يحتل أدب السيرة والمذكرات مكانة ثانوية في خارطة الأدب العربي المعاصر بخلاف ما هو عليه فن الرواية أو القصة. ومرد ذلك بالطبع لا يعود الى نقص في العدد أو الكم بل الى نقص في النوع والنظرة والمفهوم. ذلك ان الشرط الأساسي لكتابة السيرة هو الجرأة والمصداقية وكشف المستور بحيث يستطيع القارئ أن يقف على حياة المؤلف وهويته الحقيقية وأن يطلع على ما خفي من وقائع هذه الحياة وتقلباتها وأسرارها بعيداً عن التزوير والتزويق وتمويه الواقع. وإذا كانت الحرية، كما الصدق، شرطاً أولياً من شروط الكتابة والفن فإن هذين الشرطين يتحولان مع السيرة الذاتية الى ممر اجباري وحيد لاستقامة النوع وفاعليته وعلة وجوده، وإلا انحرفت السيرة عن مسارها الأصلي وفقدت مبرراتها أو تحولت الى فن آخر هو أقرب الى الرواية منه الى السيرة أو المذكرات. لهذا السبب على الأرجح تكاد الكتابة العربية تفتقر بالكامل الى هذا النوع من الأدب، باستثناء أعمال قليلة من بينها على سبيل المثال لا الحصر "الأيام" لطه حسين و"الخبز الحافي" لمحمد شكري و"بيضة النعامة" لرؤوف مسعد. فمعظم كتابنا يعمدون عند استعادة سيرهم الى تقديم الحياة وفق ما يشتهون أن تكون لا كما هي في الواقع. انها حياة محلومة، مثالية وخالية من كل عيب. أما رواتها فكاملون وعصاميون، لا يأتيهم الباطل من أمامهم ولا من خلفهم ولا ينجرفون وراء رذيلة أو يضعفون أمام شهوة. انهم يؤلفون مراياهم كما يؤلفون وجوههم وصورهم بالذات. لذلك فإن ما يقدمونه لنا عبر سيرهم أو مذكراتهم لا يمت بصلة الى الوجه بل الى القناع ولا الى الروح العزلاء والعارية بل الى الجسد المستور والمموه بأكثر من طلاء. هكذا عكست نتاجاتهم كل شيء باستثناء الحياة، وبدت أقرب الى التوهم والخرافة منها الى الحقيقة والصدق. قد تكون القيمة الأبرز لكتاب سهيل ادريس الأخير "ذكريات الأدب والحب" هي في هذه النقطة بالذات، أي في جسارة الكاتب وجرأته على تقديم الحياة، أو بعضها على الأقل، بأوفر ما يكون من الصراحة والمصداقية. وإذا كان الكاتب قد تخير لعنوان كتابه مصطلح "الذكريات" بدلاً من "السيرة" فإن ذلك الاختيار على الأرجح لم يكن من قبيل الصدفة بل من قبيل القصد الهادف لأن الذكريات هي جزء من السيرة لا السيرة بكاملها، ولأن هذه الأخيرة تحتاج الى ما يتعدى التذكر والاسترجاع، أي الى "الأرشفة" الدؤوبة والتدوين شبه اليومي والاستحضار التفصيلي للوقائع والظروف والأحداث. وهو أمر لا توفره الذكريات "الادريسية" المكتوبة على عجل، كما يلاحظ القارئ. فحياة صاخبة وغنية ومتنوعة كحياة سهيل ادريس كان يمكن ان تشغل أضعاف المساحة التي يشغلها الكتاب لو أعد لها المؤلف كامل عدته، ولو مكنته من ذلك صحته المعتلة أو نظره الشحيح أو سنوات عمره التي بلغت الثامنة والسبعين وفق سجل القيد المصحح والسادسة والسبعين وفق "تصحيح التصحيح"!. لم تكن سهلة بالطبع مهمة سهيل، وان كان اسمه الرشيق و"السهل" قد سهل له سبيل النجاح، وفق صديقه الساخر واللماح سعيد تقي الدين الذي يكتب اليه في احدى رسائله: "لقد كان أبواك سليمي الذوق إذ دعواك "سهيل". وان جدك الأعلى كان موسيقياً حين اختار "ادريس" له اسماً. ان لك اسماً تحسد عليه. فلتكن عناوينك الغازاً موسيقية. انني أسائل نفسي أكان جبران خليل جبران أصاب هذه الشهرة لو ان اسمه "قزحيا مطانيوس بوغنطوس"؟". وصعوبة هذه المهمة، وبصرف النظر عن سهولة الاسم، ناجمة عن كون صاحبها رجالاً في رجل أو "مفرداً بصيغة الجمع"، بحسب أدونيس. إذ عليه ان يؤرخ للإنسان والعاشق ورجل الدين والناقد والروائي والقاص والناشر وصاحب "الآداب" والمناضل القومي في الوقت ذاته. وسيكون عليه تبعاً لذلك ان يروي سير كل أولئك الذين اجتمعوا في شخصه وحولوا قامته القصيرة المتواضعة الى واحدة من أهم "المؤسسات" الثقافية والفكرية في العالم العربي. الصورة المركبة بلغة مبسطة وسرد رشيق وخفة ظل عالية وتجرؤ على النفس و"العائلة" عمل سهيل ادريس على تظهير تلك الصورة الشخصية المركبة وتقديمها لقرائه. فهذا الذي خرجت الحداثة العربية من جيبه، على حد محمود درويش، والذي بواسطته تعرف نزار قباني على أصابعه وعلى الشعر، وفقاً لتعبير نزار الحرفي، لم يتردد قيد أنملة في تقديم نفسه كما هي بالذات لا كما يريد لها ان تكون مبتعداً كل البعد عن التهويل والتضخيم السحريين. وإذا كانت السخرية هي في رأس عدة الأسلوب الادريسي المميز فإنه لم يشأ بواسطتها ان ينال من الآخرين أكثر من نيله لنفسه. لا بل ان ما لحقه من ظرفه اللماح و"سلاطة" لسانه وقلمه يفوق بأضعاف مضاعفة ما لحق الآخرين. فمنذ السطر الأول للكتاب وحتى السطر الأخير يحملنا المؤلف على صهوة الابتسام وافترار الثغر وصولاً الى القهقهة والضحك في بعض الحالات. الحياة عند ادريس هي سلسلة لا تنتهي من المفارقات الغربية والمضحكة بدءاً من العمر وارث العائلة المفقود في زنقات "فاس" ومدن المغرب، مروراً بالقامة القصيرة والعمامة المبكرة وليس انتهاءً بالملامسات الجنسية الأولى والسقوط عن شرفة الحبيبة و"ترجمة" الكلمات بالقبلات. ثمة، بين ظهرانينا، كتّاب وأدباء، يعيشون فصاماً شبه كامل بين الحياة والكتابة. فهم فيما يعيشون يتحللون من أي وازع ويتجرعون الشهوات حتى القطرة الأخيرة ويلامسون آخر عتبات العبث والفوضى وافتراع اللذائذ لكنهم ما ان يجلسوا الى طاولة الكتابة حتى يستعيدوا رصانتهم وربطات عنقهم وزيهم الرسمي كما لو أنهم أناس آخرون. كأنهم وجه آخر "لسي السيد" الممزق بين عبثية الخارج وجدية الداخل أو بين تهتك الحياة وطهرانية الكتابة. عند سهيل ادريس لا أثر لمثل هذه الازدواجية، وبخاصة في كتاباته الابداعية المتجسدة في "الحي اللاتيني" و"الخندق الغميق" وكتابه الأخير. ربما نجد أثرها في مجالات أخرى تتعلق بصلابته الايديولوجية والقومية التي تصل أحياناً حد "التصلب"، أو بنظرته الى الأدب ودوره الملتزم من خلال "الآداب". لكنه ما ان يتحول بنفسه الى كاتب حتى يصغي أشد ما يكون الاصغاء الى صوت داخله الشغوف بالحرية وغير المعترف بالممنوعات. "والحقيقة انني لم أكن أحب أبي، إذ كنت أشعر بأنه يعيش جواً من النفاق. وجاء وقت بدأت أحس أن أبي يحيا حياتين: حياة مع زوجته وعائلته، وحياة ثانية مع آخرين. واكتشفت ذات يوم اصطحابه لشاب جميل الطلعة، أشقر الشعر، كنت أراه أحياناً في المتجر الملاصق لمتجره على المرفأ. وقد دخل مع هذا الشاب الى غرفة الاستقبال، في بيتنا، التي كان لها باب خارجي، وسمعت بعد قليل انغلاق الباب الداخلي لهذه الغرفة وصوت المفتاح يدور في قفل الباب". ذلك ما يكتبه سهيل ادريس حرفياً في مطلع كتابه من دون ان يترك لنفسه وللقارئ أي لبس يذكر حول شذوذ أبيه الجنسي. وذلك على وجه التحديد ما لم يتجرأ عليه أي كاتب عربي آخر باستثناء محمد شكري، حسبما أعلم. ان قيمة هذا النص بالطبع لا تتأتى من براعته الفنية أو تجاوزه التخييلي بل من تجاوز المحظور وانتهاك المقدس وفتح الباب واسعاً لكي تخترق الكتابة حدود المحرم وسياج "الأخلاق" المتوارثة والمتفق، زوراً، على تعريفها الملفق. وإذا كان لنا ان نتوقف عند نص كهذا فلنوضح نقطتين: احداهما ايجابية والأخرى سلبية. الجانب الايجابي يتعلق بالطريقة التلقائية السهلة التي جعلت الكاتب يروي الحادثة من دون تلعثم أو توجس وكأنها جزء من طبيعة الحياة لا يستوجب تهويلاً ولا حقداً زائداً على الوالد. لا بل انه لا يعود اليها مرة ثانية ولا يذكر والده من جديد إلا في السياق الطبيعي للعلاقة بين الأب والابن، في اطار من الظرف المحبب والوئام العائلي. أما الجانب السلبي فمرده الى ان الاعتراف المذكور لم يتجاوز حدود السطور القليلة العابرة ولم يحاول الكاتب، لسبب نجهله، ان يضيء الجوانب الخفية من ظلمات نفسه وما يستتبعه الحدث من تمزق وصراع داخليين. إذ كان عليه وقد تجشم عناء الهتك والافصاح أن يذهب أكثر مما فعل في اغناء أثره الأدبي وتشريع أبوابه على الأسئلة والترجيع واحتراب الأعماق. ينجح سهيل ادريس الى حد بعيد في التوفيق بين تأريخه لسيرته ولنفسه وبين تأريخه للعالم المحيط به. ولأنه يعرف بأن لا مكان في الكتابة للسيرة الكاملة وأن الحياة، أي حياة، تظل بدقائقها وتشعباتها الكثيرة أوسع من الكتابة فهو يختار من حياته ما يصلح للبوح والاعتراف من جهة، وما يفيد القارئ ويغنيه من جهة أخرى. فهو يعلم في قرارة نفسه ان القراء ينتظرون منه الكثير مما يقال، خصوصاً وأنه لم يكن من السهل على رجل بعينه ان ينهض بعبء مجلة أدبية كبرى كمجلة "الآداب" وان يحمل على عاتقه طيلة نصف قرن ما تنوء به دول ومؤسسات كبرى. كان ادريس من هذه الزاوية مضطراً للمواءمة بين البوح الداخلي والتدقيق الأدبي والتاريخي، بين شغفه العاطفي الشهواني وبين ارتقائه سلم الكتابة والأدب واعترافه النبيل بفضل من أخذوا بيده من أهل ذلك الزمان. هكذا بدت السيرة وكأنها سيرتان اثنتان، أو كأنها تنقسم على نفسها وتنقلب في شكل واضح من السرد الحكائي المثير والساخر والحميم الى النقل شبه الوثائقي للرسائل المتبادلة بينه وبين الناقد المصري أنور المعداوي والكاتب اللبناني سعيد تقي الدين. وبين هذا وذاك أجدني من دون تردد منحازاً لسهيل الأول لا لسهيل الثاني، على رغم علمي بأن الضرورة التاريخية ومقتضيات السيرة والأمانة في نقل الوقائع والأحداث هي التي أملت على الكاتب ان يفرد جزءاً غير يسير من مذكراته لنشر تلك الرسائل. ولو ترك الأمر لمزاج ادريس وهواه الشخصي لآثر، مثل الكثير من قرائه كما أعتقد، أن يتوقف طويلاً بالقرب من نهدي "أمية" المتبرعمين أو عيني "حنان" اللتين ينعكس فوقهما قمر سهل البقاع. أشخاص وسخرية لا يقسو كاتب "الحي اللاتيني" على الأشخاص الذين عرض لهم في سيرته أكثر من قسوته على نفسه. لا بل انه، باستثناء غمزه الساخر من قناة صاحب "الصياد" سعيد فريحة، لا يتناول كلاً من المعداوي وتقي الدين إلا بعين الحب وحبر الوفاء والعرفان، وإذا كان قد قسا قليلاً على فريحة فلأن هذا الأخير لم يقصر بحقه على الاطلاق ولم يبخل عليه بانتقاداته اللاذعة أو بعدائيته السافرة الناجمة كما يشير ادريس عن أمية فريحة وجهله الكامل باللغات الأجنبية. ومع ذلك فإن الكاتب يعترف لفريحة بقلمه الساخر وأسلوبه اللاذع اللذين أفاد منهما ادريس الى حد بعيد. أما الرسائل المتبادلة بين ادريس والمعداوي فتتسم بالكثير من الجدية والحذر وتكاد تخلو بالكامل من روح الدعابة والمرح المعهودين لدى المؤلف. في حين تكتسب مراسلاته مع سعيد تقي الدين الكثير من الألق والطرافة وخفة الظل، اضافة بالطبع الى السجالات النقدية القيمة بين الطرفين والتي تلقي الكثير من الضوء على مفاهيم ذلك العصر ولغته وأساليبه. وحسناً فعل سهيل ادريس بنشره ذلك النص "الزورباوي" الرائع الذي حوله سعيد تقي الدين الى نشيد للحياة والرغبة والى دعوة صادقة للتحالف الوثيق بين الحبر ودورة الدم وبين اللغة والشغف.