أثار الدكتور وحيد عبدالمجيد "الحياة" 19 الجاري في عنوان "خطيئة مقاطعة الانتخابات: البحرين مثالاً" قضية مقاطعة بعض قوى المعارضة البحرينية للانتخابات البرلمانية، معتبراً أن هذه المقاطعة التي تجد لها مثيلاً في تجارب عربية أخرى، تتحمل قسماً من المسؤولية عن تعطيل التطور الدىموقراطي في العالم العربي، وهي تعني في الوقت نفسه انسحاب تلك القوى من "المشاركة في وضع حجر الأساس للتطور الدىموقراطي الذي تطالب به" منتهياً إلى الجزم بأن "لا شيء يبرر التخلف عن المشاركة في بناء الدىموقراطية وأن قرار المقاطعة خطأ في حد ذاته". واستشهد الكاتب تحديداً بالمردود الذي اعتبره سلبياً لمقاطعة القوى الحزبية الرئيسية في مصر انتخابات مجلس الشعب التي أجريت في العام 1990. ثمة أهمية بالغة للتسليم مع الكاتب بأهمية موضوع المشاركة السياسية، خصوصاً في تجارب التحول الدىموقراطي الوليدة، حتى يمكن التأسيس لتجربة ديموقراطية مبنية على أساس توافقي بين التيارات السياسية كافة، وليس وفقاً لرؤية طرف بعينه، على غرار الخطأ الجوهري الحادث في تجارب التحول الدىموقراطي العربية كافة، إذ أنه بعد العمل بنظام التعددية السياسية ظل الحزب الذي كان يحكم في عهد التنظيم السياسي الواحد هو الذي يحكم أيضاً في العهد الجديد، ولم تشارك القوى السياسية الجديدة التي تم الترخيص لها في صوغ عملية التحوّل، فانفرد الحزب الواحد بصوغ أولويات هذه العملية وفقاً لمصالحه الخاصة، ولم يحدث بالتالي ما يمكن اعتباره تحولاً ديموقراطياً حقيقياً. بيد أن فاعلىة هذه المشاركة تظل مرهونة بوجود اتفاق بين المعارضة والسلطة حول مجموعة من الأسس، حتى لا تقدم المعارضة اعترافاً مجانياً بصلاحية تجربة التطوير من دون أن يكون هناك تحول حقيقي، وهذا ما يجعل قرار مقاطعة المعارضة البحرينية للانتخابات صائباً، لا يمكن مقارنته بحال مصر، فالمعارضة المصرية التي قاطعت الانتخابات البرلمانية العام 1990 كانت تحتج ليس على الدستور نفسه الذي يمثل جوهر اللعبة السياسية، وإنما كانت تحتج على إجراءات بعينها تتمثل في ضمان نزاهة الانتخابات وبعض بنود قانون مباشرة الحقوق الأساسية وغير ذلك من أمور فرعية. أما الحال في البحرين فهي جد مختلفة، لجهة الجدل حول شرعية الدستور نفسه، والقواعد التي انطلقت وفقاً لها عملية الإصلاح السياسي، الأمر الذي لا يستقيم معه إطلاق الأحكام على عواهنها بما يحمل تلميحاً وتصريحاً بسوء سلوك المعارضة البحرينية، وعدم قدرتها على تقدير المواقف قدرها الصحيح. لقد تفاعلت جميع الفصائل المعارضة بإيجابية شديدة مع المشروع الإصلاحي خلال السنوات الثلاث الأولى التي تلت انطلاقه، وهي الفترة التي كرست التفاؤل به إثر إقدام السلطة على جملة من الإجراءات التي أفسحت المجال السياسي أمام ولوج مرحلة جديدة، كان من أهمها تخليص البنية القانونية من ترسانة القوانين التي قيدت الفضاء السياسي على مدار اكثر من ربع قرن منذ حل المجلس الوطني المنتخب العام 1975، وجاء الميثاق الوطني الذي يعد الأساس الذي انطلقت منه وعلىه تجربة التحول الدىموقراطي مفعماً بروح تحدي التسلطية وبدا مسكوناً برغبة عارمة في نقل البحرين إلى "مصاف الدىموقراطيات العريقة"، كما جاء نصاً في الميثاق. ولذلك فقد حصل على غالبية كاسحة تقدر بحوالى 98.4 في الاستفتاء الذي أجري علىه في شباط فبراير. وحتى ذلك الوقت كانت الأمور تسير وفقاً لاتفاق السلطة والقوى السياسية المختلفة على ماهية وأولويات المشروع الإصلاحي، إلى أن جاءت خطوة التعديلات الدستورية التي كانت بمثابة مفاجأة غير سارة إطلاقاً للمشروع الإصلاحي، وذلك من جوانب عدة أهمها الآلية التي تمت بها تلك التعديلات، حيث تمت بمقتضى مرسوم أميري، لتكون هذه التعديلات قد أجريت في شكل غير دستوري، حيث أن الميثاق الوطني، وإن كان لم يتطرق الى آلية معينة لإحداث التعديلات التي تضمنها من قبيل تغيير شكل الدولة من إمارة إلى مملكة وتشكيل السلطة التشريعية من مجلسين بدلاً من مجلس واحد، فإنه وفي المقابل لم يفوض الأمير في تعديل ما يريد، وكان معنى ذلك تلقائياً أن التعديل سيتم بالرجوع إلى المادة 104 من الدستور. وكان الأكثر إثارة في هذه التعديلات أنها نصّت على تعديل تشكيل السلطة التشريعية لتتكون من مجلسين أحدهما معين يحمل اسم مجلس الشورى والآخر منتخب يسمى بمجلس النواب بدلاً من مجلس واحد معين. وكان الميثاق تضمن هذا التعديل أيضاً، كما ذكرنا حالاً، ولكن تلك التعديلات ساوت بين المجلسين في الاختصاص التشريعي وفي عدد الأعضاء أيضاً بواقع 40 عضواً لكل منهما، وإن كانت مهمة الرقابة قد أسندت إلى المجلس المنتخب. وما سبّب شعوراً عميقاً بالإحباط لدى المعارضة أن هذه التعديلات خلقت استحالة عملية في أن تقوم السلطة التشريعية لاحقاً بتعديل هذه التعديلات، ما يعني أنه تم تحديد سقف معين لما يمكن أن تبلغه عملية التحول الدىموقراطي، إذ نصت الأحكام الناظمة لعمل السلطة التشريعية على أنه في حال الخلاف حول أي قانون، فإن مجلسي السلطة يجتمعان برئاسة رئيس المجلس المعين وفي حال تعادل الأصوات يرجح الجانب الذي يوجد فيه الرئيس. ولأن المطلوب لتمرير أي مشروع قانون أن يحصل على 40 صوتاً زائد الصوت المرجح، فبالتالي لا يكون للمجلس المنتخب أي دور تشريعي إلا إذا وافقت علىه الحكومة من طريق المجلس المعين، الذي سيكون بمثابة ذراع الحكومة الطويلة في البرلمان، لأن المعينين الذين يعملون من أجل إعادة تعيينهم يجب ألاّ يخالفوا أوامر الحكومة. ويعد هذا الوضع انتقاصاً لما كان في الدستور القديم العام 1973 إذ كان المجلس الوطني ذو الغالبية هو وحده صاحب الحق في التشريع ولم يكن هناك مجلس معين يسيّر العملية التشريعية في الاتجاه الذي تقره الحكومة فقط، وهو يخالف في الوقت نفسه مبدأ ثابتاً للفقه الدستوري بأن أي تعديل للدستور مهما كانت آلية وطريقة التعديل يجب ألاّ ينتقص من حقوق المواطنين وأهم حق من حقوق المواطنين ممارسة دور التشريع والرقابة. ووضعت هذه التعديلات الجمعيات السياسية أمام خيارين كلاهما مر، فهي إما أن تقبلها بما في ذلك المشاركة في الانتخابات البلدىة والبرلمانية، وهذه الحال تعني أنها قبلت عملياً التخلي عن دستور 1973، ومثل هذا الأمر يجعل المعارضة متناقضة مع نفسها، ذلك أن نشاطها منذ حل البرلمان السابق العام 1975 تمحور حول تفعيل دستور 1973، ومن الطبيعي أن يشعر المواطنون الذين أيدوا كفاح المعارضة طوال أكثر من ربع قرن بالإحباط إذا ما سارت المعارضة في هذا الاتجاه. وإما ان تشارك في تلك الانتخابات البلدىة والبرلمانية، مع الاحتفاظ بحقها في رفض تلك التعديلات، والنضال من خلال القنوات السياسية الشرعية على إلغائها. ولكن هذا الخىار يعني القبول بتجاوز مطلب رفض التعديلات على أرض الواقع، لأن المؤسسات التي ستتمخض عنها تلك الانتخابات ستكتسب شرعيتها من الدستور الجديد، الأمر الذي يجعل المطالبة بدستور 1973 غير ذات معنى. واختارت المعارضة وفي إطار تعاملها بعقل مفتوح مع المشروع الإصلاحي تقديم خيار حُسن النيات بالمشاركة في الانتخابات البلدىة التي أجريت في آيار مايو الماضي، وفي الوقت الذي كانت هذه المشاركة بمثابة إجراء لإعادة بناء الثقة مع الحكومة، فإن المعارضة أرادت من خلال نصرها المحتمل توجيه رسالة إلى النظام الحاكم بأنها قوية في الشارع السياسي، وعلى هذا الأساس شاركت المعارضة في هذه الانتخابات وعلى رغم انتقاداتها أيضاً المرسوم بقانون البلدىات رقم 35 للعام 2001 الذي منح المجالس البلدىة اختصاصات استشارية بحتة وأجاز حلها بقرار إداري، وهذه الاختصاصات الهشة كانت مناسبة ثانية لانحراف مسيرة المشروع الإصلاحي. ولم تفلح جهود المعارضة في إقناع الملك بتصحيح مسار المشروع الإصلاحي انطلاقاً من هذه الخطوة الإيجابية التي اتخذتها بالمشاركة في الانتخابات البلدىة، وجاء الرد من جانب الحكومة سلبياً، من خلال خطوتين أكدتا اتساع البون بين الطموح إلى التغيير وما يمكن أن يتحقق فعلاً على أرض الواقع. وقد تمثلت الخطوة الأولى في المرسوم بقانون الخاص بمجلسي الشورى والنواب الذي صدر في تموز يوليو الماضي، والذي حرم على الجمعيات السياسية ممارسة العمل السياسي أثناء الانتخابات البرلمانية من خلال تقديم مرشحين أو الدعاية لأعضائها الذين سيخوضون الانتخابات. أما الخطوة الثانية فقد تمثلت في المرسوم بقانون الرقم 29 لسنة 2002 بشأن تحديد المناطق والدوائر الانتخابية، الذي قسم الدوائر في شكل جائر، حيث قضى بتقسيم المحافظة الجنوبية التي كتلتها الانتخابية 11.991 شخصاً إلى 6 دوائر، بينما وزعت محافظة العاصمة التي عدد كتلتها الانتخابية 40.334 شخصاً إلى 8 دوائر، والمحافظة الشمالية التي عدد كتلتها الانتخابية 69.483 شخصاً إلى 9 دوائر في حين قسمت محافظة المحرق التي عدد كتلتها الانتخابية 44.124 شخصاً إلى 8 دوائر، والمحافظة الوسطى وعدد كتلتها الانتخابية 70.736 شخصاً إلى 9 دوائر، وذلك بحسب إحصاءات الانتخابات البلدىة. وإزاء هذا التعنت كان من الطبيعي أن تقدم المعارضة على إجراء من شأنه تكثيف الضغط على الحكومة التي باتت نياتها إزاء المشروع الاصلاحي محل شك. وفي هذا الإطار أعلن بعض الجمعيات السياسية في 3 ايلول سبتمبر الماضي قراراً بمقاطعتها للانتخابات البرلمانية. وفي تبرير منطق هذا القرار يمكن القول إنه يحفظ لهذه الجمعيات هامشاً من المعارضة في سبيل تطوير المشروع الإصلاحي، وهذا أمر على درجة عالية من الأهمية في ظل تجارب التحول الدىموقراطي الوليدة. وفي الوقت نفسه فإنه يوفر لها فرصة لالتقاط أنفاسها وإعادة ترتيب صفوفها من جديد، الأمر الذي يمكنها من مواصلة نضالها في سبيل تقويم هذا الانحراف الذي لحق بالمشروع الإصلاحي. وبذلك كسبت الجمعيات معركة الانتخابات من دون الدخول فيها، إلا أن هذا ليس هو كل المطلوب، فالأهم هو كيفية عملها في المرحلة المقبلة التي تحمل نذر تصعيد في المواجهة بينها وبين الحكومة عندما تقوم الأخيرة عبر المجلس الوطني بتمرير المراسيم والقوانين الأخيرة، بما فيها التعديلات الدستورية. فقد تعودت المعارضة البحرينية طويلاً على ثقافة التجييش وعلى أن تخوض نضالها من الشوارع والصحف وشبكة الإنترنت، وقد لا يبدو هذا ملائماً الآن في ظل مرحلة جديدة اصبح لها مؤسساتها التي تتمتع بالشرعية على الأقل من وجهة نظر آخرين، وفي الوقت نفسه تحتفظ الحكومة لنفسها بتحريك آلة القمع، وكل هذا يفرض على المعارضة أن تطور أدوات نضالها السلمي. وفي تصوري أن المطلوب في هذا الإطار هو تأسيس تكتل أوسع يشمل ليس هذه الجمعيات، وإنما الجمعيات الأخرى التي قررت خوض العملية الانتخابية مع استمرار رفضها التعديلات الدستورية، وهي الجمعيات التي سيتصاعد سخطها على الحكومة إذا ما تمادت هذه الأخيرة في الانحراف بالمشروع الإصلاحي وإضفاء شرعية على تشريعات لا تلبي الطموح في التغيير أو تعكس ردة عن القليل الذي تحقق، حيث أن مثل هذا التكتل سيحمل ما يمكن اعتباره توزيعاً للأدوار، بين معارضة من داخل النظام تعمل في شكل شرعي وتستمد قوتها من هذا الاعتبار، وبين معارضة من خارج النظام تستمد قوتها من تمثيلها القطاع الأكبر في الشارع البحريني، ومن المؤكد أن هذا التكتل سيكون عامل ضغط قوياً على الحكومة. وثمة صيغة مطروحة بالفعل لهذا التكتل هي صيغة التجمع الوطني الدىموقراطي، كمظلة لجميع القوي السياسية، والمهم الآن أن يتم تفعيلها لتواصل المعارضة نضالها من اجل التأسيس لتجربة تحول ديموقراطي حقيقية، وليس تحولاً إلى حد معين يكفل الاستقرار للنظام من دون أن يلبي طموحات الشعب على غرار ما حدث في تجارب التحول الدىموقراطي العربية الأخرى. * باحث متخصص في شؤون البحرين في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في "الأهرام" - القاهرة.