أتصلت بي واحدة من تلميذاتي في الجامعة تسألني عن رأيي بعرض للعمل في أحد المواقع الإلكترونية التابعة لأحد الأحزاب السياسية في لبنان. وجدت نفسي أمام معضلة. رد فعلي الأولي كان نصيحتها بأن ترفض العرض. فالصبية الواعدة لا تزال في سنتها الأولى، وهي على رغم حماستها ونشاطها وعلى رغم إيماني بحسها الصحافي، لا تزال غير جاهزة لتحصين مستقبلها المهني مما يمكن أن تتعرض له في بيئة صحفية ممولة في شكل مباشر من حزب سياسي. ترويت قليلاً واستمعت إلى نفسي أقول لها، اقبلي، وادخلي غرفة الأخبار وحصلي ما استطعت من خبرة، ولكن ابقي حذرة، ثقي بنفسك وبحدثك واجتهدي بأن لا تتنازلي عن مبادئ المهنة، ويوم يفرض ذلك عليك، ابقي على مسافة، على الأقل أمام نفسك... اعترفي لنفسك أن في ذلك خطأ مهني... المهم، أن لا تقبلي الخطأ بصفته الصواب، وأن لا تدافعي عنه. أغلقت الهاتف مع تلميذتي وتركت العنان لنفسي. أين سيعمل كل هؤلاء المتخرجين؟ هذه الطاقات كيف ستندمج في مشهد إعلامي محلي وإقليمي أقل ما يقال عنه إنه غاية في الإحباط... كبريات الصحف تنازع، أغلب المؤسسات التلفزيونية مجحفة في حق صحافييها... حتى الأحزاب السياسية، لم تعد في حاجة لأن تمول إعلاماً يدعي حداً أدنى من المهنية، فهي تستطيع أن تفتح مواقعها الإعلامية الخاصة، التي تسيطر عليها في شكل أكبر وبكلفة أقل... وها هي تفعل ذلك. المشهد فعلاً محبط. استعدت تلميذتي، استعدت ما كررته على مدى أشهر تقريباً في كل صف. جيلكم، لن يكون عليه أن يقبل بالتنازلات المهنية التي فرضت على جيلنا. نعم التحدي أكبر كما المنافسة، لكن الفرص أيضاً كما الإمكانيات. على رغم ضبابية المشهد إن لم نقل سوداويته، هناك الكثير مما يعول عليه. ما يواجه المبتدئين من الصحافيين العرب من خيارات وتحديات على المستوى المتوسط والبعيد يشبه إلى حد بعيد ما يواجه أبناء جيلهم في كل مكان. لم يعد العمل لدى مؤسسات الإعلامية الكبرى، شرطاً ولا حتى خياراً وحيداً لمن يريد أن يقوم بعمل صحافي مهني. الأمثلة كثيرة ولعل أبرزها تجربة أوراق باناما. ففي حين شاركت مؤسسات إعلامية غربية وأوروبية عريقة مثل ال «غارديان» وال «بي بي سي» في التحقيق، كانت المشاركة في الدول حيث لا تزال حرية الإعلام مقيدة من قبل صحافيين مستقلين أو عاملين لدى مؤسسات صغيرة يأتي تمويلها من مؤسسات دولية تدعم الصحافة الاستقصائية. ما تلى كشف القضية، من ملاحقات قانونية وضغوطات على هؤلاء الصحافيين من قبل حكوماتهم، دليل إضافي على صعوبة العمل في هذه الأماكن. صعوبة تبقى، على رغم كل ما تحمله من تحديات، إنجازاً مهماً مقارنة باستحالة أي إنجاز من هذا النوع في العقود الماضية. مثال آخر، هذا الأسبوع من أذربيجان، حيث تم إطلاق سراح الصحافية خديجة إسلاميولوفا بعد أن تحولت قصتها إلى قضية رأي عام عالمي. إسلاميولوفا، التي تولت المحامية أمل كلوني الدفاع عنها أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، أطلق سراحها بعد قضائها 535 يوماً في السجن، وقبل انتهاء فترة السبع سنوات ونصف التي حكمت بها في قضية نسجت لها لرفضها التوقف عن كشف قضايا الفساد وانتهاك حقوق الإنسان من قبل العائلة الحاكمة في باكو. ما يواجه الصحافيين من أخطار تصل إلى حد السجن وحتى التصفية الجسدية في المجتمعات المتأخرة على صعيد الحريات الإعلامية، قد لا تجوز مقارنته مع التحديات التي يواجهها الصحافيون الملتزمون في الغرب، من دون أن يعني ذلك أن الصحافة المهنية هناك غير مهددة هي الأخرى. فالصحافة المهنية في شكل عام، والاستقصائية في شكل خاص مهنة مكلفة، وأعداد المؤسسات العالمية القادرة على تحمل كلفتها إلى نقصان. التحدي الأكبر يأتي من شروط السوق الجديدة. في مقالة نشرت على موقع «ذي بافلر»، وتحت عنوان «الباقي كله إعلانات» كتب الصحافي المستقل جايكب سيلفرمان، عن صعوبة الاستمرار بالصحافة المهنية في ظل قلة الموارد المرصودة لها ومواجهة الأموال المرصودة للمادة المدعومة من قبل المعلنين. يعطي سيلفرمان أمثلة واضحة على ذلك، ففي حين تدفع مجلة «أتلانتيك» بدل خمس دولارات على الكلمة للمقالة المكتوبة على صفحاتها الممولة من المعلنين (ما يعني أن بدل التحقيق قد يصل إلى بضعة آلاف الدولارات) هي تدفع 150 دولاراً مقابل المقال أو التحقيق غير المدعوم حول الموضوع نفسه. يطرح سيلفرمان أسئلة محقة. فمن من المسؤولين، سياسيين كانوا أو من عالم المال والاقتصاد، سيعطي مقابلة لصحافي، يواجهه بكل الأسئلة الحرجة، إذا كان بإمكانه إجراء مقابلة «سهلة» تعطيه ما يريد من تغطية ومن دون أي أضرار ممكنة؟ بغضب يعيد سيلفرمان طرح سؤال هو الأكثر تداولاً في أكثر المؤسسات الصحافية عراقة في العالم حالياً... هل من مستقبل للصحافة؟ بمجرد طرح السؤال الإجابة هي نعم. سيلفرمان نفسه، يكتب مقالاً على موقع إلكتروني لم يكن موجوداً منذ أقل من عقد. يجد صداه عند قراء لم يكن بإمكانه أن يصل إليهم أو يخاطب أياً من همومهم في الماضي القريب. نكون إما مخادعين أو بسطاء إن قبلنا أن الصحافة كما أردناها كانت في ألف خير خلال العقود الماضية. فالصحافة كانت أيضاً، كما هي اليوم مهددة. ما حمى الصحافة في الماضي، وما سوف يحميها في المستقبل هم الصحافيون أنفسهم. هم من سوف يدخل غرف أخبار، ستكون على الأغلب افتراضية، وسيدافعون عن قيم مهنتهم، لأنهم مؤمنون بأن لا تطور في مجتمعات لا تحاسب، أو على الأقل تسعى لأن تحاسب. منذ أكثر من عشر سنوات، ولدى تسلمي مهمة إدارة التحرير في صحيفة «دايلي ستار»، جاءني براناي غوبتا، رئيس تحرير الصحيفة في حينه، وهمس في أذني نصيحة لا أزال أكررها لتلاميذي: مهنة الصحافة، ليست مهنة للخجولين. إنها مهنة الحالمين والمقتنعين بأن في استطاعتهم تغيير العالم. هؤلاء الحالمون المقتنعون أن في استطاعتهم تغيير العالم، هم تماماً ما يعول عليه.