رواية شاعرية أو رواية قوطية حافلة بمشاعر الرعب والموت المخيم في كل مكان؟ عمل رومانسي ام عمل سيكولوجي نبع من مخيلة امرأة تعيش في منطقة نائية، مع اخواتها المستوحدات مثلها، في تلاحم مع الطبيعة، وتفاعل مع احلام اليقظة؟ قصيدة او قصة؟ عمل ذاتي يروي إخفاقات تلك المرأة وأمنياتها، او عمل مأخوذ من احداث حقيقية عايشتها المؤلفة؟ رواية كبيرة اسست للأدب الإنكليزي اواسط القرن التاسع عشر، ام عمل ثانوي الأهمية اضفت عليه سماته الكئيبة شهرة سلبية؟ هل كانت رواية "مرتفعات وذرنغ" لإميلي برونتي، هذا أو ذاك؟ ام تراها كانت الأمرين معاً؟ مهما كان من شأن الجواب، فمما لا شك فيه هو ان "مرتفعات وذرنغ" تشغل مكانة اساسية في الأدب الإنكليزي. وهي، بلا ريب، العمل الأشهر بين ما خطته ريش الآنسات اللواتي عرفن باسم "الأخوات برونتي" واللواتي عشن معاً، منعزلات في تلك المنطقة النائية التي اجبرهن على العيش فيها عمل أبيهن. فكان ان انصرفن معاً، الى ممارسة الكتابة تعبيراً عن عواطف جياشة مكتوبة، وعن رغبات في الانطلاق وجدت دونها حواجز وعقبات. اميلي كانت الأشهر، بفضل "مرتفعات وذرنغ" تحديداً، لكن شارلوت وآن ضاهيتاها شهرة بالطبع... ولقد أسفرت جهودهن معاً، عن عدد من الأعمال التي طبعت الأدب الإنكليزي كله خلال الحقبة الوسطى في القرن التاسع عشر. وظلت تلك الأعمال - او معظمها على الأقل - حية طوال الأزمان التالية وصولاً الى القرن العشرين حيث التقطت السينما اعمال الشقيقات لتحولها افلاماً في تكرار مدهش، وصل ذروته في العام 1979 حين حقق المخرج الفرنسي اندريه تيشينيه فيلماً عن الأخوات جميعاً، كما عن شقيقهن الذي ارتبطن به مع انه عاش عيش تجوال وتشرد بعيداً منهن. وحمل الفيلم، الذي قامت ببطولته يومها ايزابيل آدجاني اميلي وايزابيل هوبير آن وماري فرانس بيزييه شارلوت عنوان "الأخوات برونتي". والطريف في ذلك الفيلم كان ظهور الباحث رولان بارت في الفيلم كممثل، حيث قام بدور الكاتب ويليام تاكري. إذاً، رواية اميلي برونتي "مرتفعات وذرنغ" كانت الأشهر. وهي، بأية حال، الأقوى بين "دزينة" الروايات التي بقيت لنا، حتى اليوم، من نتاجات الشقيقات. ذلك ان هذه الرواية جمعت كل تلك الخصائص التي ميزت الروايات: التشويق، العواطف، العلاقات الحميمة، الخيبة، العنف، الانتقام، الحضور الطاغي للطبيعة والحب الذي بالكاد يعرف كيف يصل الى نهايته المنطقية. والحال ان هذه السمات التي يمكننا ان ننظر إليها اليوم نظرة ايجابية باعتبارها تشكل السمات العامة التي تطبع الأدب الإنكليزي طوال تلك الحقبة، نظر إليها النقاد في ذلك الحين نظرة سلبية. إن ما يميز "مرتفعات وذرنغ" على اية حال، يكمن في كونها تكاد وحدها تختصر "المشروع" الروائي لإميلي وشقيقتيها، خير اختصار. إذ انها تحمل مجتمعة كل تلك العناصر التي قد نجدها متفرقة في العديد من الأعمال الأخرى، وتركز على كل عنصر بقوة تجعله يبدو وكأنه العنصر الأساس. وفي هذا الإطار ملفت ان تروي "الحكاية" كلها على لسان شخص غريب عن احداثها رويت له، وها هو هنا يرويها لنا. ومنذ البداية نفهم ان كلمة "وذرنغ" التي تأتي في عنوان الرواية، انما هي كلمة اسكوتلندية الأصل، تعني نوعاً من العاصفة... وهذه العاصفة لا تني تدور من حول بيت الشخصية الرئيسية بالمعنيين الحرفي والمجازي، لأن الحدود بينهما تنعدم تماماً، طالما ان العاصفة تكمن اصلاً داخل تلك الشخصية تحركها، تدفعها الى ما تفعل، وتدمرها في الوقت نفسه. الشخصية الرئيسية في الرواية هي هيثكليف، الطفل الغجري الذي تخلى عنه أبواه، فالتقطه المزارع الثري السيد ايرنشو ليربيه في منزله الريفي كواحد من ابنائه. وبعد وفاة المحسن العجوز هذا، يبدأ هندلي، ابنه بإساءة معاملة هيثكليف إذ انه لم يحبه اصلاً واعتبره دائماً دخيلاً على حياته وحياة أسرته. وفي المقابل تحسن ابنة ايرنشو، كاثرين، معاملة هيثكليف الذي يترعرع هائماً بها راغباً في ان تكون امرأته، لكن كاثرين لا تلقي بالاً لذلك الحب. فالأمر عندها لا يتعدى التعاطف والشفقة. وهي تصرح بذلك ذات يوم غير دارية ان الفتى كان يسمع ما تقول. وتكون النتيجة ان يصاب هيثكليف بالصدمة، امام فتاة احلامه وهي تقول انها ابداً ليست مستعدة للزواج من غجري. وبفعل الصدمة يغادر هيثكليف البيت ليغيب ثلاث سنوات يحقق خلالها ثراء طائلاً، ويعود وقد تبدلت احواله. لكن احوال المزرعة نفسها كانت قد تبدلت في الوقت نفسه. فكاثرين اقترنت بابن الجنرال التافه ادغار لينتون. وأخوها هندلي تزوج بدوره ويبدو انه عقل، إذ ها هو الآن يستقبل هيثكليف استقبالاً طيباً. لكن هيثكليف لا ينخدع هذه المرة. فهو، إذ لا يكف عن الهيام بكاثرين ويشعر انه قد غُدر به لا يعيش هنا إلا لكي ينتقم. وكاثرين، التي تكتشف آنئذ انها بدورها تحبه، ولكن ما باليد حيلة، تموت قهراً، في الوقت الذي تضع فيه طفلتها كاثي. اما هيثكليف فتزوج، يائساً ايزابيل، شقيقة ادغار لينتون، لا لكي يحبها، بل لكي يسيء معاملتها ضمن اطار خطته للانتقام لماضيه. وفي الوقت نفسه يسيطر تماماً على هندلي وعلى ابنه هارتون، الذي يذعن له تماماً بحيث ينشأ تحت رعايته اشبه بحيوان ضار. ثم يجتذب كاثي الى دياره ويجبرها على الزواج من ابنه الاحمق المعتوه، وقد آلى على نفسه الآن، ان يستولي على املاك آل ليتون. ولكن ابن هيثكليف يموت وتغرم كاثي بهارتون. اما هيثكليف فإنه يشعر ذات لحظة بأن قواه قد خارت وأن الأمل الوحيد الذي بات يداعب خياله انما هو امل الموت بسرعة لكي يلتقي حبيبته كاثرين في العالم الآخر. ثم، إذ يحاول، في لعبة شر اخيرة منه، تدمير منازل آل ليتون وآل ايرنشو، يفشل في محاولته ويموت فيما يرتبط هارتون وكاثي، وارثين العائلات الثلاث معاً. هذه هي الحكاية التي يحكيها لنا الراوي متوقفاً عند تلك النهاية المركبة. أما لغة القصّ كلها فشاعرية الى ابعد الحدود، وإلى درجة قال معها النقاد ان "مرتفعات وذرنغ" اشبه بأن تكون قصيدة طويلة جداً. اما النقاد الأكثر جدية فقالوا ان "مرتفعات وذرنغ" يجب اعتبارها من النصوص التي مهدت للقصة السيكولوجية، ذلك ان عنصر تحليل الشخصيات يبدو طاغياً، وإن كان تقديم شخصية هيثكليف قد اتسم في احيان كثيرة، بالكثير من السذاجة، وبدت افعاله، احياناً، غير مبررة، وغير متسقة مع مقدماتها. غير ان هذا كله لا يقلل من اهمية هذه الرواية التي كتبتها اميلي برونتي وهي في التاسعة والعشرين من عمرها، وقبل عام واحد من رحيلها شابة في الثلاثين. وإميلي برونتي التي عاشت بين 1818 و1848 كانت الوسطى بين الشقيقات الثلاث، وتصغر الأخ برانويل بعام واحد. وهي لم ترتد المدرسة، مثل شقيقتيها، سوى لأعوام قليلة تلقت بعدها دراسة منزلية، وعاشت شديدة القرب من اختها الكبرى آن. ولئن كانت اميلي قد خلفت لنا، على رغم سنوات عمرها القصيرة، عدداً من النصوص والكتابات الشعرية والقصصية، فإن "مرتفعات وذرنغ" تبقى الأهم بين ما كتبته، بل، كما أسلفنا، الأهم والأشهر بين نتاج الشقيقات برونتي.