اضيف (اللكودة) الى عناوين المرحلة التي نعيشها، لكي تنضم الى ما ذكرته في الاسبوع الماضي عن الاستباحة والملطسة او الملطشة. و(اللكودة) مشتقة من الليكود في طبعته الشارونية، التي تتبنى نهجا احاديا مفترسا، يلغي السياسة ولا يستخدم الا لغة القوة التي تخاطب الجميع بالقبضة الحديدية، ولا يتردد في الاطاحة بأي شيء يعترض طريق الوصول الى الاهداف المرصودة، دون اعتبار لاحد او قيمة، حتى اذا ادى ذلك الى هدم المعبد على من فيه. (1) لست صاحب مصطلح (اللكودة) فالذي صكه استاذ امريكي في جامعة جورجتاون اسمه جون ايكنبري. وقد اطلقه مؤخرا على ادارة الرئيس بوش، التي تضم عناصر شديدة الحماس لليكود، وتبدي استعدادا مدهشا لتقديم مصالحه على مصالح الولايات المتحدة الامريكية، وقد استطاعت تلك الفئة ان تؤثر في السياسة الامريكية، وجعلتها تتبنى مواقف غلاة اليمين الاسرائيلي، ولا ترد لشارون طلبا حتى اذا تحدى ارداة المجتمع الدولي، كما حدث في رفضه لاستقبال اللجنة التي شكلها مجلس الامن لتقصي الحقائق في مذبحة جنين. مصطلح (اللكودة) لقي هوى لدى بعض الباحثين الغربيين، حتى استخدمته الباحثة البريطانية هيلينا كوبان، وعقدت مقارنة بين سياسة الرئيس بوش الخارجية وسياسة رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون، بينت التشابه بين نهج الرجلين في عسكرة السياسة والانفراد بالتصرف بعيدا عن الارادة الدولية. وقارنت ايضا بين علاقة الجمهوريين بالديمقراطيين في الولايات المتحدة، وبين علاقة الليكود مع حزب العمل في اسرائيل، مبينة ان الجمهوريين جروا الديمقراطيين وراءهم، كما فعل الليكود مع حزب العمل. وجدت ان (اللكودة) تحولت الى مدرسة في الاداء السياسي، تناسبت مع اجواء المزاج الحربي والقمعي الذي ساد بعد 11 سبتمبر، وفي ظله فرضت على العالم الاجندة الامريكية التي تحتل الاولوية الاولى فيها مسألة الحملة ضد الارهاب. واريد لدول العالم ان تنشغل بتلك الحملة، وان تقدمها حتى على اولوياتها وهمومها الخاصة. وحتى اكون دقيقا فان تلك اللكودة وما تستصحبه من افتراء واستقواء واستهتار بحياة الآخرين وحقوقهم، لا تمارس الا حين يكون الآخرون من العرب والمسلمين، ذوي الدم الرخيص. وهم الذين تحولوا الى منطقة رخوة، تغري اي طرف بان يتغول فيها ويتمدد، وهو مطمئن الى انه سيظل آمنا، وسيخرج من مغامرته سالما وغانما، في الاجل القصير على الاقل. كل ما فعلته انني توسعت في مفهوم اللكودة، ووجدت ان المصطلح يحتمل معنى الغلو في التحيز لصالح اسرائيل في مواجهة العرب والتأييد المستمر لسياستها الوحشية ازاء الفلسطينيين، كما انه يحتمل ايضا ممارسة تلك السياسة الوحشية من جانب اي دولة في مواجهة العرب والفلسطينيين. (2) ماحدث في موسكو مؤخرا نموذج للكودة بمعناها الثاني. وهو مشهد ارجو ان تدقق فيه جيدا. فقد قام حوالي 50 من الشيشانيين باحتجاز 800 شخص داخل قاعة للمسرح، واشترطوا لاطلاقهم ان تنسحب القوات الروسية من بلادهم. وكان ذلك خطأ لاريب، دفع ثمنه حوالي 200 شخص من الابرياء قتلوا اثناء عملية اقتحام المسرح، جراء الغاز السام الذي سرب الى داخل القاعة، فشل حركة المجموعة الشيشانية وادى الى وفاة ذلك العدد الكبير من رواد المسرح، وقد نقل منهم 600 الى المستشفيات لعلاجهم من آثار الغاز السام الذي تكتمت السلطات الروسية طبيعته، حتى الان على الاقل. الشيشانيون لم يقتلوا المائتي شخص، ولكن الجهة الروسية التي تولت عملية اطلاق الرهائن هي التي قتلتهم، واستبعد تماما ان يكون لجوؤها الى استخدام الغاز السام قد تم دون موافقة الرئيس بوتين. وهو ما يسوغ لنا ان نقول ان العمل الارهابي الذي قام به الشيشانيون ردت عليه الحكومة الروسية بعمل ارهابي آخر اشد جسامة وابعد اثرا. فالذين احتلوا المسرح كانوا مجموعة افراد، هددوا بقتل الموجودين تباعا اذا لم تستجب السلطات الروسية لطلبهم، وتلك نتيجة كان يمكن تجنبها عن طريق التفاوض والبحث عن حل سلمي للموقف. اما الذين اصدروا الامر باستخدام الغاز السام المحظور دوليا فقد كانوا يعلمون ان بعض الروس الموجودين داخل القاعة سيقتلون بسببه حتما. ومن ثم فان القتل اذا كان احد الاحتمالات في حسابات الشيشانيين، فانه كان امرا مؤكدا عند صاحب القرار الروسي، الذي اعطى الاولوية لسحق الخاطفين، مطيحا بامكانية التفاهم حول حل سلمي او مخرج سياسي يقبل ببعض التراجع ويتجنب ذلك المصير البائس الذي لقيه الضحايا، وفي الاستسلام للعناد والكبرياء الليكودي، فان الرئيس بوتين لم يتردد ايضا في استخدام الغاز السام، مطيحا بالحظر الدولي المفروض عليه (لاحظ ان الرئيس صدام حسين يؤاخذ الان لاستخدامه نفس الغاز السام ضد الاكراد، وان بلاده مهددة بالغزو بزعم تدمير ما لديها من مخزون اسلحة الدمار الشامل)! (3) لقد قرىء الحادث بحسبانه مجرد عمل ارهابي، وهو كذلك بالفعل. وحين سئلت عما اذا كان الشيشانيون شهداء ام انتحاريون، قلت ذلك تحدده نواياهم، لكني احسب ان ما قاموا به يعد عملا انتحاريا، لان الابرياء الذين قتلوا بسببهم او كان يمكن ان يقتلوهم هم ليسوا محاربين ولا هم مغتصبون كما في الحالة الاسرائيلية. لذلك فارجو الا يلتبس الامر على احد في هذه الجزئية. لان ازهاق ارواح الابرياء خط احمر عقيديا، قبل ان يكون سياسيا او قانونيا. اللكودة التي اتحدث عنها لم تتجل فقط في عملية اقتحام المسرح، ولكن ايضا في مجمل التعامل الوحشي مع الملف الشيشاني، وهي الخلفية التي تجاهلها كثيرون، وهم يصفقون لنجاح العملية. ذلك ان الشسيشانيين الذين استولت روسيا على بلادهم منذ ثلاثة قرون تقريبا، يناضلون منذ ذلك الوقت دفاعا عن استقلال بلادهم، وفي المرحلة السوفيتية اعتبرت شيشينيا احدى الجمهوريات التي تمتعت شكليا بالحكم الذاتي. وقد راودهم حلم الاستقلال بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، واعلنوه بالفعل في عام 94. وكنت آنذاك ممن تحفظوا على تلك الخطوة، وكتبت مفضلا ان يعيش الشيشانيون ضمن الكيان الكبير ليس فقط بسبب وضعهم الجغرافي وتشابك مصالحهم ومواردهم مع موسكو، ولكن ايضا لان امكانياتهم لاتساعدهم على اقامة دولة مستقلة، وهم بحاجة الى وقت لكي يقفوا على اقدامهم، وهو ما فعلته جمهوريات اسلامية اخرى مثل تتارستان وداغستان وانجوشيا. وكان الشرط الذي تمنيته ان يتاح لهم في ظل الكيان الكبير ان يحافظوا على حرياتهم العامة فضلا عن حرياتهم الدينية بطبيعة الحال. ومع الاسف ان القيادة الروسية في عهد الرئيس بوتين واجهت طموحات الشعب الشيشاني بالاسلوب الليكودي والشاروني، حيث عمدت الى سحق الشيشانيين واخضاعهم بابشع الاساليب، واستبعدت اي حل سياسي يلبي الحد الادنى من طموحات ذلك الشعب المقاتل والعنيد. اذ بعد انهاء الانفصال وتدمير العاصمة ومظاهر العمران في شيشينيا كثفت موسكو من وجودها العسكري هناك، وواصلت نهج القهر والقمع. وهو ما عمق من مشاعر الغضب لدى الشيشانيين، الذين اشتدت مقاومتهم واصروا على مواصلة النضال ضد الهيمنة الروسية. بعد 11 سبتمبر، واعلان واشنطون عن حملتها الدولية ضد الارهاب، انتهزت موسكو الفرصة واعتبرت المقاومة الشيشانية (ارهابا) يبرر القمع والقهر، وهو ما رحبت به واشنطون، فضلا عن ان المناخ الدولي كان مواتيا انذاك. واذ وجدت القيادة الروسية غطاء اطلق يدها في سحق الشيشانيين، فانها حاولت اغلاق الملف مستبعدة اي حل سياسي، ورافضة اي تفاهم مع قيادة المقاومة. واذ ادرك الشيشانيون ان الابواب سدت في وجوههم، وان قضيتهم تراجعت في الساحة الدولية? في حين ان القوات الروسية واصلت افتراس شعبهم وبلادهم مرتكبة ما لا حصر له من جرائم الحرب، فان مجمل هذه الظروف اوصلتهم الى شفا اليأس. وكان لجوؤهم الى تلك العملية الانتحارية، التي احسب انهم يعلمون جيدا انها لن تجلب لهم الاستقلال، لكنها ربما لفتت الانتباه الى قضيتهم، واستدعت ملفها الى الواجهات مرة اخرى. كما حدث في فلسطين فان النهج الليكودي فشل في قتل روح المقاومة، في حين اجج الغضب ورفع من وتيرة الاصرار على استمرار النضال، فان ذلك تكرر ايضا لدى الشيشانيين، الذين واصلوا تحديهم لهيمنة موسكو، واسقطوا طائرة هليكوبتر روسية بعد حادث المسرح بيومين. وكان ذلك اعلانا عن فشل مشروع (اللكودة) وتأكيدا لقصر نظر رموزه، الذين تملكهم غرور القوة حتى نسوا دروس التاريخ فضلا عن سنن الحياة. (4) ظاهر الامر ان الرئيس بوش ماض على طريق (اللكودة) في تعامله مع العراق. اذ تدل مختلف الشواهد على انه مصر على اشهار العصا الغليظة، وشن الحرب مهما كلفه ذلك، برضا المجتمع الدولي او رغما عنه. وذلك رغم قبول العراق بالسماح بعودة المفتشين الدوليين دون قيد او شرط. وثمة كلام كثير عن التكلفة المالية المقررة للحملة العسكرية، التي قيل انها ستصل الى مائة مليار دولار، يأمل الامريكيون في تعويضها في حال وضع ايديهم على ثروة العراق النفطية. وهناك كلام آخر عن حكومة مابعد الاجتياح. تخلله حديث عن احتمال تعيين حاكم عسكري امريكي مؤقت للعراق. وهناك جدل حول احتمالات استخدام العراق اسلحة غير تقليدية في الرد على الاجتياح الامريكي، وفي بعض الدول المجاورة تدريبات واحتياطات لمواجهة ذلك الاحتمال. مالم تسلط عليه اضواء كافية في اللغط الدائر هو اصداء اجتياح العراق على الصعيد السياسي في العالمين العربي والاسلامي. نعم تحدث البعض عن انقضاض اسرائيلي على الفلسطينيين يستثمر لحظة انشداد الابصار الى الحاصل في العراق، لكن تداعيات الاجتياح في المحيط العربي الاسلامي الكبير تحتمل العديد من التوقعات، التي تتراوح بين الزلزال والهزات الارضية، الامر الذي يفتح الابواب لمختلف تجليات الفوضى والعنف. وحتى لا اكون مبالغا او متشائما، فانني استشهد بتعليق على التفجير الذي وقع في (بالي) وراح ضحيته 190 شخصا من رواد احد الملاهي التي يرتادها السياح الغربيون للجزيرة الاندونيسية. التعليق نشرته صحيفة (جاكرتا بوست) وكتبه واحد من ابرز المحللين السياسيين الاندونيسيين، هو يوسف ونندي مؤسس مركز جاكرتا للدراسات الاستراتيجية والدولية. وفيه ربط بين واقعة التفجير والسياسة الامريكية في الشرق الاوسط. وقال انه مالم تمارس واشنطون سياسة اكثر توازنا في الصراع العربي الاسرائيلي، فان القادة المسلمين المعتدلين في جنوب شرق اسيا سيجدون صعوبة في مواجهة نفوذ المسلمين الراديكاليين على الرأي العام المحلي. واضاف ان الناس في اندونيسيا يشاهدون على شاشات التليفزيون كل يوم القمع الوحشي لاخوانهم المسلمين واهانتهم، الامر الذي يملؤهم سخطا على السياسة الامريكية المنحازة لاسرائيل التي تصر على احتلال بيت المقدس وتدنيسه. وقعت على تعليق ونندي في ثنايا مقالة كتبها الصحفي البريطاني باتريك سيل، انتقد فيها الدروس الخاطئة التي استخلصتها العواصم الغربية من تفجير ملهى بالي (نشرتها الحياة اللندنية في 10/18) في مقالته ذكر الكاتب ان واشنطون استخفت كثيرا بالاثر المروع لدى الرأي العام العربي والاسلامي، وهو يشهد اضطهاد الفلسطينيين ومقتلهم كل يوم، اضافة الى التدمير الكامل لمجتمعهم الذي كانت الفضائيات تنقله على شاشات التليفزيون. ونبه الى ان ذلك الاثر ليس مقصورا على الشرق الاوسط وحده، وانما هو ممتد الى مختلف ارجاء العالم الاسلامي، حيث العواطف الاسلامية في اطرافه الاسيوية خاصة اقوى واشد بسبب البعد الجغرافي. الامر الذي ضاعف من غضب المسلمين على اسرائيل والولايات المتحدة المساندة لها. في رأي باتريك سيل انه اذا هاجمت امريكاالعراق، فان النقمة على الولايات المتحدة (ستتحول الى حقد وكراهية حقيقيين). وهو رأي ايده بتقرير نشرته صحيفة هيرالدتريبيون لواحد من اهم المراقبين على الساحة الاسيوية، اسمه فيليب بارونج، جاء فيه ان سياسة واشنطون نحو العراق لاتلاقي الا القليل من التأييد في شرق اسيا.. حيث الحق الخطاب الحربي ضررا بالغا بصورة امريكا. ومن الصعب ان تجد بين الاسيويين من يصدق ان صدام يهدد امريكا او ان للولايات المتحدة الحق في ان تفرض تغيير النظام في بغداد). علق الكاتب البريطاني على المسلك الامريكي قائلا ان واشنطون فشلت في مواجهة الاسباب الجذرية والحقيقية للارهاب. ولجأت الى لوم المجتمعات العربية والاسلامية. وبدلا من تغيير سياستها، فانها استعاضت عن ذلك بتوجيه الاهتمام الى تغيير العالم العربي. ولم يكن ذلك الخطأ الوحيد للادارة الامريكية، ولكنها وقعت في خطأ آخر تمثل في الرد على الارهاب بالوسائل العسكرية دون سواها، حتى اصبحت الطاقات الامريكية معبأة لتحديد هوية خصومها او معارضيها وتصفيتهم جسديا، كما فعلوا بالامس في افغانستان، وغدا في العراق وفي اي مكان آخر في العالم، وذلك باسم الحرب ضد الارهاب انها (اللكودة) ايها السادة! (5) لايزال الحريق مشتعلا لم تهدأ ناره بعد، منذ اجتياح افغانستان واسقاط نظام كابول في شهر نوفمبر الماضي. ومنذ ذلك الحين لم تتوقف حلقات العنف وتجليات الارهاب. ذكرنا ماحدث في موسكو وبالي واضيف ما اصاب الناقلة الفرنسية في المياه اليمنية ومقتل احد الجنود الامريكيين في الكويت ثم تصفية احد الدبلوماسيين الامريكيين في عمان، والباب مفتوح للمزيد. بالتوازي مع ذلك فان اللكودة الشارونية في فلسطين ماضية في طريقها بعدما استظلت بحكاية الحملة ضد الارهاب، التي استفادت منها دول اخرى لممارسة القهر بحق المسلمين، اذ فضلا عن روسيا في الشيشان فقد تعلقت الصين بنفس الذريعة في قمع مسلمي تركستان الشرقية (سينكيانج) وهو ما فعلته الهند في قهر تطلعات المسلمين في كشمير. ان طبول الحرب ضد العراق تتعالى اصداؤها يوما بعد يوم، مستصحبة معها غيوما قاتمة تتجمع في الافق، منذرة بسقوط زخات من المطر الاسود على امتداد العالمين العربي والاسلامي، الذي لن يستنبت سوى الشوك والمر. لا نحتاج الى قراءة أخرى لكي نقول اننا مقبلون على احتمالات عنف وفوضى لا يعلم الا الله شكلها ومداها. واخشى ما اخشاه ان تجرفنا الموجة فنظل نصيح مع الصائحين المنددين بالارهاب بأهله وسنينه، دونما تفرقة او تمييز بين انتاج الارهاب واخراجه، ودونما انتباه الى ان (اللكودة) هي المنتج الحقيقي للارهاب، وهي (الراعي الرسمي) له. ان (اخراج) الارهاب هو المتهم الثاني اما من ينتجه فهو المتهم الاول بامتياز.