ذات صباح مشرق في وسط بيروت الحديث، التقيت يعقوب الشدراوي المخرج المسرحي وقد "ختْيَر"، مع أنني لم أعرفه سوى أشيب. ابتسم لي برقّة. ولمعت عيناه واتّسعتا حتى سالت منهما ذكريات قديمة. وإذا بالمنظر العام حولنا يتغيّر فيعود الدمار إلى تلك المنطقة والأعشاب البرّية والهشيم وحيوانات القتل ودوي الانفجارات. عادت الحرب وخلا المكان من كل حسّ وأنس... وحدها البقعة التي كنا نقف فيها أنا و"يعقوب" كانت مضيئة، مثلما في لوحات "رامبرانت" الرسام الهولندي الذي يبرز العناصر الأساسية في أعماله بألوان وهّاجة. ومن بقعتنا الهانئة تلك، رحنا نتذكّر أوقاتاً حلوة كان يشوبها موت ولوعة وكان فيها يعقوب أحد المنشدين الكبار للحرية. استطاع في أعماله أن يغرّد خارج أسراب الحقد وأن يجد للحرية مكاناً حيث لم يكن للحياة نفسها مرقد. وكمن يخرج من صمت طويل، راح ينسج حديثاً عن مآله ويسأل عن أحوالي. ومن حين إلى آخر، كان المنظر حولنا يتغيّر كفصول مسرحية: فصل الغدر، فصل العنفوان، فصل الكرامة، فصل الدبكة، فصل الحب... والخلفية حرب واقتتال. فجأة صعقنا زمور شاحنة، فتبدّدت المشاهد وعاد وسط المدينة إلى ما هو عليه الآن مطاعم وزحاماً. قبّلني يعقوب ومضى ساعياً. وقبل أن أستفيق من وهلة اللقاء، التفت إليّ وهمس كما يهمس الساحر المدهش في أذن مريده: "توقّع دائماً ما ليس في الحسبان".