1 لم يعد أحد في العالم العربي يثق بوجود مثقفين عرب. صفتهم الجماعية. تغيب. عن الأنظار. المثقفون كهيئةٍ ذات صوتٍ جماعيٍّ في هذه اللحظة التاريخية. أو كأفرادٍ لهم فعلهم في المشهد العربي والدولي. كلما تحدثنا عن هذا الصوت. كان التعقيب مباشراً. وحاداً. انهم لا يوجدون. بعبارةٍ لها الإيجاز القاطع. لها من التذمر بقدرٍ ما لها من اليأس. يلخص الملاحظ غياباً غير مفهوم. فهؤلاء المثقفون الذين كان لهم حضورهم في الخطاب الثقافي. يدلون على المكان والزمان يكادون اليوم. يصبحون منسيين. هل هذا معقول؟ برأسٍ مشوشٍ. تنصتُ يوماً بعد يوم الى هذه العبارة. وكأنها قادمةٌ من عالم مجهول. تقرب منك واقعاً موزعاً بين أكثر من جهةٍ. وفي كل مرة تفاجأ بكونك لا تفهم. والوقع يزداد غوراً. من أعمق الطبقات تسمع ما ينطق به الملاحظ. ثم تغفو لتسمع. من جديد. بالرنة ذاتها. والتذمر ذاته. هل هذا الصوت حقيقي؟ لربما أجيبُ. ولكنني غير واثق من سماعي. لعله صوتٌ داخليٌ. يزورني في آخرة الليل. إنه لحقٌ. أقول في نفسي. ولكني عندما أرفع رأسي لأتأمل أحس ببخار في الرأس. دوخةٌ تشلُّ الأعضاء. ولا قدرة على الركض في المسافات الفاصلة بين زمنٍ عشناه في الثلاثين سنة الماضية وبين ما نعيشه اليوم. بالتساوي بين جميع البلدان العربية. أحتاط من الجزم. ومن الإقبال على إذاعة ما ألاحظه حتى لا يكون القول فاقداً للمعنى. فإذا كان المثقف هو المحافظ على لمعنى. المتدبر لشؤونه. فإن كل قول يشوّه المعنى يتحول الى عقابٍ جماعي. دوخةٌ وانتباهٌ. معاً. في عالم عربيٍّ كنا منذ زمن وصلنا الى أفقه المغلق. المختفي وراء جبال لا نراها. وفي ذلك ما كان بدايةً للتأمل البطيء في حالةٍ للمثقفين العرب. وهم يوماً بعد يوم ينسحبون. هادئين. راضين. نادمين. كل الحالات السلبية حالتهم. وفي المختفي. لا نعلم ما يفعلون بالضبط. شيءٌ من الإحساس بأن الزمن لن يسمح لنا بعد بطرح الواقع على أرضية التأمل. كأننا نقبل بما يختفي دون أن نذهب أبعد من ذلك. حيناً يعاودني الشعور بضرورة التأمل. وحيناً تُنازعني نفسي. على أرضٍ مرت بها فكرةُ العروبة ذات فجر. لم يكتمل صباحاً. وانتهى الضوء الأول الى الانكفاء في زاوية. صامتاً. يُخفي عنا وجهه. ويختفي. والأفضل ألا تتأمل ما يحدثُ. تؤنب النفس الجزوعة. اليد المتورطة في محبةٍ. وفي فكرة. لكأنك صادفت جثةً غريقة. في ماء ترسب ونتن. في خلاءٍ. تقتلعُ جذوره الرياح. والأفق مهدور الدم. ملصقاتٌ في الشوارع تعلن عن الفدية. والناسُ سكارى بما يسمعون من حديثٍ عن زمنٍ لم يعد زمن الثقافة والمثقفين. 2 ما نشأ من خطابٍ في العقدين الأخيرين. في الثقافة العربية. باسم النقد. كان خطاباً للتدمير. تدميراً للفكرة وتدميراً للساهرين عليها. ولا بد ان يكون ثمة مهتمون بهذا الخطاب التدميري. الذي نجح في مضاعفة مشاهد الإحراق مثلما نجح في تسريع الخطوات نحو الصمت المعمم. اليوم. بدلاً من شيوع خطابٍ نقديٍّ يهدف الى البناء كان خطابُ التدمير يستبيح الأرض ويسفك الدماء. ولم تنبعث قوةٌ جديدة للتأمل. الجماعي. في كل منطقة كان الانشغال بالشخصي يضغط على ما هو جماعي. على الفكرة. التي من دونها لن نكون. فنحن فكرةٌ. أولاً. هي الرحم التي تنجب الإبدالات الثقافية. وهي الحبل السري الذي كان من المفروض ان يشتد. فإذا بالعالم العربي يقيم مشاهد الإحراق. بأيدي المثقفين أنفسهم. رغبةً في أقساطٍ مسمومة من الرضى. على ما نكون. من هنا بدأَ ما لم نهتم به. أو أن الانجراف كان أقوى من كل تأمّل. من كل عرافة تُنذر بالشؤم القادم. يزدرينا الواقع الذي نحن فيه. ومع ذلك فنحن لا نرفع أيدينا إلا للتشهير بما تبقى من الفكرة. ربما كان المشتغلون على موضوعٍ كهذا لا يأبهون بالمصير. فالملاحظة تقوم مقام الإشارة الى ما يجب القيام به. من ثم فنحن نرضى بالذي يقع. ونستمرُّ في قبوله. مقتنعين أن كل شيء قد انتهى. دون أن ينتهي. مضى. دون أن يمضي. عجباً! أهذا الذي نحن فيه لا يؤلمُ جسداً؟ في الصمت أحافظ على التوازن. رغم ان الجسد يتهاوى. والصرخة تضيق. تلك الفكرة التي كبرنا بها. من أجل أن تكون لنا الملجأ. هي اليوم مجهدةٌ. كليلةٌ. والنبهاء لا يعقبون على الواقع بغير النفور، حاذقين في تطويع الكلام اليائس. الى تراكيب يمتزج البلاغي فيها بالمرتجل. والنباهةُ مجرورةٌ على الإسفلت. على مرأى من النبهاء. كيف لي أن أقبل كل ما يجري؟ الوضعية الجهوية والوضعية الدولية كانت تفترض ان تدعو نخبة عربية الى التأمل الجماعي. بصوت جهيرٍ. أمام أنفسنا وأمام زمننا. لننطلق في عملٍ محتمل. هو الجواب على ما نحنُ فيه. ذلك الافتراض يتأكد اليوم انه باطلٌ. وأن كل ما كنا نترجاه من خطاب نقدي. ومن أجل هذا الخطاب. يصبح من طبقة الحنين المريض. ما يبدو مقبولاً هو الرضى بما لم نكن به نرضى. وهو تمجيد ما لم نكن نمجده. وهو التغاضي عما لم نتغاضى عنه. وهو التشيع لمن لم نكن نتشيُّع له. 3 هؤلاء الذين كانوا نقديين هم أنفسهم الذين لا يقبلون، اليوم، بوعي نقديٍّ. ولا بموقف نقديّ. ولا بكتابةٍ نقديّة. تبرؤوا مما كانوا عليه، باعدوا بينهم وبينه. وشيئاً فشيئاً. فضلوا النظر اليه بعين جزراء. ثم باحتقار. فاتهام. وهم في الآن ذاته يبحثون عن الغنيمة. ظانين انهم فوق الزمن الذي عاشوه ويعيشونه. عابثين بالكلمات التي ما تزال تحرجهم. بين الفينة والأخرى يتفقدون المعجم لتلويث المعنى. أو مصادرته. بحق أنهم كانوا ملاكه وهم اليوم أسيادٌ عليه. لنفترض أنهم أحسوا ذات لحظة بيقظة ضميرٍ. والتفتوا الى هذا التمزق الذي أذهب الفكرة وألقى بها الى المزبلة. فماذا بقدرتهم أن يفعلوا؟ تساءل، وأنا عليمٌ بأنهم نشطاء في التدمير اللبق لكل ما تبقى. بالكلمات العذبة يتنصلون. وبالتفجع الكاذب يدخلون الى أقفاصهم. ملقين اللوم على زمنٍ لا يستحق اهتماماً جدياً. فبالأحرى صراعاً لربما يفيد في اعادة بناء ما انهدم. وتوقاً الى عالم مفتوح. على امكانيات تركةٍ قابلة لأن تلتقي بسواها في الفضاء الحر. في الابتعاد الذي هم فيه. لا نعثر على نسكيةٍ هي المحافظة ذاتها على الفكرة. إنه ابتعاد المنكرين. الذين لا يجدون حرجاً في تلبيسٍ مكين. بين الليل والنهار يعبرون السُّبل كي يظلوا هناك. في ولعهم بهدم هو ما يبقى. راضين بالخطاب المزدوج حين تشاء الظروف وبالطاعة لمن كان من دون طاعةٍ من قبلهم. ابتعاد الغانمين من فقر وجهل شعوبهم. وهم يدركون ان الشعب لا يفهم ما ينتجون. ولا ما يرصدون. مكتفون بالنظر كلما بدا الأمر مفروضاً. لكنهم. في الأحوال كلها يضرمون النيران كي لا تبقى للفكرة رائحةٌ سوى الشواط. وما لهذا النمط من المثقفين الذي أصاب العرب في زمنهم الحديث؟ قد تبدو العودة الى التاريخ القريب عبثاً. ولربما وجدنا في الأفعال مجتمعة ما يلطخ فضاءنا المشترك بدماء لا نعرف كيف سالت والى أيِّ عهد ستظل تسيل. في السؤال المعذب ما يُسرع بالمأسوي. ضاغطاً. على الأنفاس. ليس العذاب ما يفجع، بل سبب العذاب. وهذا ما لا أعثرُ له على علاج. كل يوم تتداخل الأسباب ببعضها. فلا تميز بين ما جعل منه الفكر مراتب للأسباب. كل الأسباب ذات مرتبةٍ واحدةٍ. والفجيعة متروكةٌ على جانب الطريق السيار. الذي سرق منا فرصة أن نرى. 4 ذلك السؤال النقدي. الذي كبرنا به. ورأينا الفاجعة. نكنِسه اليوم كما نكنس القاذورات. لا تقل بعد كيف يمكن للثقافة العربية أن تكون. ولا من يجب ان يتولى مسؤولية المشترك. المتعدد. عد الى صمتك. ولا تتطلع الى قوافل. كنت تعتقد انها كانت في ساعة معينة. تصل بين الأقصى والأقصى. لكم توهمت. في غفلتك. صعدت الى قمة أحلامك. بكلمةٍ مشتركة. تعيد قلب تربة التاريخ. هي سماء الواقع الممكن. توهمت لأنك رأيتَ. في الكلمة ما يفتحُ المسالك. الوعرة على بعضها البعض. عنيدةً كانت الكلمة. ولم تكن في ذلك تفتعل حجمها ولا كثافتها. تاريخ الكلمة. في الماضي الإنساني وحديثه معاً أرشدك الى أن الإبداع صنو الخلق. وأن الدخيلة مشروعٌ قادم. وأن الذاتية صيرورةٌ لا حد لها. إذن. تعلمت ان تختار. وفي التجارب الإنسانية. العظيمةِ. من الغرب والشرق. كان التعلّم يتسع لكي ترى أن الكلمة ممكنةٌ. كلمةٌ مشتركة متعددة. لها البصيرة التي لا بد منها كي يلتقي الغريب بالغريب. وفي لمحةٍ من الزمن لم يكن الشك يفارق الاعتقاد. ولا التمزق يجافي المناعة. فعلان متمازجان. فيهما الفعل الكتابيُّ يخترق المكان. كي لا يقنع بالمتخيل الكسيح. شيء من السؤال كان يكفي لنقرأ زمناً دون أن نخشى من عذاب الزمن. مقاومةٌ صامتةٌ. في الكتابة. وفي التبادل الرمزي. حينما نفتقد الطرق نلجأ الى المسالك. هي كانت لوحدها تدل على الكتابة. مسالك للاحتماء من الدجل. والعهد الذي رصدنا ظل عهداً يفصل بين الكتابة وبين الانجرار وراء العواطف. في الكتابة هذا الجيشان الذي لا يتوانى عن وضع الكلمات في مكانها. والفضاءُ المشترك كان الدليل الى ما يمكن ان يكون للفكرة. من قوة أن تنتقل من مستوى التعلم الى مستوى التفاعل. 5 هل أنا أروي عن حياةٍ وهميّة؟ عن مثقفين لم يوجدوا أصلاً؟ بهذين السؤالين توجهت الى صديقٍ كان يلح في محاسبة المثقفين العرب. كان ينصحني بهدوئه. قل انهم لم يكونوا. أو انهم غير موجودين ولا نعرف أين هم. قل إنك سائرٌ الى موتك. بطيئاً. في فقدان أمل هو ما عليك اعتماده. كان الصديق يلح وهو يؤكد ان الفجيعة لم تُكمل دورتها. أننا سنقف لاحقاً على ما هو أبشع مما نحن عليه الآن. وعيٌ فاسدٌ لنخبة لم تتوافر لها المناعة الكافية. وهي اليوم في نعيم. ما. تتوسّل. راضيةً بما لم تكن تؤمنُ به. ينصحني بهدوء اليائسين. وعلى لساني كلمةٌ أخرى. تشير الى غير هؤلاء. الى باحثين مجهولين عن طريقٍ أخرى.