من منا نحن الصحافيين لا يذكر العمل الأول، والمقال الأول، والخبر الأول. طهر الاندفاعة والرغبة في تغيير العالم، بإمضاء وشخطة قلم. مبالغات نعم، ولكنها تبقى صاحبة جلالة. مهنة البحث عن المتاعب تحتفظ بجاذبية تحسدها عليها باقي المهن. واللافت فيها ان هذه الخاصية شاملة أكان الصحافي في دمشق أو القاهرة أو الرياض أو أي مكان آخر في العالم. لم أكن تخرجت في كلية الآداب قسم الصحافة، عندما نشرت صحيفة "السياسة" الكويتية مقالتي الأولى في 20 نيسان ابريل 1995. اعتبرت ذلك التاريخ، يوم مولدي الحقيقي. فرحتي كانت أعظم من ان توصف. واحتفلت مع زميلاتي في سكن الطالبات والأخوات الراهبات لمناسبة ظهور اسمي للمرة الأولى على مقالة احتلت نصف صفحة. لم يكن موضوع المقالة يعني شيئاً لأي من الذين شاركوني الفرحة، حتى أهلي الذين فاقت فرحتهم فرحتي، لم يسألوا عن عنوان المقال سوى للمجاملة فقط، المهم هو ظهور اسمي، وبدء عملي الصحافي رسمياً. ودوّنت تفاصيل هذه المناسبة في أجندة حرصت على حملها ذلك العام، عملاً بتوصيات كتاب أميركي عن متطلبات النجاح الصحافي. المفارقة، ان ذلك الحدث العظيم في حياتي، المعادل لولادتي في حينه، زال من ذاكرتي تماماً، على رغم ان السنوات التي تفصلني عنه ليست بعيدة. ولولا عثوري صدفة على تلك الأجندة التي صار استخدامها من التقاليد البائدة بالنسبة لي - إذ لم تعد تعنيني اية نصائح نظرية للنجاح - لما تذكرت مقالتي الأولى، ولما تذكرت المشاعر التي رافقت ذلك الحدث، ولما تذكرت ايضاً الانزعاج الذي انتابني بعد اسبوع من ظهور المقالة. فاحدى الزميلات بالغت في الاحتفاء في المناسبة، واقترحت ان تحفظ صورة عن المقالة في اطار، لكنها في وقت لاحق استعملت عدد الصحيفة نفسه لتنظيف زجاج النافذة!! في عودتي الى تلك الحادثة أيقنت ان مهنة الصحافة هي التي اختارتني أكثر مما اخترتها انا، واحببتها كقدر لا مفر منه على رغم انها لا تحتمل الحنين الى الماضي، فكل يوم معها يحمل جديداً يطغى على ما سبقه، ومتعة المغامرة في العمل الصحافي مهما بدا آنياً هي الإصرار على المستقبل، بينما تبدو المراوحة في الماضي انتحاراً بطيئاً لمشروع يسعى الى اختزال الزمن بالخبرة والتراكم. التجربة الأولى مجرد ذكرى محفوظة بكلمات في اجندة مصيرها التلف، الباقي فقط ما قد تحققه التجربة الأولى كخطوة متواضعة جداً، على طريق طويل حاضره الصخب، ويغري بالاستمرار لبلوغ ما هو آت.