كل شعر جميل هو ثورة حقيقية، وكل ثورة حقيقية هي شعر جميل. لذلك، مع اندلاع كل ثورة يندلع الشعر، وفي اندلاع الشعر يختلط المرّ بالحلو، ويختلط الغث بالسمين، وحينئذ يظهر السؤال: ما هو الشعر الثوري؟ وما هي علاقة الشعر بالثورة؟ والحال أن هناك وجوهاً عدة للصلة بين الشعر والثورة، نختار منها الآن خمسة وجوه موجزة: أول هذه الوجوه: هو الأصل الفلسفي النظري للصلة الجوهرية بين الظاهرتين، ظاهرة الشعر وظاهرة الثورة حيث إن كل شعر جميل «وكل فن جميل بعامة» هو فعل ثوري تغييري في ذاته، إذ إن الفن كله «والشعر في قلبه» نشاط معرفي انقلابي تمردي يهدف إلى نقد ونفض الأوضاع الجامدة، وكسر الأنماط الثباتية المتكلسة وهو سعي دائب لتجديد الحياة، وتجسيد لشهوة إصلاح العالم - كما قال بعضهم - ورغبة في سد النقص الذي يعانيه الكون - كما قال آخرون. في منظور هذا الوجه، فإن التجديدات الفنية اللغوية أو الشكلية، في النوع الشعري نفسه، وفي تطور صياغاته الجمالية، تغدو هي ذاتها صنيعاً تنويرياً تغييرياً تقدمياً، حتى لو لم تنطوِ على مضامين ثورية موضوعية سياسية أو اجتماعية مباشرة. إن هذه التجديدات «الشكلية الجمالية» تكون في صلب العملية الثورية، حتى لو تحدثت عن الوردة أو الشجرة أو النهر أو الشهوة أو العذاب أو الأنوثة. لذلك، قال الشاعر التقدمي الفرنسي غيفيلك، ذات مرة: «إن المرأة لتلهمني أكثر مما تلهمني الإضرابات». هذا المبدأ الفلسفي هو الذي انطلق منه بعض علماء الجمال الاجتماعيين، مثل تيري إيغلتون، حين قالوا إن التغييرات الشكلية الفنية هي مناط الثورية، وليست «المضامين الفكرية»، لأن «الأشكال» هي الحافظة التقليدية للخبرة البشرية في كل مرحلة تاريخية، وهذه الحافظة التقليدية تسعى دائماً للثبات والتأطر والجمود، ولذلك يتوجب تغييرها أو هدمها أو تجديدها، من حيث كونها وعاء للأفكار ورؤى العالم الهادفة إلى التكلس وديمومة النمط. وهو المبدأ الفلسفي نفسه، الذي تبناه بعض مفكري الأدب في التراث العربي، مثل الجاحظ، حين شددوا على أن المعاني مطروحة على قارعة الطريق، وإنما يتفاضل الناس «الأدباء» في طريقة التنضيد والصوغ. كما أنه المبدأ الفلسفي نفسه، الذي مدّه أدونيس، بين المعاصرين، إلى آخر قوسه، بتأكيده المتواصل أن المهمة الأولى للشاعر الثوري هي «تثوير» لغته وصوره وصياغاته الشعرية، لا تثوير المجتمع مباشرة، وهو حين يثوِّر لغته وصوره وصياغاته، فإنما يساهم في تثوير المجتمع، ولكن عبر مجاله المخصوص: الشعر. والشعر، كذلك، يمكن أن يكون ثورياً باحتوائه أفكاراً أو آراء أو معاني تقدمية أو تمردية أو رافضة، حتى وإن ظلت الصياغات الفنية فيه عادية أو تقليدية، أما إذا اجتمع العنصران «الثورية الشكلية والثورية المضمونية» فإن مثل هذا الوجه من علاقة الشعر بالثورة يصبح في أبهى حالة وأكمل هيئة، إذ يندمج الجناحان في سبيكة مصهورة واحدة: ثورة الشعر وشعر الثورة. ثاني هذه الوجوه: هو الشعر الذي يبشر بالثورة قبل وقوعها: بإدانته قبحَ الواقع، وفضحه الاستبدادَ، وصرخته ضد الظلم والقهر والهوان. من منظور هذا الوجه فإن نصوص الشاعر السوري محمد الماغوط في الستينات الماضية هي نصوص منتمية للثورة السورية الحالية، وإن كتبت قبل نصف قرن، لا سيما في قوله: «أعطونا الساعات وأخذوا الزمن/ أعطونا الأحذية وأخذوا الطرقات/ أعطونا البرلمانات وأخذوا الحرية». وكذلك، فإن نصوص الشاعر المصري أمل دنقل منذ أربعة عقود منتمية للثورات العربية الراهنة، لا سيما تعليقه الشهير على ما حدث. وكأنه كان يرى ما سيقع في ليبيا وسورية واليمن، حين أطلقت الجيوش مدافعها على شعوبها المطالبة بالحرية والعدل والكرامة: «قلت لكم مراراً/ إن الرصاصة التي ندفع فيها ثمن الكسرة والدواء/ لا تقتل الأعداء/ وإنما تقتلنا إذا رفعنا صوتنا جهاراً/ تقتلنا وتقتل الصغارا». ويمكن أن نذهب زمنياً إلى الوراء قليلاً لنجد أن شعر الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، قبل ثمانين سنةً، هو شعر ثورة الياسمين التونسية الحالية، حينما صار بيتاه الشهيران «إذا الشعب يوماً أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر/ ولا بد لليل أن ينجلي/ ولا بد للقيد أن ينكسر» راية من أعلى رايات الانتفاضات العربية المتتابعة، وصرخة من أقوى صرخات جموع الغاضبين، ونجد أن بيت أحمد شوقي الأشهر «وللحرية الحمراء باب/ بكل يد مضرَّجة يدق» صار شعاراً من شعارات الثورات العربية الراهنة، لا سيما أنه كان جزءاً من قصيدة شوقي عن سورية، التي يقول مطلعها «سلام من صبا بردى أرق/ ودمع لا يكفكف يا دمشق»، وقل مثل ذلك في بيت اليمني عبدالله البردوني «يمانيون في المنفى/ ومنفيون في اليمن»، وفي بيت العراقي محمد مهدي الجواهري «أتعلم أم أنت لا تعلم/ بأن جراح الضحايا فم/ أتعلم أن جراح الشهيد/ تظل عن الثأر تستفهم» الذي صار سؤالاً دامياً يلقيه أهل شهداء هذه الثورات العربية في وجه الطغاة. ولا ريب في أن التجديدات الشكلية والمضمونية التي قدمتها مدرسة الشعر الحر لتطور القصيدة العبرية الحديثة «منذ منتصف القرن العشرين» وما تلاها من تيارات «حداثية»، هي مساهمات غير مباشرة في تكوين صيحة العرب الراهنة في شوارع العرب الراهنة. ثالث هذه الوجوه: هو الشعر الذي يواكب الثورة أثناء وقوعها، كما يحدث هذه الأيام في الشعر الذي يعبر عن ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، الكتابة الشعرية في هذا الوجه، كتابة ساخنة مباشرة، خارجة تواً من الأتون. لذا، فهي نصوص تغلب على معظمها السخونة المفرطة «التي قد تصل إلى الاحتراق»، كما يسود في معظمها الوقوف عند السطح الظاهري التوتر، والاكتفاء بحالة «وصف» الثورة المشتعلة في الشوارع، ووصف الدماء التي تسيل. شعراء هذا الوجه ينطلقون من مبدأ مؤداه: ضرورة أن يدفع «الشاعر/ المواطن» أو «المواطن/ الشاعر» ضريبة عاجلة للحدث الثوري المشتعل، وهي غير «الضريبة الآجلة» التي تحتاج وقتاً وروية، في هذه «الضريبة العاجلة» يقدم الشعراء نصوصاً هي أقرب إلى التظاهرات الجماهيرية والشعارات الحماسية، القائمة على المواكبة الآنية، التي قد تتخلّى عن طيب خاطر عن بعض شروط الشعر الرفيع، من أجل الوفاء بواجب المشاركة الفورية، وفي سبيل أداء الضريبة الوطنية ميدانياً، في الموقع. وقد يستطيع الشعر أن يطعّم ضريبته العاجلة الساخنة ببعض خبرته الجمالية وصدقه الإنساني، فينقذ حينئذ ضريبته العاجلة هذه من أن تكون مجرد صرخة تخلو من جودة الفن، على رغم حملها جودة الموقف. (والحق أن عدداً من الشعراء العرب، في الثورات العربية الراهنة، تمكنوا من صنع هذه «الموازنة» الطيبة: ضريبة عاجلة مباشرة لا تعدم قدراً ملحوظاً من المستوى الفني المقبول). رابع هذه الوجوه: هو الشعر الذي ينشأ بعد الثورة وهو ذلك الذي يأخذ بعض الوقت بعد أن تهدأ العواصف العاصفة فتختمر المعاني ويتم تأمل الحدث واستيعابه بروية، ليصدر في فن يجسد الثورة أو الحدث الثوري، بنضج جمالي وسياسي وفكري بعيداً من سطحية السطوح. في هذا الوجه، إن كثيرين يقولون إن الشعر الحقيقي المجسد الثورات تجسيداً حقيقياً، هو ذلك الذي يظهر «بعد أن تسكت المدافع» وينجلي غبار أقدام الجماهير الغاضبة، حتي يصفر البصر والبصيرة وينتشل النص ذاته من المعايشة الطارئة والوقتية الزائلة ليذهب إلى العمق العميق. خامس هذه الوجوه: هو انفجار ركام من الشعر الذي ينتجه هواة كثيرون. هؤلاء الهواة ربما يكونون ثوريين مخلصين أو محبين للثورة حباً صافياً، لكن ما يكتبونه لا يعدو أن يكون خواطر مرسلة ضعيفة بعيدة من شعرية الشعر (وهذا ما اكتظت به في الشهور الأخيرة الصحف العربية، لا سيما التونسية والمصرية واليمنية). في هذا الوجه ينتج «الشعراء» قصائدهم على مبدأ الحرية التي ترفعها الحالة الثورية، وعلى مبدأ «المساواة» التي توفرها دعوة «المواطنة» المتساوية عند سائر الثائرين والمواطنين، وليس من ريب في أن «الحق في قول الشعر» هو حق من حقوق الإنسان، وفي أن «المواطنة» كأسنان المشط لا تمييز فيها ولا امتياز، على أن ذلك «الحق» يتغافل عن «واجب» الشاعر تجاه تجويد الشعر، وتلك «المواطنة» تتغافل عن «شرط» أدبية الأدب، مع الاعتراف بحس النية ونبل المقصد. والشاهد، أننا إذا استثنينا الوجه الأخير «الركام الشعري من الهواة» لا نستطيع أن نفضِّل وجهاً عن وجه من الوجوه الأربعة السابقة، التي تظهر فيها الصلة الوثيقة بين الشعر والثورة: الشعر الذي هو ثوريٌّ بتشكيله الفني المجدِّد المغيِّر، والشعر الذي هو ثوريٌّ بمضامينه الفكرية التقدمية الرافضة، والشعر الذي هو ثوريٌّ بمواكبته الآنية الساخنة عبر «وصف الثورة»، والشعر الذي هو ثوريٌّ بتخمره المتأني، وتجسيده الجوهر لا المظهر في حركة الثورات الموارة. كل شعر من هذه «الأشعار» هو شعر ثوريٌّ حق، وإن افتقر كل منها إلى أمر أساسي، بما يجعله غير «كامل الأوصاف»: التشكيل الجمالي التجديدي يفتقر الى المضمون الثوري، والشعر المضموني الثوري يفتقر الى «الرافعة» الفنية التي تمنحه الشرعية الجمالية إلى جانب الشرعية الفكرية التي لا تصنع وحدها شعراً جميلاً، وشعر «الضريبة العاجلة» الذي يظفر بميزة المشاركة الميدانية الصادقة ويفقد الثقل الفني وعوامل بقاء الفن فناً، وشعر «الضريبة الآجلة» المتمهلة الذي يكسب التجسيد العميق، فيما يخسر المواكبة والحرارة والتوقيت وفضل المشاركة في صناعة التاريخ أو صناعة الحدث. أما القصائد التي تجمع في جديلة متجادلة هذه الوجوه الأربعة جميعاً «الشكل، والمضمون، والمواكبة، والعمق» فهي القصائد القليلة النادرة، وشعراؤها هم الشعراء القليلون النادرون، وحينئذ تصبح «ثورة الشعر، وشعر الثورة» وحدة وجودية واحدة.