يدور نقاش عربي غير مباشر بين أقلية مؤيدة وغالبية معارضة للحرب على العراق، وفي الجانبين من يعادي أو يؤيد النظام العراقي في كل الأحوال، أما الأكثرية فلا تنطلق برفضها الحرب من تمسك ببقاء هذا النظام بل من مخاوف مشروعة تتعلق بالمستقبل. وكما تاجر فرقاء دوليون طوال العقد الماضي بمعاناة الشعب العراقي وانتهوا عملياً الى جعله الضحية الدائمة للحظر والعقوبات، كذلك يتحاجج المعارضون والمؤيدون متداولين تلك المعاناة كأنها الورقة الحاسمة في ترجيح وجهة نظر على أخرى. فهناك الآن من يدافع عن "حرب بوش" لأنها تعني بالنسبة اليه "تحرير" الشعب العراقي من ظلم صدام حسين ونظامه، لكن المدافعين عن هذه الفكرة ينسون أنهم طالما تجاهلوا الشعب ومآسيه بل نفثوا أحقادهم عليه في كل مناسبة. في المقابل، هناك الآن من يدافع فعلاً عن النظام باعتباره يمثل "ثروة قومية" تجب المحافظة عليها. الأكيد ان المؤيدين للحرب ينطلقون من دوافع محلية جداً ويرفضون النظر الى أبعد من مشاعرهم ليروا كل ما تنطوي عليه هذه الحرب من مخاطر. ولا يعني هذا ان معارضي الحرب عرفوا كيف يطرحون أفكارهم بشمولية تشرح لعموم الناس الأبعاد المتوقعة للحدث واستشراف سلبياتها على المنطقة دولاً ومجتمعات. ففي المبدأ، وفي الأساس، لا يمكن أن تكون الحرب، والحرب فقط، علاجاً حقيقياً لمسألة داخلية في أي بلد. عندما يقع اعتداء أو غزو واحتلال لا بد للمجتمع الدولي ان يتدخل، أما التدخل لتغيير نظام دكتاتوري يستحق أن يطاح فعلاً فهذه مسألة لم يستطع المجتمع الدولي ان يحسمها للتعامل مع تعقيداتها، خصوصاً أن تجارب الدول الكبرى في حماية الدكتاتوريات لا تعد ولا تحصى، وتحتل الولاياتالمتحدة طليعة هذه الدول ليس في حماية الدكتاتوريات القائمة وانما في تنصيب دكتاتوريات جديدة. في الحال العراقية كان معروفاً دائماً أن نظام العقوبات الدولية وضع أصلاً بهدف التوصل الى اسقاط نظام بغداد. ولم يكن معروفاً متى تحين الساعة، الى أن قررت الادارة الاميركية جعل الاطاحة جزءاً من انتقامها المبرمج بعد هجمات 11 أيلول سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن. والمغزى واضح هنا حتى لو شاء مؤيدو الحرب التعامي عنه، فالانتقام لا يقتصر على العراق ونظامه، ولا يهجس فعلاً بانهاء معاناة الشعب العراقي، فهذا آخر ما يهم المخططين للحرب في البنتاغون. لم تكن حرب افغانستان كافية لاطفاء الثأر الأميركي، لذا بدا الوضع العراقي المهترئ بؤرة مغرية للاستخدام. الأميركيون وسواهم يعرفون أهمية العراق موقعاً ونفطاً واستراتيجية، ولذلك اختاروه ليجعلوا منه نموذجاً لنمط جديد من الهيمنة. ليس العرب المعجبون بنظام بغداد، على قلتهم، وحدهم في القول بأن الولاياتالمتحدة تسعى الى السيطرة على النفط، بل ان المعادين لهذا النظام أدركوا ذلك. ثم ان أوساط الصناعة النفطية والصحف في أوروبا كما في الولاياتالمتحدة لا تخفي هذا المعطى وتتعامل معه على أنه من البديهيات. وبالتوازي مع النفط تحاول الدوائر الديبلوماسية استشراف الانعكاسات السياسية للحرب على مختلف دول المنطقة ومجتمعاتها، وتتوقع مرحلة مفتوحة من القلق وعدم الاستقرار، خصوصاً ان الولاياتالمتحدة لم تكشف كل أوراقها ونياتها وليس في سوابقها ما يشير الى ثباتها ودقتها في رعاية حكيمة للمراحل الانتقالية حتى في الحروب "الأخلاقية" التي ادارتها. ومثال افغانستان بعد انسحاب السوفيات لا يزال في الأذهان. أكثر من ذلك، تستعد الولاياتالمتحدة لخوض هذه الحرب لأهداف معلنة يمكن تبريرها ولكن خصوصاً لأهداف عدائية مبطنة يصعب الاطمئنان الى مؤداها. ولم يعد الربط بين العراق وفلسطين سراً، أو سفسطة من جانب النظام العراقي، فبعدما نسف ارييل شارون كل ما تحقق باسم "عملية السلام"، يفترض ان تؤدي الحرب على العراق الى تغيير جذري في خريطة الشرق الأوسط، ليصبح ممكناً آنئذ البحث عن "سلام" ما بين الاسرائيليين والفلسطينيين بناء على المتغيرات والخسائر العربية. ما يعني ان أمن اسرائيل يتطلب قولبة المنطقة وإعادة تركيبها، من دون ان يؤدي ذلك الى مطالبة اسرائيل بتنازلات جوهرية من أجل السلام. هذه الحرب المزمعة هي أولاً قرار يتضمن قبولاً بهلاك كم هائل من البشر، ويستطيع صاحب القرار ان يدافع عنه بالنظر الى أن النار لن تحرق أرضه وناسه، وأن الكلفة البشرية في صفوفه مبررة اذا ما قورنت بالغنائم المتوقعة. وإذا تحققت السيطرة للقوة العسكرية تصبح النتائج الأخرى مجرد تفاصيل، وسيكفي بعدئذ انشغال العراقيين ببعضهم بعضاً كذلك انشغال سائر العرب، لتأمين استمرار السيطرة واستثمارها. فإذا كان مؤيدو الحرب يعون ذلك ويباركونه فإنهم يستحقون أن يكونوا جنرالات اميركيين وليس مدنيين مسالمين أصحاب رأي.