1 لم يحكِ لي أحدٌ في صباي عن بيروت، مثْلما حكَى لي الأهلُ والأقرباءُ عن طنجة أو الدار البيضاء. بنْفسِي عثرتُ عليها في الصُّورة، وأنا أجلسُ للمرة الأولى على مقعَدِ القسم في المدرسة الابتدائية، التي كنت أنْتقِلُ اليها من المخفيّةِ الى بَابِ الخُوجَة بفاس. مِنْ هناك ابتدأتْ بيروت في مُخيِّلتي. كتابُ المطالعة، وعليه أرزةٌ وبيتٌ مسقُوفٌ بالقِرْمِيد. ألوانٌ على ورقةِ الغِلاَفِ، وفي الداخل قرأتُ اسْم بيْرُوت. في تلك اللحظة، القريبة مِنِّي على الدوام، أصبحَتْ بيروتُ تعْنِي، بالنسبة لي، مُقاماً جديداً، في مكان سيُصبح علامةً على العُبور من المسِيدِ، الذي تلقيتُ فيه القرآنَ على اللّوْح المكُسوِّ بالصّلْصَالِ وخُطوط السُّماقِ، الى مدرسةٍ وكِتَابٍ ذي أوراق بيضاءَ وصُورِ مناظرَ طبيعية وبيوتٍ وأشخاص وحيَوانَات. كنتُ منبهراً بالصُّور، بالصُّور التي لم تكُن لي بها من قبلُ أُلفةٌ. صورٌ وغرابَة. لا البيوتُ تُشبه بيوتَ فاس، ولا الطبيعةُ. على الصفحةِ كلماتٌ عربيّة كنت أتعثّر في قراءَتِها. قراءةُ العثَراتِ أُسمِّيها. عثراتُ الكشْفِ عن لُغةٍ عربيّة بسيطةٍ، ومن كلمةٍ الى كَلمةٍ تتحوّلُ الى عالَمٍ بكَامِله. جديدٍ عليَّ تماماً. يُمكنني أن أمْشِيَ في طُرقاته بقدمْين عادّيتيّْن، أجْرِي بيْن الوديانِ والينَابِيع وأتفيأُ في ظلالِ الأرْزِ. حياةٌ تتدفّق حرارتُها، وفي شراييني أحسُّ بالدّبيبِ يُنْعِشُ العروق. لغةُ أنْ أحْيَا في كتابٍ، على ورقةٍ، في كلماتٍ، والكلماتُ طيورٌ تُكلَّمُ الأعْضَاء. 2 هذه الصورةُ الأولى، المهاجرةُ في الحواسِّ، هي صورةُ ثقافةٍ حديثةٍ، تتعارض مع ما كنتُ متعوّداً عليه في المَسِيد. وبعْدَ هذه اللحظةِ تحولتْ بيروتُ الى عالَمٍ أبحث فيه، شيئاً فشيئاً، عن الصُّورة التي أصبحتُ أحلمُ بها عنِ الحيَاة. كنتُ عندها أرَى بيرُوتَ وكأنها كوكبٌ مختلفٌ عن العالَمِ الذي يُحيط بي. لغةً وثقافةً. من القسْم المدرسيِّ الى الأكْشَاكِ، التي تصلُها المجلاّت البيروتيةُ الى جانبِ المجلاّت المصريّة. وباكْتشَافِي للمكْتباتِ المُحاذيّةِ للقرويِّين أخذتُ أتعلّمُ كيْفَ أقِفُ أمامَ كِتَابٍ وأتأملُه. رسْمُ الغِلاَف. خطُّ العَنوان. أناقةُ الطِّباعَة. ومع القراءة أنْسَى نفْسِي. أيامٌ تتوالَى وأنَا أقرأُ. بيروتُ كانتْ كوْكبي الجديد، الذي أُقيم فيه مثْلمَا أُقيم في القاهرة أو باريس. العالمُ النّقِيضُ. الحياةُ. الأنفاسُ. كلُّ ذلك لم يكُن عبثاً وأنا أجْمع كُتبي الأُولى على رَفٍّ صغيرٍ في دُولاَبٍ هو مكْتبتي السِّريّة. ذلك هو زمنُ الحداثَة ومكانُها، كما شَرع في التشكُّل، أمَامِي، بين كِتَابٍ وبيْنِي. عوالمُ مبتكَرةٌ أوْ أَناشِيد. ثم الأسماءُ الأساسيّة التي صاحبْتُها. جبْرانُ وأشْباحُه. جبران وجنُونُه. قُدَماءُ يسعوْنَ على الأرضِ. وضيوفٌ مِنْ خارج الثّقافَةِ العربيّة يفدُون علَى فاسَ من بيرُوت. والعالمُ الذي بدأ صغيراً لم يعُدْ صغيراً. حركاتُ اليَدِ أو حركَاتُ اللِّسان. وهذا العشْقُُ السّارِيُّ في الدخِيلَة، هواءٌ يتنفّسُ فَراشاتٍ بألوانها القُزحيّة. بيروتُ. الكلمةُ. في زمنٍ ومكَانٍ. وأنا أُحافظ على موْعد اللّقاءِ مع بيروت من خِلاَلِ ما يصِلُ من مطبُوعَات. 3 كانت بيروتُ تكْبُر مَعِي. أوْ أنّني كنتُ، من دُون كلَلٍ، أبحثُ عن السُّبل المؤديَّةِ إليْهَا. لم يُوصِني أحدٌ بما أُقدِمُ عليه مثلما لم يحْكِ لي أحدٌ. خُطواتي كانتْ ترسمُها الكتبُ والمجلاتُ. وبيروتُ تتحول الى زَمَنِ الحداثة في حَياةِ مُراهِقٍ فاسيٍّ، مُنْشغل بالعَالَم الذي يُحيط بهِ. كنتُ أسْأَلُ الليلَ والنّهارَ عنْ ما معْنَى أن أعيشَ في زمنٍ مُغاير لزمَني. مِنَ العربيّةِ الى الفرنسيّة. ومن بيروتَ الى القاهرةِ الى بَاريس. حركةٌ دورانيّةٌ لا تتوقّف عن حفْرِ المنَاطِق المُعْتِمَةِ في الكَلِمَات. وأنا سعيدٌ بسفَرٍ يتواصل عطشاً وتيهاً. صوتُ الينابيعِ المقدّسةِ. فيروزُ. ينْسابُ في الخفيِّ منِّي عليَّ. الينابيعُ ذاتُها وفي السّمَاءِ قمرٌ أو تحت القمَرِ صفصافةٌ وعَاشِقُون. السفرُ في الأمكنةِ كان يتزامنُ مع السّفر في الذّات. وفترةُ السِّتينيّات هي بامتياز فترةُ التعلُّم التي توجهتُ فيها كليّةً نحْوَ هذهِ الأمكنةِ كلِّها متوحداً بزمَن الحدَاثَة. عنْدما أتأمّلُ جيّداً في ذلك الماضِي العميقِ يتبيّن لي أنّني ابنُ بيروت. ابنُها الثّقافيُّ، والشّعْريُّ أساساً. مجلةُ "الآداب" أو "شعر"، دواوينُ الشعراء، من أبي القَاسِم الشّابِّي الى بدر شاكر السياب وأدونيس. مؤلفاتُ النّقْد الأدبي، الفلسفةُ، التاريخُ، الى جانب أعمال عربيّة قديمةٍ هي مُفْتَتح الكَلاَم. لسانُ العرب أو كِتَابُ الأغَانِيّ أو دواوينُ الشعراء العرب الكبار. مجلاتٌ وكتبٌ كنْتُ من خلالها أنتسبُ لبيروتَ، هادئاً حيناً ومسْكُوناً بالتمرُّد حيناً، لا يصدُّني أَحَد. حياةٌ في بيْرُوت. مَنْ يصدّق أن لي حياةً في مدينة لم أزُرْهَا للمرة الأولى إلاّ في 1979، استجابةً لدعوة كريمة من العزيزين أَدُونيس وخالدة سعيد؟ بيروتُ التي علّمتْنِي أبجديةَ الحدَاثة وأنا صغيرٌ في مدرسة ابتدائية على مقْعدٍ خشبيٍّ هي نفسُها بيروت التي استمرتْ محلّقةً في صدْرِي. بيّننا عشقٌ لربما كان خجولاً، لربما كان مجْنُوناً. كنتُ، على غرار كثيرين غيري في المغرب، مِنْ مدينة الى مَدِينة. عندما نلْتقِي في الجامعة، بثكَنَةِ ظهْر المهراز بفاس، كُنا جميعاً نكَادُ نتكلّم لغةَ بيرُوت الثقافيّة. آراؤنا وأحلامُنا كانتْ تجيءُ منْ بيرُوت وتذهبُ إليْهَا. رحيلٌ دائِمٌ. كما لَوْ أنّنا نسكنُ المكان الثقافيَّ الذي فيه أصبحتِ الحداثةُ العربيّةُ، بكل تلْوينَاتِها تتنامَى، حوْلَ مجلةٍ أو كِتَابٍ أو رأْيٍ أو حركَة. مجتمعِين كُنَّا - نتهافَتُ على المكْتبات والأكْشَاك من أجْلِ الوصول الى ما يصْدُر في بيروت، بحْثاً عن كلِمَاتِنا الأُولى، ونحن لا نعْبأ بتكاليفِ مَا نقْرأ. متوسِّطي الحال كُنَّا ومع ذلك فإن ما كُنّا نُقْبِل على شرائه كانَ يدلُّنا على الطريق الى زمَن لم نكن نشكُّ في أنه زمنُنَا نحْنُ أيضاً. وفيروزُ تبْسِطُ جناحيْها على الأرْزِ والكرومِ، متلألئيْن وغامِضَيْن. كأننّي هُناك، منتشياً أُرافق سيدةَ الينَابِيع الى أرْضٍ من الأسَاطِير. 4 مُقامي في بيروت. بدايةُ الصداقة. أدونيس ومجلة "مواقف" 1969. وها هِيَ هذهِ الصداقةُ تحافظ على الوفَاء للكلمةِ التي تلقيتُها من أَدُونيس وهو يُخبرني بنشْر قصائدي الأولى التي وُوجِهَتْ بنقدٍ عنيفٍ في المغرب. هذه الصداقةُ علّمتْني أن بيروتَ أوسعُ من بيروت وبيروتَ أقرب منْ بيرُوت. حركةٌ ثقافيّة عربيةٌ برمّتِها تحتْضِنُها بيروت وفيها تجدُ حريةَ أن تقولَ ما لا يُقال في مكَانٍ عربيٍّ آخر. مكانُ الحداثَةِ بيروت. شعراءٌ وكتّابٌ ومفكّرون. يفدُون على المدينةِ لأنها مُقامُهم الحُرّ. وبيروتُ، بهذا المعْنَى، أعطَتْ العربيّةَ ما استطاعَتْ أن تُقاوم به عهوداً من الغِيَاب خَارِج الزّمَن الثّقافي الحديث. في هذه المدينة، تفاعلتْ تجاربُ كما تفاعلتْ حركاتٌ إبداعيّةٌ كلُّها كانت تبحث عن نموذجٍ ثقافيٍّ، متحرّر من ضغْطِ الماضي، لكي يُصبِحَ بدوره حيويّاً في الكتابة والحياة. بيروتُ رحِمُ الثّقافة العربية الحديثة بامتياز، في وقت لم تكن المناطقُ العربيّةُ المجاورة، بما فيها القاهرة، مستعدةً لتلقِّي هذَا الفيْضِ الإِبداعيِّ الحُرِّ. صداقَتي مع أدونيس وخالدة سعيد أو صداقتي مع إلْياس خُوري ومحمُود درويش وحَليم بركَات وهِشَام شَرابي. بيروتُ جمعتْني بهم كَما جمعتْني بعائلةٍ أظلُّ لها وفيّاً. حُسيِن مَرْوة. هذا الإنسانُ العطوفُ الذي كان يُبادلني الاحترامَ والمحبّة. وجْهٌ يصاحبني تحت قُبة الأسْرارِ، عليْه أسلِّمُ قائلاً: بوركتَ أيُّها الشهيدُ، من أجل أن تُحافظ بيروتُ على كلِمَتِنا، نحنُ التّائهين في صحْراءِ العطشِ الكَبير. شعراءُ من جيلي هُنا تعرفتُ عليهم. عباسْ بيضُون. بُّول شَاوُول. سليم بركَات. سَمِير الصّايغ. قصيدةٌ كانت تبحث عن نفَسِها في أُفُق شعريٍّ له قلقُ اخْتبار الحَواجِز. ومن بيروت، أيضاً، قرأتُ لشعراء وكُُتّاب سيُصبِحُون عائِلَتي، عبر العالم العربي. مجلةٌ أو كِتَاب. نتحاوَرُ في صمْتٍ ولا نفتقد السِّمات. رسّامون ومسرحيُّون وصحافيُّون. في كوْكَبٍ أرْضيٍّ هو كوكبُنا الجماعيّ، الذي لا يمنع عنَّا فُسْحة الكتَابةِ، نُغنّي نشيداً لهذه اللغة العربيّةِ التي احتْضنتْها بيروتُ ووزّعَتْها علَى جميعِ العَربِ ومَنْ يُحبُّ العربيّة. ثلاثةُ عقُود. من الخمْسينيّات حتّى السبعينيّات كانت بيروتُ زمنَ الحداثةِ ومكانَها. فيها تنشأ تسميةٌ لنَا ولما يفْعل فينَا. إنها زمن المُتعدّد واللاّنهائيِّ، في الكِتَابة والحُلْم والشّوْق واليقَظَةِ والعطَش والرّحِيل. أجيالٌ من التّسْميَاتِ وجدتْ في بيروت من يحْرُسُها ويسْهَر عليْها من بطْشِ ألاّ تكونَ، حُرةً في الانعطافِ النوعيِّ نحْو ما لم تكن تسميتُه مقبولةً في جهَاتٍ عربيّة أوْ ما لم يكُن قادراً على التفرُّد. أعمالٌ هي الشاهدةُ اليوم على حيوية ثقافةٍ وحيوية مُبدعين لهُم القدرةُ على الانتماءِ الى العالَم، يتكلمون اللغة التي وحْدَها تسْمحُ بالحِوَار مع أفكارٍ وحَسَاسيَاتٍ تتبادلُ فيما بيْنَها أساسياتِ الوجُود في زَمننا الحَدِيث. 5 بيروت أوْسعُ من بيروتَ. فيها تعرّف العالمُ العربيُّ على العالَم العربيِّ. هذه الأعمالُ وهذه الأسماءُ، التي أصبحَتْ عنوانَ حداثةِ الثّقافة العربيّة، كلُّها في بيروت تجمعَتْ، تحت سقيفَةِ الحُريّة كي تنْعَم بالعُبور الى الأقْصَى، إبداعاً وتفكيراً. لا حاجزَ بيْنَها وبين مسافاتِ السّفر في فضَاءِ المُغامرة. وبيروتُ أقربُ منْ بيرُوت. لأنّني تعرفتُ من خلالها، كذلك، على الثقافة المغربيّةِ التي أخذَتْ في تجْذِير المفَاهِيم والتصوُّرات والحسَاسيّات. ما لمْ يكُن مُمكناً، انطلاقاً من المغرب، تحوّلَ الى حيويّة تشْتغِلُ في جميع البلاد العربية. أولُ الأسْماء عبد اللّه العرْوي، ثم عائلتي المغربيّةُ التي اتسعتْ في امْتدادِ الطَريق. والحربُ لم تجْعلْنِي أتغربُ عن بيروت. كانت الفاجعةُ حاضرةً في جَسَدِي. لم أكن أستطيع فهْمَ تلك الحرب، لكنّني لم أستبعِدْ شيئاً. مدينةٌ كانت بهذا الحُضور في حياةِ الثقافة العربية برُمّتها، لم يكن لها أن تبْقى كمَا هِيَ. حرةً ومنفتحةً. ذَلِكَ ما كانَ يدفعني الى التأمُّل في الحالة دون القُدرة على العُثُور على جوَاب. كنتُ أدركُ أنّ الحرب لا تخصُّ أبناء لبنانَ وحْدَهُم ولا كانَتت تعْنِيهِمْ وحْدَهُم. أنا الآخرُ كنتُ أحسُّ بِعبَثيّةِ ما يحْدُث وبألَمِ أنْ يحْدُث. أصواتٌ من بيروتَ كانت تتوافدُ باستمرار، عليَّ وعلي غيْري، عبْر البلاد العربيّة. ومنْها كُنا نُواصِلُ التّجاوُبات. لكنّ الحرب كانَت إيذاناً بانفجار زمَنِ الحداثة وبتفتُّتِ مكَانِها. لم نُخطِىء ونحْنُ نُنصت الى الإبْدَال، سريعاً وعنيفاً، يصْدِمُنا. وفي بيروت كانت الأسئلةُ تتشكّل من جَديد عن مَصِير ثقافيٍّ تتضاءل أمامَه العذَابَات. ضَراوَةُ أنْ نرى وأن نُنْصِتَ. نهاراً وليْلاً. في ضوْء بعيدِ. يتراءَى مُتمادياً في البُعْد. والوحدةِ. إنه القدرةُ على عدَم التخلِّي عن السُّؤال. على صرْخَةِ أن نَسْتحمَّ في ماء بيروت. ومعَهَا. من عذابِ الى عذَاب. حيثُ المصيرُ يبْدُو أوْضَحَ. في زمنٍ ومكَانٍ. والحداثةُ لا تنْتظر شيئاً. انفجارٌ وتفتّتٌ لن يسْعَد بهما غيرُ الأشْقيَاء، الذين لا يستحقُّون ما أضَافَتْهْ بيروتُ الى الثّقافة العربية. وهي تُقْدِمُ على الانْدماج ثانيةً في العالَم. ضراوةٌ تتضاعَفُ في ألَمٍ. لأنّ ما كان يحدُث هو مصيرٌ جماعِيٌّ. نلْمَسُه متكوّناً في الكلِمات. وفي مسَاراتٍ ستشرُط الحداثَة العربيّة، مهْمَا نأتْ عن بيرُوت. في جِهَاتٍ أخرى. لعلَّها المنَافي. لنَا نحْنُ جميعاً. 6 العالَمُ الذي يتبدّلُ كانت بيروتُ ساهرةً على حُدودهِ. يمكن للمْؤَرِّخِين أن يسْتغِيثُوا بالخرائِط كي يقْترِبُوا من بيْرُوت. ولكنّْ بيروتَ في جسَدِي. أحسُّها تتكلّمُ. لغةَ أنْ أحْيَا. في ثقافةٍ. وفي عالَمٍ. أنا ابنُ بيروت. وهي مُقَامِي. مكانُ وِلاَدَتي وفيها كِتَابَتِي. حوَاسِّي فيها فاجَأتنْي وفيها اخترقَتْ أزمنةً بكامِلها. كُتبٌ ومجلاّت. فيروزُ القادِمَةُ من جُموح الأرْضِ ومنْ هواءَ المُستحِيل. صداقاتٌ ونُفوس حُرّةٌ وأسئلةٌ ورحيلٌ لا ينْتَهِي. عندما أقولُ هناكَ أقصدُ هنا. لا مسافَة بيْنِي وبيْنَها. فالكتابةُ تمْحُو كُلّ ما يفْصِلُ. جبالاً وسُهوباً وصحَارَى. من بيروتَ الى بيروتَ كان الرحيلُ متواصِلاً كيْ أستكشف حُريةَ أنْ أكتبَ وأنْ أرىَ. زمناً ومكاناً هُما ما سيْبقَى مِنِّي. في حياة كتابة لم تتوقّفْ عن الإقَامةِ في بيروت. وفِيّاً للصّداقات. عابراً في رَحِيل العطَشِ الكَبِير. سمّيْتُها نخلة لأنِّي في ظِلالها تفيأتُ. ويَدي فيها ما تزال تكتبُ. مِنْ صَباحٍ الى صَباح. لا أحتاجُ لمَنْ يحْكِي ليَ عنْها. في جسَدِي أُبصرُهَا خارجةً منَ الدُّخَانِ. فيها أضْحكُ وأبْكِي. كلماتٌ هيَ في جَسدِي. رحيلٌ لنَا معاً. فِي بيْرُوت.