1 يصعُب علينا أن نتخلَّى عن الأساسيّ. إنه الوصلُ بين الكتابة وبين الزمن الذي نكتب فيه. حتى ينتقلَ الزمنُ من خارج الكتابة إلى نسيج الكتابة. يختلفُ الزمنُ عن الظرفية. علاماتٌ تتوالَى لتلتقي في تشْكيل الزمن. فلا هيَ تختزلُ الزمنَ إلى بُعْدٍ سياسي دون بُعْد اقتصادي. ولا بُعْد تقنيّ دون بُعْدٍ اجتماعي. ولا بُعْدٍ فني دون بُعْدٍ أنطولوجي. هي أبعادٌ. بعلاماتها تتوالَى. في الليل والنهار. ليتشكّل الزمنُ. أمامكَ. وفيكَ. حاضراً. صيرورة. يُكلّم الماضي والمستقبل. بصيغة إشارية. تتسع دوائرُها أو تضيقُ. لكنها هي التي تتكلّم. وأنتَ في ناحية منها. رغماً عنك. حتى ولو أرهقتَ نفسك بالتخلّي عنها. علامات. تخترقك. وتوجّه أحوالك. بين علامتين. أو أكثر. لربما كانت نظريةُ التواصل. بكُلّ تفْريعاتها. تفيدُنا في إيلاء العلامات. مرتبةَ الوقائع. وحين أستعمل كلمةَ العلامات فأنا أفرّقُ بينها وبين الأدلّة اللغوية وبين الإشارات. لكُلّ واحدة من هذه الكلمات وضعيةٌ اصطلاحيةٌ ميّز بينها فِرْدنَانْد دُو سُوسِير. المعلّم الأول. لعلْم التواصل. وهو يؤسّس لنظريته في اللغة منذ بداية القرن. هذا التفريق بين الكلمات هو ما يحرّرنا من الخضوع القسري الى ترجمات عربية لهذه الكلمات - المفاتيح. وفي غيابه نتحوّل الى مُتحذْلقين في شؤون لم يكن من الممكن لسُوسِير أن يفكّر فيها. قضايا. لغةٍ. عربيةٍ. والأمراضُ النفسيّة التي يعاني منها أهلُها في القرن العشرين. للعلامات. مرتبةُ الوقائع. تضع للوقائع صُوراً فيما هي تُرسلها إليْنا. عبر وسائل أصبحت مستوليةً على الفضاء العام والخاص لحياتنا البشرية. في الشّوارع ومواقع العمل وأماكنِ التسلية أو في البيوت. التي كُنّا نعاملها من قبل كفضَاءات شخصيّة. لا أحدَ غيرنا يتعدّى عَتباتها ويتقاسمُها معنا إلا بإذْن منّا. في الحالات العادية. علاماتٌ. تتكاثَر في الحقل التكْنولوجي كما في الحقل الإجتماعي والثّقافي. وهي علامات متحرّكة. متبدّلة. بسُرْعة. قد لا نلتفتُ إليها. ولكنّ الإنتباه إلى الإعْلانات. وإلى الإشْهار يدلُّنا وحده على ما في العلامات من قوّة في حجْبِ ما يحدُث عنْ أبصارنا. نتأثّر ولا ندْري أننا نتأثّر. نخضَعْ ولا نُدرك كيف خضعْنا. شكُورين. تتكوّن لدَيْنا آلية في ردود الفعل ونحنُ غيرُ مشتغلين بالطُرق التي تتْبعُها العلاماتُ لكيْ نُصبِحَ ما نحن عليه. 2 علاماتٌ. لكَيْ نستَجيب. لا لكَيْ نسأل. لكَيْ نُطيع. لا لكَيْ نعْصَى. فما تأمر به العلاماتُ لا مردّ له. الطفلُ قرينُ الشّيخ. والكهْلُ متصالحٌ مع الشبّان والمراهقين. وأنتَ محكومٌ عليكَ أن تتبع ما ترصده لك هذه العلامات. لكنّ لهذه العلامات أوضاعاً مركّبة. هي الأخرى لا نحسُّ بها. لا نراها. بالدرجة المطْلوبة منّا كذوات لها وعْيٌ نقديّ. تقفُ في الطّرف الآخر من التأثير السّلبي. المُسْتَديم. على الحواس. حتى تَسمعَ وتَرى. فقط ما تهيّئُه لها العلاماتُ المرصودةُ. للفِتْنَة. والسّحْر. والسَّلب. علامات الأساسي في حياتنا. لا تُعاملها وسائلُ الإتصال والتواصل كعلامات تستحق الفتنةَ والسِّحْر. من بينها علامات حياتِنا الثّقافية. مثلاً. موضوعةُ الإتّهام. موضوعة المنْع. موضوعةُ المُحاكَمة. موضوعة التّجْريد من الجِنْسيّة. موضوعة النَّفي. موضوعة الإعتقال. موضوعة القَتْل. وهي جميعها تمرُّ عبر نسَقٍ من العلامات. التي لا تأخذُ المكانةَ ذاتها التي تصل إليها. موضوعاتٌ ذات طابع اسْتهلاكي. هدفُه تجاريٌّ. إقتصاديٌّ. أو إجتماعيٌّ. سياسيٌّ. مردُّ ذلك إلى القانون الذي يحْكُم علامات التواصل والشرائط التي يتمُّ بها صوْغُها بكُلّ عناية. في الوسائل الإعلامية. على الصّعيد الكوْني. ولها تفرُّدَها على المستوى العربي. بهذا المعْنَى يُصْبِحُ لزاماً علينا ألا يتخلَّى المثقفُون عن رؤية الأساسي. في التعامل مع كونٍ منَ العلامات يتشكّل. ولكنه لا يُدْرك ما يحتاجُ إليه من البروز الكَافي في الإعلام العربي. في القنَوات التلفزيّة. أولاً. لأنها الأكثرُ تأثيراً على الحَواسّ. ومن الحواسّ على الآراء والمواقف. هذه الموضوعاتُ ممنوعةٌ من الوصول إلى عموم الجمهور في العالم العربي. وهي ما علينا ألاّ نتخلّى عنه. كمثقّفين. ونحنُ نرى الى العلاماتِ. تتشكّل. في نهاية القرن العشرين. دون أن يكون هناك رأيٌ عربيٌّ لاتخاذ الموقف الجماعيّ الضروري. منعاً لما يستمرُّ في الحُدوث. نعَمْ. منْعاً. بدون تنازل. موضوعات نراها الآن. تتحوّل الى قانون يستقرُّ. بكل مَهَابَة. في مجتمع توهّم أنه قضَى قرْناً بكامله للتخلّص من عهود قاسية من الظلم والإذلال والإخضاع والعبوديّة. على يد مُسْتبِدّين. كانوا وما يزالون مُنْتصِرين في عالمنا العربي. يستقرُّ القانُون. في نهاية القرن بعد أن مرَّتْ لحظاتٌ بارقةٌ هناك أو هنا. كانت المجتمعاتُ الثقافية فيها تتحرّكُ في اتجاهٍ حُرّ لمتخيّل ولعلاقات إنسانية تربط الشخص بالشخص. مهما كان هذا الشخص في المجتمع. ليس لهذه اللحظة فترةٌ موحّدة ومتجانسة في جميع الأقطار العربية. ولكنّها كانت تنْتَقل من منطقة الى منطقة. في ظرفيّات ثقافية - اجتماعية. لها خصوصياتُ المكان وأهْلِ المكان. بتاريخهم وأوضاعهم الجماعية. فليس هناك ما يمكن أن يرتقيَ إلى هيئة المُعْجِزة في كلّ ذلك. لأن الوقائع كانت تتشكّل. في لحظات. ثم ها هِيَ اللحظات تخْتفي من مكان إلى آخر. دون أن يكون ذلك مُعمّماً على سائر الأقطار العربية. 3 إعدامُ الكاتب حميد مختار في العراق. إتّهام مارسيل خليفة في لبنان. تكْفير أبو زيد في مصر. علاماتٌ. لها ما يقاربها. إن قليلاً أو كثيراً. في أقطار عربية أخرى من درجات الإتّهام والمنْع. والإلغاء. دولةً ومؤسّسات. مناهِضةٌ للحرّ فينا والبشري. عندما يكون الفعل الثقافي منشغلاً بمصير جماليّ. أو فكريّ. شخصيّ أو جماعيّ. في نهاية قرن لم يسمح بعدُ للكُتّاب. للمبدعين. للمفكّرين. أن ينتقلوا بإنتاجهم وعملهم من مرحلة تنفيذ ما يطلبه السيّد. المُستبدّ. وما يصدر عن رؤية حرّة للحياة وعن رغبة جمالية - فنيّة. نهايةُ قرْن. وما زلْنا بحاجة لكي نردّد. علينا أن نرى الأساسي. هذا الذي نرى علاماته مضغوطة. في صحُف تتجوّل بين دور الأيتام. فلا تجد المكانَ ذاتَه ولا الإحتفاءَ ذاته الذي تظفر به العلاماتُ الموجهّة بعناية إلى حياة الإستهلاك. أو أحصِنة الإخْضاع. علينا أن نرى. ولكنّ الأساسي. لا يوجَدُ في ما هو أقسى من ذلك الآن. عربياً. لأن هذه العلامات لا تنحصر دلالتها في الحالات المحددة. مُشخَّصَة بأسماء ضحاياها. بل هي تتوسّع. في فترة تحملُ كلّ التناقضات. ولا تعبأ بما هي سائرة نحوه. لا شيء. كأننا ندخلُ صاغرين قرناً جديداً بمنطق سحق ما تبقى. وبدون أي قناع. قومي. كما كان في عهد الإيديولوجيات الكئيبة. أو وطنيّ. كما هو يتردد في الأناشيد العسكرتاريّة. على ألْسِنَة التلاميذ في المدارس. صباحاً. قبل الإلتحاق بفضاء المعرفة. من العبثِ. أمامَ علامات القهر. أن نتساءل. فالمواطن عادةً ما يتجنّب التعابير المراعية لموازين القوى. وهو يعبّر عن يأسه من حياة لا مخرج له من أنقاضها. ومن وحشيّة عُنفها. بعلامات. إقتصادية أو سياسية. أو اجتماعية. إنه لا يطّلع مباشرة. على العلامات الخاصة بالحقل الثقافي. بكامل دَمِها. اليوميّ. وسائلُ بثّ العلامات تحْجُم عن القيام بإيصال العلامة على الأقل. بإعطاء المثقّفين الكلمة ليوصِلوا رأيهم في هذا الذي يحدث. لأن الثقافة هي عينهم التي تؤهّلُهم لرؤية ما لا يرون. وهم منهمكون بمتابعة نتائج الفائزين بقُرْعة يانصيب الشركات التجارية. بسخاء. يُنْسيك. ويُنسي. جارك وأقرباءَك. ورفقاءَك. في العمل. لكي تتنافس القبائلُ في التزوّد بالمنتوجات والسرعة في إعداد الوثائق الكفيلة بالحصول على الحق في القرعة. الأسبوع القادم. ثم للأسبوع الموالي. جائزة أخرى. أهمّ لك. أيها الذي لا يرى ولا يسمع عن علامات مصير أبْعَد. في عالَم التشظّيات. 4 أتجرّأ وأقول. علينا في آرائنا. في قناعاتنا. في حياتنا. أن نرى قليلاً. لا بعينين ذابلتين. هذا يفيدُ إلى حين. لكنّه. لا يكفي. بقلب متوثّب. لكنه لا يكفي. في نهاية قرن. عهْدِ الديموقراطيات العالية الشأن. العالمُ الغربيُّ يطالب بالديموقراطيات. بالدساتير وبالمجالس المنتخبة. إفساحاً في المكان للمجتمع المدني. وعلامات الأساسيّ. من خارج هذا الزمن ما زالتْ تتشكّل. بطيئاً. بطيئاً. كأنّها نازلة من أماكن كنا نعتقد أنها أصبحَتْ مهجورة. فإذا هي لنا في كل يوم وفي كل مناسبة. تنزل. كتلةً من الثلج. حمقاء. في ساحات الصمت الكبير. أختنقُ وأنا أرى إلى هذه العلامات تسيلُ على ورقة. في صحيفة. تسيل كما لوْ كانت موجّهةً إلى اللاقارئ. إلى اللاشخص. حيثُ العالَم يوجَدُ في مكان. غير مكانه الذي عهدناه فيه. ولم تبْقَ منه سوى أطلال. سنحتفلُ قريباً بميلادها الألفيّ. ما قبل الألفيّ. لأنها ليست أطلالاً. بنَبالتها في الحياة العربية. القديمة. زنازنُ لأفكار ورؤيات. زنازن لما نحلم به دائماً. حتى في صحْوِنا. الذي نحْوَه نتعلّم أن نواصل الحياة. قطرةً فقطرة. على بوابة زنزانة. نرى. علينا أن نرى الأساسيّ. 5 ولا أعرف كيف يمكن لهذا الأساسي أن يُصبح حاضراً في الحواسّ. كيف لعلاماته أن تتشكّل فقط. كما هي عليه. في الأسفل المغطّى بطبقات من الأناشيد الوطنية. والعقائدية. تحت ما يستعجل الوصول إلى المستهلك. في الصباح الباكر. ثم في أوقات الوجبات الغذائية. لكي لا يتأمل أحدٌ. لا يرى شيئاً من علامات الأساسي. في مصير لنا جميعاً. مهما كانت منطقةٌ تتخلّص من عذابها. مهما كُنّا منْفصلين بالجدران العليا. لذلك علينا أن نرى. قليلاً. ونحن نبحثُ عن علامات هي شأننا الأساسيّ. في اللحظة التي لم يعدْ لنا خيارٌ في رؤيتها. صامتين. أو مُحْتجّين. بينهما هذه العلامات. تتحرّك. وتتشكّل. في الأسفل الممنوع عن الرّؤية.