والآن ما الذي تبقى؟ سؤال لم يطرحه الشاعر شعبان يوسف وهو يستعيد الضجيج في كتابه الصادر حديثاً "شعراء السبعينات - السيرة - الجيل - الحركة" عن المجلس الاعلى للثقافة. 11 شاعراً من جيل السبعينات يقدمون شهاداتهم في الكتاب، وكانوا قدموها سابقاً في الورشة الابداعية في منطقة الزيتون أواخر 1992 واوائل 1993. قدم أحمد طه، حلمي سالم، حسن طلب، رفعت سلام شهاداتهم شفاهية مرتجلة بينما قدم بقية الشعراء شهادات مكتوبة مسبقاً وباستثناء احمد طه اصوات ووليد منير وأحمد زرزور. فكل الشعراء يمثلون "جماعة إضاءة" التي تأسست عام 1977. وعلى رغم غياب بعض شعراء السبعينات عن المشاركة بشهاداتهم داخل الكتاب محمد سليمان، عبدالمنعم رمضان عبدالمقصود عبدالكريم، ومحمد عيد وجميعهم - بالمصادفة - من جماعة "اصوات" الشعرية... إلا أن الشهادات التي يقدمها الكتاب كافية للحديث عن حركة جيل السبعينات وخصوصاً مع وجود ابرز شعرائها الذين كانوا دائماً المعبرين عن عقل الحركة ومفاهيمها وقيمها الجمالية حلمي سالم، حسن طلب، احمد طه، ماجد يوسف، رفعت سلام. تشكك الكثيرون في مصداقية مصطلح السبعينات، وفضل ادوار الخراط احد الرعاة الرسميين استخدام مصطلح "حركة شعر الحساسية الجديدة" رغبة منه - ربما - في نزع اية ابعاد سياسية واجتماعية عن الحركة الشعرية. لكن الكثيرين ايضاً ومنهم الشعراء انفسهم قاموا بإلحاق المصطلح بالمعنى السياسي. يحدد شعبان يوسف مفهوم مصطلح جيل السبعينات ب"أنه جيل تكون على ارضية رفض الواقع الاجتماعي والسياسي الرافض لهزيمة 1967"، وهو ما يؤكده حلمي سالم من أن المصطلح "يتضمن تحديداً اجتماعياً سياسياً". ويشير الشاعر فتحي عبدالله في ندوة الكتاب "حاضر الشعر في مصر" الى أن "الحديث عن شعر السبعينات هو حديث سياسي، اي انها مقولة سياسية اكثر مما تخص الشعر الحديث. كما انها مجرد تنويع أو استكمال لمشروع الستينات، مشروع قصيدة الريادة الذي اكتشف شكله الاساس السياب ونازك الملائكة، وحُسّن في فترة السبعينات في شعر العالم العربي". ومع كل فاعلية السبعينات وقوة حركتها الدافعة لا نستطيع فعلياً الحديث عن اضافات محورية وتحولات شعرية حقيقية ومغايرة عما سبقها من قصائد بل هي في كثير من الاحيان امتداد مباشر لقصائد سابقة بل وأيديولوجيات سابقة ايضاً. لا نستطيع قراءة حسن طلب بعيداً من السياب وحجازي وأمل دنقل، ولا نستطيع قراءة محمد سليمان بعيداً من صلاح عبدالصبور ومطر، كذلك جمال القصاص، بل لا نستطيع قراءة "إضاءة" بأكملها بعيداً من قيم جمالية تقليدية سابقة خصوصاً في ذلك الاعتناء الشديد باللغة والايقاع والقيمة الصوتية للمفردة. من هنا كان السؤال الجمالي ملحقاً بأسئلة سابقة عليه وان حظي ب"دوي سياسي" أسهم في توسيع طرح السؤال. فلا نستطيع قراءة حركة السبعينات الشعرية بعيداً من الحركة السياسية السبعينية، بخاصة ان الكثير من شعرائها هم ابناء وعي سياسي ينتمي بوضوح الى تلك الفترة. يتكلم حلمي سالم على انتمائه الى منظمة الشباب الاشتراكي وانتمائه الناصري. كذلك يؤكد أحمد طه في شهادته عضويته في منظمة الشباب بينما اخفى جانبه التروتسكي. وكتب امجد ريان عن التأثيرات الماركسية وكذلك محمود نسيم. حتى حسن طلب المنسحب دائماً من الواقع والمشغول بقضايا جمالية بحتة وهموم كونية ووجودية عامة، ظل الواقع هو سؤاله المرعب وهاجسه المطارد حتى اهتدى الى اجابة شافية تتأسس فيها رؤيته داخل مشروع يعمل على جعل المقدس دنيوياً... المقدس بمعناه الاوسع السلطة السياسية، السلطة البطريركية، السلطة الاحادية والسلطة اليقينة، وبذلك اطمأن الى تحقيق البعد الاجتماعي الذي احس دائماً أنه يهرب منه... احكم حسن طلب الحصار حوله معزولاً داخل بنيته الجمالية حتى انه يعترف في شهادته بأنه ظل يخشى دائماً قراءة ادونيس ومطر خوفاً من التأثر بهما. وقد تكون اجابته عن تجربة الصراع بين المقدس والجميل اجابة متعالية أو استمراراً هرويباً آخر، لكن الواقع - حتى في هذا المعنى - ظل سؤالاً مسيطراً. لم يكن حسن طلب وحده. فالمفارقة انتهت بالوعي السياسي الحي لدى غالبية الشعراء الى التقوقع والعزلة والانسحاب داخل قصيدة مشغولة بخصوصيتها الذاتية وتفاصيلها الشخصية اليومية، داخل غرفة مغلقة. ولهذا فقدوا جماهيريتهم الشعرية قانعين بالسعي وراء "القارئ" ومعاداة "الجمهور" قابلين بالفهم الادونيسي ل"قصيدة الوردة" في مواجهة "قصيدة البندقية" أو "قصيدة الغرفة" في مواجهة "قصيدة الميدان". كانوا دائماً يساريين على مستوى الشعار والمقولات النظرية، يمينين على مستوى القصيدة المشغولة بذاتها والمتعالية على كل ما حولها. وهكذا بمراوغة يجيدها، يحدد حلمي سالم ان شعر السبعينات لم يكن دوره التعبير عن الجماهير ولكن عن اشواق الجماهير!. ويتوقف شعبان يوسف في دراسته عن "التجليات الايديولوجية في شعر السبعينات" أمام حلمي سالم كأبرز شعراء السبعينات مستنداً الى مقوله أحمد عبدالمعطي حجازي في كتابه "احفاد شوقي" 1992 بأن "حلمي سالم هو أكثر شعراء جيله تجريباً". ويرصد تحولات قصيدة حلمي الجمالية منذ ديوانه الاول "حبيبتي مزروعة في دماء الارض" 1973 متابعاً البنية المغايرة والمتشابكة في اللغة والايقاع والصورة واللغة الاستعارية التقريرية. وربما يكون حلمي اكثر تجريبية ومغامرة لكنه ايضاً أكثر جموحاً وانفلاتاً. هكذا ينتهي في ديوانه الحادي عشر الصادر حديثاً "يوجد هنا عميان" الى الانتقال من قصيدة النثر الى النثر ذاته. مثقفون... لا شعراء يقول الشاعر احمد طه "اعتقد أن التأثر بين الجيل وبعضه اكثر بكثير من التأثر بالماضي أو بالجيل السابق، لأن الشعراء في الجيل الواحد اكثر قرباً من بعضهم بعضاً عن تأثرهم بالشاعر الماضي". وأظنها فكرة لامعة هي جزء من تلك الطاقة الفاعلة التي دفعت دائماً بحركة السبعينات الى الامام "كان الهم الجماعي يشغل الجميع" - يقول أمجد ريان - وكانت "الجماعية" صيغة شرعية تنطوي على الحماية. كان العمل الجماعي هو الحل الانسب لكثير من الشعراء، خصوصاً في مواجهة حصار المؤسسات الثقافية والاعلام الرسمي. وبالفعل فهم اصدروا مطبوعاتهم ونشراتهم الدورية بقروشهم القليلة اضاءة، كتابات، كتاب اصوات، الكتابة السوداء. وسعوا الى تأسيس منابر لرؤاهم الجمالية عبر ندوات ثابتة ندوة الخميس في منزل احمد طه واستمرت أكثر من خمسة عشر عاماً متواصلة، ندوة سيد حجاب، وندوة عبدالمنعم تليمة الذي شكل مرجعية نقدية لكثير من شعراء السبعينات وخصوصاً جماعة "اضاءة". كانت الانشطة الثقافية جزءاً من فاعلية الحركة التي ظلت دائماً اقوى من مبدعيها بحكم حركتها الفاعلة وخروجها المدوي من خلال الكثير من البيانات والتغيرات. يقول محمود نسيم "ان ابرز ما في الحراك الشعري السبعيني انه لم يطرح اسماء بقدر ما طرح تفاعلاً". وحقيقة كان الوعي الثقافي لدى الكثير من الشعراء يسبق وعيهم الشعري، ولهذا أفرزت حركة السبعينات ربما مثقفين أكثر مما افرزت شعراء محمود نسيم، وليد منير، رفعت سلام وأحدثت من الضجيج النظري اكثر مما احدثت من الفعل الشعري وحققت من الجدل والسجال اكثر مما حققت من اضافة حقيقية الى مسيرة الشعر العربي والمصري على الخصوص. وبهذه الفاعلية فإن السبعينات هي دور منسوب الى حركة أكثر مما هي تنسب الى شاعر فرد. تضمنت شهادة حسن طلب مساحة متسعة لتوضيح اهمية الحركة الجماعية حتى "اضاءة" وحرصه منذ البداية على الاحتفاء بالاختلاف بين الشعراء في مقابل رفعت سلام الذي أراد التشديد على جماعية الصوت وأن يجعل الاصوات المتعددة صوتاً واحداً. ويصف محمود نسيم "اضاءة" - مبرراً ربما خروجه منها - بأنها كانت تُستخدم لترويج الذات، فضلاً عن تبريرها وكانت احياناً جسراً لمطامح لئلا اقول مطامع، وشابت آليات اصدارها المجاملات والاخطاء وكانت الغوايات الاعلامية لمحركيها مفسدة. وإذا كان وصف "اضاءة" بالانتهازية هو محض "تراشق" فإن الحركة ذاتها بلورت ملامحها في حيوية ثقافية وشعرية فاعلة ربما كانت الأكثر "تقليدية" في مواجهة جماعة "اصوات"، لكنها ايضاً كانت الاكثر اقتراباً من الواقع بينما بدا شعراء "اصوات" اكثر انعزالاً ووحشية واكثر جرأة في اقتحام المناطق المسكوت عنها، لكنهم ايضاً وفي كثير من الاحيان كانوا صوتاً مستعاراً، فهم ليسوا انتاج تجربة حية بمقدار ما هم ابناء الكيمياء وخصوصاً محمد عيد ابراهيم. الآن انتهت "اضاءة" وانتهت "اصوات" وانتهت اشتقاقاتهما وأفرزت الحركة عدداً قليلاً جداً من الاصوات الشعرية الخاصة حسن طلب، حلمي سالم، محمد سليمان، عبدالمنعم رمضان الموجودة بقوة الموهبة وإن توقف حسن طلب. فمنذ دواوينه الجميلة مثل "سيرة البنفسج" و"زمان الزبرجد" في اوائل التسعينات وهو لا يحقق اية اضافات شعرية بينما اغلق حلمي سالم ومحمد سليمان افق قصيدة التفعيلة باحثين عن خصوصية شعرية داخل قصيدة النثر. انتهى شعراء السبعينات بتمايزات قليلة، وانتهت ايضاً في صدارة المشهد الاعلامي الرسمي. فهم الغالبية الشعرية في لجنة الشعر في "المجلس الاعلى للثقافة" حلمي سالم، حسن طلب، فريد ابو سعدة وهم الغالبية المشاركة في المؤتمرات والمهرجانات الشعرية عبدالمنعم رمضان، حلمي سالم، رفعت سلام، جمال القصاص، فريد ابو سعدة، حسن طلب وهم ايضاً الغالبية المشرفة على الصفحات الثقافية في الجرائد والمجلات وقنوات التنوير حلمي سالم، حسن طلب، جمال القصاص، ماجد يوسف، رفعت سلام، محمود نسيم، احمد زرزور. وليس بالإمكان الحديث عن حصار ثقافي لشعراء السبعينات، فهم الغالبية من دون أن يعني ذلك انهم الممثلون الحقيقيون والوحيدون لحركة الشعر المصري.