مرّت عليّ، وعلى جيلي، فترة من الزمان هي فترة النصف الثاني من السبعينات أعتقد فيها أن الشعر نقيض السياسة، وأن السياسة نقيض الشعر. تلك كانت الفترة التي تشبعنا فيها من الصراخ السياسي المباشر الذي خنق الشعر أو معظم الشعر في عقد الستينات كله، والنصف الأول من السبعينات. وقتئذٍ، كان عدد كبير من النقاد يرى أن "شرفَ" القضية السياسية او الاجتماعية أو الوطنية التي يحملها الشعر كاف لجعل الشعر جميلاً، بغض النظر عن مستواه الفني. وإزاء ذلك كان ردُّ فعلنا عنيفاً، فقلنا إن رِفعة القضية لا تجعل الشعر رفيعاً، وقلنا إنه ليس المهم ما تقول، وإنما المهم كيف تقول الذي تريد أن تقول. وتعاملنا مع مسألة "المضمون" باستهانة وازدراء بالغين، مستهامين بمسألة "الشكل". ومن هنا كان انتقادنا الحاد لأمل دنقل وعبدالوهاب البياتي وأحمد فؤاد نجم، وكان انحيازنا لأدونيس وعفيفي مطر ويوسف الخال وأنسي الحاج. مع الوقت، ونضج التجربة والرؤية - إبداعياً ونظرياً - تعدل الموقف تعديلات اساسية. قرأنا الفصل الخاص بالفن والأدب في "ماركسية القرن العشرين" و"واقعية بلا ضفاف" لجارودي، وقرأنا التجربة الصوفية العربية، وهنري لوفيفر، وفريدريك جيمسون، وغيرهم، وعرفنا ان "الواقعية الاشتراكية" هي أوسع بكثير مما يصورها بعض التقدميين الجامدين الجدانوفيين، الذين يبحثون في الاعمال الادبية عن الجمعيات التعاونية والبطل الايجابي وثورة الفقر وانبلاج الفجر المشرق. واتّزنت رؤيتنا لمسألة "المضمون والشكل"، ففهمنا ان المضمون الجديد يختار دائماً شكله الجديد، وفهمنا أن الشكل هو أكثر العناصر اجتماعية في الأدب. وبديهي أن نضج التجربة الشعرية والفكرية والحياتية، عند الكثيرين منا، ساهم مساهمة واضحة في حلول هذه المفاهيم المتسعة محل المفاهيم الضيقة السابقة. كل شعر هو سياسة، بصورة من الصور، وكل شعر هو ايديولوجيا على نحو من الانحاء، وربما كان الشعر، بخاصة اكثر الاشكال الفنية ايديولوجية، اذ فضلاً عما يحتويه النص الشعري من مواقف ورؤى و"مضامين" فكرية - مباشرة أو غير مباشرة - فإن تشكيلاته الجمالية وصيغه اللغوية وانحيازاته التقنية هي "حاملة ايديولوجيا". من هنا، خفتتْ لدي الرغبة في صون الشعر من "تلويث" الايديولوجيا، وصرتُ لا أجزع من الصلة العميقة بين الشعر والثورة. وهل يمكن أي ظاهرة اجتماعية أن تنأى عن السياسة، او الايديولوجيا، او الرؤى الفلسفية التي تحكم حركة الفرد أو المجتمع أو السلطة؟ وعلى ذلك، لم نعد نتحرج من أن نقول شعراً فيه سياسة أو بعض سياسة، ولا سيما في لحظات الكوارث العربية وهي كثيرة. هكذا فعلتُ وفعل حسن طلب وعبدالمنعم رمضان ورفعت سلام وفريد ابو سعدة وكثيرون، حتى لو وقع بعضنا - اثناء ذلك - في قدر من الزعيق الساخن الذي كنا نرفضه، وقد انزلقنا بالفعل - بلا فخر أو اعتذار - في مثل ذلك الزعيق الساخن: أنا في "سيرة بيروت" و"رباعية الحجر الكريم" وحسن طلب في قصائده عن نجيب محفوظ وأحمد زويل وشكري عياد، وأمجد ريان في "ايها الولد الجميل: اضرب"، وماجد يوسف في اغنيات الانتفاضة والحجارة، وفريد ابو سعدة في "خيول النهر". على أنني لستُ خجلاً من وقوعي - احياناً كثيرة - في هذه المباشرة الزاعقة ذات الموقف السياسي الوطني او الاجتماعي الساطع، لأنني أرى ان مثل هذه الكتابات هي بمثابة "الضريبة الوطنية" التي ينبغي أن يدفعها الشاعر دفعاً فورياً، ولأنني أرى أن شعراء الحداثة، حين يؤدون هذه الضريبة الفورية، لا يهجرون التقنيات الجمالية التجديدية هجراً كلياً، بل انهم، في الغالب، يوظفون تلك القدرات الجمالية التجديدية في خدمة "الموقف" السياسي الواضح، ولأنني لم أعد أكره المباشرة التقريرية في ذاتها بصورة مطلقة، بل أعتقد أنها يمكن - احياناً - ان تؤدي دوراً جمالياً في سياق النص حتى لو لم تكن هي نفسها جمالية أو جميلة. في هذا الإطار الأرحب، تعدّل موقفنا الحاد السابق من شعراء مثل أمل دنقل ومظفر النواب وأحمد فؤاد نجم وسميح القاسم وتوفيق زياد، وبتنا نرى ان الشعر عديدٌ وكثير وأن الشعراء بتنوعاتهم الفكرية والجمالية اشبه ما يكونون بأوركسترا كبيرة متعددة النغمات والعازفين: كل عازف منهم يؤدي لحناً مختلفاً بآلة مختلفة، لكن يضمهم جميعاً النهر الكبير للسيمفونية الواحدة. وقد سطعت رؤيتنا هذه عن "الوحدة والتنوع" في شتى المجالات الاخرى في الحياة: السياسية والاجتماعية والفلسفية. وغني عن الذكر أننا تحملنا في سبيل هذه الرؤية الواسعة "للوحدة والتنوع" الكثير من الاتهامات من رفاق الطريق السابقين، وبعض شعراء الأجيال التالية، الذين ما زالوا يرون ان هناك منبعاً واحداً وحيداً للشعر، وأن ما عداه يخرج عن "فردوس الشعر"، والذين يرون ان الحديث عن الوطن او الشعب او الأوضاع الاجتماعية هو "عار" لا يليق بالشاعر الحديث ان يتلطخ به، انطلاقاً من وهم لديهم يزعم "سقوط القضايا الكلية والحكايات الكبيرة". واعتقادي الراسخ، أمس واليوم وغداً، هو ان القضايا الكبرى لم تسقط، وان الشعر لم يبارح القيم العليا في أية لحظة. لكن تجليات أو تمظهرات هذه القضايا الكبرى في الشعر هي التي تختلف من عصر الى عصر ومن مرحلة الى مرحلة ومن جيل الى جيل: فإذا كان الشاعر، في السابق، يلجُ هذه القضايا الكبرى من أبوابها الرئيسة المركزية المعروفة، فإن الشاعر الراهن يلجُها من أبوابها الخلفية الهامشية المجهولة". أما الشعر فسوف يظل قرين الايديولوجيا ما ظل الشعر: سواء على مستوى الموقف المباشر، أو على مستوى تطور الشكل الفني الذي هو تجسيد لتطور الفلسفة التي تحكم المجتمعات، بما في هذا الشكل من "لغة"، هي - في المقام الأول - "مرآةُ فكر". والايديولوجيا ليست هي المسؤولة عن رداءة الشعر الرديء، انما الشعر الرديء رديء لأنه شعر رديء، حتى لو كان يتحدث عن الوردة. الوردةُ، نفسها، ايديولوجيا.