Hazim Saghie The Predicament of the Individual in the Middle East. مأزق الفرد في الشرق الاوسط. Saqi Books, London. 2001. 224 pages. "هناك فرد، لكن ليست هناك فردية" يقول حازم صاغيّة في تقديمه لهذه المجموعة من الدراسات والمقالات التي تعرض لمأزق الفردية في الشرق الاوسط. ويكاد جلّ المساهمين ان يوافقه الرأي طالما عُزيت إنتكاسة الحداثة في دول ومجتمعات الشرق الاوسط الى غياب احد اركانها الرئيسية: الفردية. فمساهمات كلٍ من رامين جاهابنغيلو ومراد بلجه ويارون ازراحي وصالح بشير وخالد مصطفى، إنما تتناول ظاهرة غياب الفردية، او ضعف حضورها، في كل من ايران وتركيشا وإسرائيل وبلدان المغرب العربي والسودان، بوصفها مظهراً من مظاهر حداثة غالباً ما هي نخبوية الطابع، إنتقائية، مترددة، وفي جلّ الاحوال، إما هشّة او منقوصة. فلقد إقتصرت الحداثة في التجربة الايرانية المبكرة على إستحداث دُور تربية وعلوم، فضلاً على محاولات خجولة في سبيل إجراء تعديلات قانونية ودستورية من قبل نفرٍ من ابناء النخبة الايرانية المتأثرة بالثقافة الغربية. بيد ان هذه المحاولة لم ترسخ، ولم تصمد امام نظام سياسي ما انفك رهينة قوى تقليدية، دينية ومجتمعية على السواء. ولئن صير الى تبني مثال الدولة العلمانية الحديثة في تركيا منذ عهد كمال اتاتورك، فلقد صير في الوقت نفسه الى تكريس ايديولوجية قوميّة تنظر الى كل تعبير عن فكر او سبيل حياة مغايرة كمظهر مرذول من التأثر ببدع اجنبية معادية. أما في بلدان المغرب العربي، فتراوح الامر ما بين محاولة التوفيق والمصالحة بين القيم والقوى التقليدية والمؤسسات الحديثة، من جهة، وبين فرض الحداثة من أعلى وعلى وجه لم يكن اقلّ قمعاً للفردية من اي نظام تقليدي. وفي السودان تعثرت عمليّة التحديث التي باشرتها احزاب الطبقة الوسطى، بفعل هزيمة الفردية امام دعاة واتباع المذهب الصوفي الذين لم يروا الى الفرد الاّ كمريد، ولم يقرّوا بأدنى دور للإرادة الانسانية في ما يحصل او يمكن ان يحصل. أما في اسرائيل، وعلى رغم ان نظامها الديمقراطي الانجح في الشرق الاوسط يشي بأن ليس من عيب يُعيب حداثتها، فإن ضعف المكوّن الليبرالي في نظامها جعل الفردية عاملاً واهناً امام الايمان بدولة قويّة غلبت عليها في جلّ الاحوال ايديولوجية جمعية، دينيّة يهودية وعلمانية صهيونية وإشتراكية. والحق أن هذا الكتاب يبدو اشبه بمشروع كبير ومتشعّب لإعمار منطقة مهجورة. ففضلاً عن ان المساهمات الخمسة عشر، التي يتألف منها، تتولى النظر في مسألة الفردية في بلدان ومجتمعات وثقافات مختلفة، ومن زوايا نظر تتراوح ما بين الشمولي والعام وما بين الجزئي والخاص، وما بين الدراسة التاريخية، السياسية والاجتماعية، والبحث الادبي والفني، فإن العديد منها لا يجد مناصاً من القيام بجهد تأسيسي طالما انعدمت المحاولات السابقة، الجادة والدؤوبة، التي يمكن الاستناد الى ما ارسته والانطلاق منه. لهذا مثلاً يعمد بعض المساهمين الى تقصٍ تاريخي يبيّن اسباب غلبة القيم والمعايير الجمعيّة التي حالت غالباً دون تبلّور نزعة فردية ناضجة قادرة على ان تفرض نفسها على الكيان السياسي والاجتماعي، شأن ما حصل في اوروبا الغربية منذ عصر النهضة. فيعزو يارون ازراحي وَهَن المكوّن الليبرالي، والفردية بالتالي، في إسرائيل، الى رسوخ مقولة "الشعب" اليهودي في التراث والتقاليد الدينيّة اليهودية. ويمضي حازم صاغيّة، في مساهمته المنفصلة، في تقصّي غلبة القيم الجمعية في التاريخ الثقافي، العربي والاسلامي، الى جذورها الكامنة في ما قبل الدعوة المحمديّة. بيد ان محاولة البحث عن اسباب غياب الفردية في التاريخ، الثقافي، او السياسي والاجتماعي، قد تبلغ حداً من الاسراف عند بعض المساهمين الى درجة انها تكشف عن غموض في مفهوم الفردية، المقصود والمنشود في هذا الكتاب. فمثلاً، لا يتوانى حسين احمد امين عن العودة بأسباب الاستبداد وغياب الفردية في مصر الى عهود الفراعنة، بما يدل على انه يُسلم ضمناً بأن الفردية قيمة إنسانية مطلقة ولاتاريخية. ويقدم سامي شورش سرداً تاريخياً، سياسياً وإجتماعياً للأكراد العراقيين بما يدل بوضوح على ان رسوخ النُظم الجمعيّة التقليدية وشيوع القيم الدينيّة والقومية، حالا دون ظهور نزعة فردية كرديّة تستحق الذكر. مع ذلك فإنه لا يتوانى عن الزعم في احدى المناسبات بانه، بفعل غلبة النظام العشائري، لم يتسنّ للإنسان الكرديّ الحفاظ على فرديته. فلئن لم يظفر الكرديّ بهويته الفردية اصلاً، فكيف كان بوسعه الحفاظ عليها- اللهم الاّ اذا كانت الفردية المعنية قيمة ميتافيزيقية تعلو على السياسة والمجتمع اللذين يعرض شورش لتاريخهما؟ وهذا ما يعيدنا الى فرضية صاغيّة التمهيدية: هناك فرد لكن ليست هناك فردية! فما المقصود بذلك؟ ان الفردية تبعاً للحداثة، نظراً وعملاً وهي المرجع الذي ينطلق منه مؤلفو الكتاب هي التسليم بأن الانسان كائن مفكر وصاحب إرادة بما يترتب على ذلك من إقرار بخاصيتين ملازمتين: الاستقلالية والوكالة الحرة. ومثل هذا التصوّر هو الكامن خلف مفهوم الانسان كصاحب ملكية خاصة، كفاعل في المجال الاجتماعي والاقتصادي، وكمواطن يحق له المشاركة في إدارة الحياة السياسية او إنتداب من ينوب عنه في ذلك، على ما هو شائع في البلدان ذات النظم الديموقراطية الليبرالية. لهذا فإن مثل هذا الفرد لا مجال لوجوده، بل لا معنى لوجوده الاّ في مجتمع افراد يأخذون بمثل هذا التعريف للإنسان. ومثل هذا المجتمع غير موجود في الشرق الاوسط، فما هي حقيقة الفرد الموجود في الشرق الاوسط؟ على ما يُستشف من مساهمات صاغيّة ومحمد أبي سمرا وعمانوئيل سيفان وغادي تاعوب وابراهيم العريس وألس فان دير بلاس، فإن الفرد المقصود قد يكون الكائن المنسلخ عن الجماعة، الصعلوك، الفنان الرومانطيقي والنازع، في الاحوال كافة، الى تبني قيم ومعايير مغايرة لقيم ومعايير الجماعة التي ينتمي إليها، او يعيش بين ظهرانيها، ومن ثم، الراغب ابداً في إبتكار اشكال تعبير فني جديدة. او انه قد يكون البطل والشهيد والقائد الفرد الذي يجسّد احلام الجماعة. وفي موازاة هذا الفرد هناك "فرديّة" من دون شك. ليست الفردية تبعاً لإطار نظر وعمل الحداثة، لكنها "الفردانية الانسلاخيّة" على ما يسميها ايليا حريق غير المتحمس كثيراً لقضية الفردية هذه. انها الفردية التي تهيب بالذات الانكفاء الى مدارها المعزول عن الجماعة، تناجي نفسها واحزانها، على نحو ما ظهرت عليه في ادب المنفلوطي وجبران. او قد تكون الفردية التي تسوّغ التعبير عن ذات متضخمة، تنظر بعين الإحتقار الى الجماعة وتتعالى عليها، وإذا ما ابدت ادنى إهتمام تجاهها الجماعة فمن باب الطموح بقيادتها وإنقاذها من "قدرها البائس". هاتان النزعتان من الفردية، على ما يبيّن محمد أبي سمرا في دراسته الجيّدة، تتجليان في اشكال التعبير الفني والادبي العربي. ولكنها قد تكون الفردية التي يجسد صاحبها القيم الجمعية، كما هي فردية "البطل"، على ما ينوّه صالح بشير او "الشهيد" على ما يشير صاغيّة او "الجندي الميت" على ما يبيّن عمانوئيل سيفان في دراسته الشيّقة حول ضرب من ادب المواساة الشعبيّ في إسرائيل. ولئن كانت هذه هي النزعات الفردية الواردة في ثقافات ومجتمعات الشرق، فإنها ليست ما يطمح اليه مؤلفو هذا الكتاب. فمثل هذه النزعات مضادة للفردية الناشئة او السائدة في مجتمع الافراد الحداثيّ، بل انها غالباً ما تضمر لمجتمع الافراد هذا، العداء الشديد وتبشّر بوضع حدّ له. ذلك ان فردية الحداثة لا تُملي او تعني الانسلاخ عن الجماعة، او اي إطار جمعي، خاصة اذا ما كان طوعياً ومستوياً على "عقد إجتماعي" يقرّ بالوكالة الحرة للفرد وإحترام إستقلاليته شريطة احتكام الفرد، بدوره، الى قوانين وقيم مشتركة بما يضمن الامن والسلام في المجتمع والدولة. ان إنتماء الفرد الى جماعة ما شأن النقابة المهنية مثلاً إنما هو الذي يكفل فردية الفرد إزاء دولة حديثة توّاقة على الدوام الى ادارة كافة وجوه حياة المواطن. بل ان ايليا حريق، وخلافاً لجلّ المساهمين ودعاة الفردية "الحداثوية" عموماً، يجادل بأن الجماعة او الإطار الجمعي التقليدي والموروث، الطائفة تحديداً، هي القادرة على صيانة فردية افرادها وحمايتها ضد الدولة الحديثة، لا سيما في البلدان التي تفتقر الى المؤسسات المدنية القوية او الدساتير الليبرالية الراسخة. وجدير بالاضافة الى ان المساهمين الداعين الى فردية حديثة، او "حداثوية"، غير غافلين، في الوقت نفسه، عن عيوب وقصور هذا الضرب من الفردية، خاصة على ما تجلىّ في تاريخ المجتعمات الغربية. وفي كل من مساهمات ازراحي وصاغيّة ومي غصوب اشارات مباشرة او مواربة الى ان الفردية الحديثة، قد تخفق في إستيعاب مشاعر المجموعة وتعبيراتها الاجتماعية ازراحي، او انها قد تحض على الانانية والجشع وعدم الاكتراث تجاه الجماعات الاضعف في المجتمع صاغيّة، او انها قد تفشل في فهم الحاجة او الرغبة الى الاختلاف والانفتاح ومعرفة الآخر. فمثلاً مي غصوب، وفي سياق ما يشبه سيرة ذاتية موجزة، تقدّر ما اظهره والداها من موقف مستمد على وجه فردي من ثقافة مدينيّة ناشئة، اي موقف لا يحتكم الى الاعراف والتقاليد السائدة، وإن كان لا يعاديها صراحة. وخلافاً لعرف سائد، لم يحسّ والدا الكاتبة بخيبة الامل حينما جاء مولودهما الثاني مولودة أنثى الكاتبة نفسها. لكن غصوب على رغم تقديرها هذا، لم تكتف بهذا النمط من الموقف الفردي اي ذاك الذي يُستقى من إحتكام الفرد الى علومه وخبراته وقدرته العقلية على النظر والحكم، وإنما حرصت على إكتساب فرديتها من محاولتها الدؤوبة في تجاوز الحدود: حدود هويتها الجنسية اولاً، ثم هويتها الاجتماعية والسياسية. وبهذا المعنى، فإن الفردية التي يدعو اليها جلّ المساهمين في هذا الكتاب فردية حديثة، لكنها دعوة يقظة تجاه ما تنطوي عليه هذه الفردية من عيوب وقصر نظر. وبهذا المعنى ايضاً، فإن هذا الكتاب يُرسي اساساً للبحث والنقاش حول قضية غياب الفردية في الشرق وبعض المساهمات تستحق ان تتطور فتصير دراسات تامة ومستقلة، وفي الوقت نفسه يُعيد النظر في اسس مفهوم الفردية الحديث نفسه، بما يجعله محلياً وخاص المحور، وكونياً ونظريّ الطموح.