة الى مجلس الامن للحصول على صلاحية صريحة، وتصرّ ايضاً على ضوابط لفرق التفتيش تجعلها في رأي كثير من اعضاء المجلس استفزازية وغير واقعية. هذه الايام تبرز ملامح اتفاق على صياغات تتعلق بمهمات التفتيش يمكن اعتبارها حلاً وسطاً نتيجة تنازلات اميركية وروسية وفرنسية ساهم في التأثير بها الرئيس التنفيذي للجنة الرصد والتحقق والتفتيش انموفيك الدكتور هانز بليكس والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي. بقي العمل الدؤوب على ناحية التلقائية والانفرادية والتي تدخل تحت عنوان كيفية ادراج انتهاكات العراق للقرارات ب "خرق مادي" يتطلب اجراءات. فلا خلاف على استخدام العبارة في حد ذاتها، انما الخلاف على كيف وأين، بفعل الماضي او الحاضر او المستقبل. اي باعطاء فرصة حقيقية صادقة للمفتشين للقيام بمهمة مهنية او بافتراض مسبق ومبطن بفشل عمليات التفتيش من اجل تفعيل اجتياح العراق حسب الروزنامة الاميركية المعدة. ارجوحة التقدم والتعثر في المفاوضات ليست بدعة وانما هي نتيجة اشتباك الاستراتيجيات في شأن بالغ الاهمية هو مصير العراق والمنطقة. لكن المؤشرات لا تفيد بحرب فيتو في مسرح مجلس الامن. فالفيتو الروسية باتت غير واردة تماماً خصوصاً بعد التعديلات الاميركية على نص مشروع القرار. والفيتو الصينية لا تلوح في زمن اكتفاء الصين بالامتناع. والفيتو الفرنسية باتت مُستبعدة لأن فرنسا لا تريد ان تقف وحدها ندّاً للولايات المتحدة من اجل العراق اذا ما وصلت الامور الى المواجهة. لكن الادارة الاميركية تريد ما هو اكثر من قرار يحصل على دعم تسعة دول وتمتنع عن التصويت عليه ست دول، تريد قراراً يحظى بأوسع قاعدة دعم، ان لم يكن بالاجماع. لذلك، قدمت الولاياتالمتحدة تنازلات أهمها السماح بعودة المفتشين بموجب القرار، بعدما كان صقور واشنطن في صدد عرقلة تلك العودة. واعتبرت تلك التنازلات نصراً لوزير الخارجية كولن باول الذي حارب نسف الديبلوماسية واعطاء الفرصة الاخيرة للعراق، عبر الاسراع الى الخيار العسكري. الحكومة العراقية راهنت على الانقسام الجذري في صفوف الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الامن. ويبدو رهانها الآن على وشك التيقظ للواقع السياسي في زمن الحرب على الارهاب. امامها الآن خيار واحد يُجمع عليه اعضاء مجلس الامن كافة وهو التعاون الكامل والتام مع فرق التفتيش بغض النظر عن "استفزازات" او طعون في السيادة العراقية. فهذه الفرقة مكلفة بنبش العراق، فوق الارض وتحت الارض، وبتحرٍ واستنطاق، وبنفاذ صبر من نمط الماضي من اخفاء ثم اكتشاف. وحتى لو كان في ذهن الادارة الاميركية المضي الى اجتياح العراق مطلع السنة المقبلة، فقد يكون التعاون العراقي مع بليكس والبرادعي وحده صمام الامان وصندوق المفاجآت التي قد تضع عصا في عجلة الحرب الاميركية.