ما لم يُكبح جماح الهوس بالأمن بمعزل عن السياسة وعلى حسابها، سيبقى الانتصار الأميركي في الحرب على الارهاب جزئياً وفي هشاشة، وستشهد العلاقة العربية - الاميركية مزيداً من التراجع والتآكل، وستخسر فرص معالجة التطرف الديني وذراعه المسلحة، وستنزلق احتمالات الاصلاح في المجتمعات العربية الى هوة الفوضى... وستحصد اسرائيل ما زرعته عقلية الحصار في مصيرها، وسيطيح المنطق العسكري - الأمني بغاية الأمن ذاتها كما بتطلعات الطمأنينة. ذلك الهوس بالأمن أولاً وأخيراً، بات عمداً لدى رئيس وزراء اسرائيل ارييل شارون السياسة البديلة. الهوس الأميركي بالأمن يقع موقع استقطاب وابتزاز من داخل اميركا ومن بقية العالم، ويضع ادارة جورج بوش على أرجوحة تكتيكية واستراتيجية. والهوس التقليدي بالسلطات الأمنية في البقعة العربية أخذ يتنشق الهواء باعتزاز ويقدم تجربته نموذجاً. قد تكون القضية الفلسطينية أهم محرك سياسي في مصير الحرب العالمية على الارهاب لأسباب منها: استغلال بعض المنظمات الارهابية القضية للترويج لنفسها، وازدياد الاحباط في الساحتين العربية والاسلامية نتيجة تفاقم الغطرسة الاسرائيلية بغطاء اميركي ناتج عن رفض الضغط على الدولة العبرية. وقد يدرك بعضهم في الإدارة الاميركية وفي الأوساط الفكرية والأكاديمية والاعلامية ان لا انتصار في هزيمة التطرف الاسلامي اذا بقيت القضية الفلسطينية معلقة في مخالب التطرف اليهودي خصوصاً الذي يمثله حكم شارون. لكن الضغوط على هذا البعض، من داخل الإدارة ومن أوساط في الكونغرس والمؤسسات الفكرية الاميركية تحشد حملة منظمة لمنع الادارة من تعديل السياسة نحو النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، ولقطع الطريق على اعتبار حل القضية الفلسطينية أساساً في الانتصار على التطرف. تكاثر الكلام، هذا الاسبوع، على توجه الإدارة الى اعادة تقويم العلاقة الاميركية بالسلطة الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات، وشاعت تقارير عن عزم الادارة على قطع العلاقة مع السلطة وعرفات. انما، حتى الآن، لا يوجد ما يبرر هذه التوقعات سوى ترويجها من أوساط اسرائيلية وأخرى اميركية تتبنى مواقف الحكومة الاسرائيلية. بعضهم تحدث عن تدرج في مكانة السلطة لدى الادارة، من اعتبارها حالياً بمثابة "طالبان" الى اعتبارها "القاعدة"، اي من تحميلها مسؤولية "إيواء الارهاب"، الى اعتبارها "ارهابية". وهناك من حض على النظر الى المسألة حصراً من منظار مصير العلاقة الاميركية - الفلسطينية في اطار محاربة الارهاب، بمعزل عن عملية السلام. وشدد على ضرورة الفصل بين دور الوسيط الأميركي في عملية السلام وبين مقومات العلاقة الثنائية بين الادارة والسلطة من منطلق ما قامت به أو لم تقم به ليجعلها اما شريكاً في الحرب على الارهاب واما "منظمة ارهابية". فهذه مسألة لا علاقة لها باسرائيل، في رأي ذلك التيار بل مسألة محلية في الحرب الاميركية. ثم هناك من تلقى قصة سفينة السلاح "كارين اي" ليجعل منها حافزاً لسياسات استراتيجية جديدة، فنصح الادارة بمجموعة اجراءات في ضوء علاقة جديدة بين ايران والسلطة الفلسطينية و"حزب الله". فالسفينة، بحسب المزاعم الاسرائيلية، حملت الاسلحة من ايران، بتواطؤ مع "حزب الله"، الى السلطة الفلسطينية. والإدارة الاميركية تكلمت على معلومات استخباراتية مستقلة اكدت تورط ايران والحزب والسلطة، على رغم نفي الأطراف الثلاثة التهمة. والقضية اثارت غضب الادارة من عرفات، كما اثارت في رأي بعضهم فرصة لإطلاق سياسات استراتيجية جديدة. روبرت ساتلوف، مدير "مؤسسة واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، قدم مجموعة اقتراحات شملت الحض على "اجراء دولي ضد النظام الايراني"، وتحريض دول عربية على السلطة الفلسطينية بسبب اقامتها علاقة مع ايران، وفرض عقوبات اقتصادية على لبنان الى ان "يجرد حزب الله من السلاح ويعتقل رموزه العسكرية الاساسية". وفي ما يتعلق بالسلطة الفلسطينية، اقترح ساتلوف اجراءات ديبلوماسية وعسكرية واقتصادية، كلها ينطلق من حذف السلطة من المعادلة والانتظار الى حين قيام قيادة فلسطينية جديدة. فدعا الادارة الى اعلان تعليق العلاقات الديبلوماسية مع منظمة التحرير والسلطة، و"التعليق الموقت لأي جهد اميركي نحو تحقيق التطلعات الفلسطينية الى دولة مستقلة" الى حين مجيء قيادة فلسطينية جديدة. وعلى الصعيد العسكري اقترح التحول في منهج الولاياتالمتحدة من دور "ادارة النزاع" الى عقيدة "التحالف - كأساس" نظراً الى "الخطر الذي يشكله التواطؤ الايراني - الفلسطيني على حليف اميركا" اسرائيل. هذا الطرح المتكامل يحقق غايات، منها الضغط على الادارة لتتبنى بعضه ان لم يكن مجمله، واثارة الانطباع بأن هذا ما تنظر فيه الادارة الاميركية من خلال حملة اعلامية تضلل بين تفكير هذه الاطراف وبين التفكير داخل صفوف الادارة، بتحويل الانظار بعيداً عن اجراءات حكومة شارون بالتالي احتواء الضغوط عليه مسبقاً، وتسريب البلبلة الى الصفوف الفلسطينية والعربية. لكن أهم عنصر في هذه الطروحات هو تحجيم أهمية انهاء النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، وتقويض مبادرة الادارة التي طرحت في خطاب "الرؤية" في لويفل الذي القاه وزير الخارجية كولن باول، وسحب عنصر السياسة الخارجية من الحرب الاميركية على التطرف والارهاب. مواقف الادارة الرسمية لا توحي، حتى الآن، بعزم على الاستغناء عن عرفات أو قطع العلاقات الديبلوماسية مع السلطة الفلسطينية أو التراجع عن مبادئ المبادرة المتمثلة في دعم قيام دولة فلسطينية مكان الاحتلال الاسرائيلي. تفيد بعزم على تحميل عرفات مسؤولية بصفته "قائد" السلطة، والاستمرار في الضغط عليه. ولكن لا مؤشرات، من ناحية اخرى، الى قرار بممارسة الضغوط اللازمة على شارون ليكف عن استبدال استئناف الاحتلال باستئناف المفاوضات، و"إذلال" عرفات عبر محاصرته، وشل البنية التحتية للسلطة الفلسطينية، وتدمير ما انجزته اتفاقات "أوسلو" ونسف الخيار التفاوضي وعملية السلام. في الأوساط الاميركية من يخشى ان تؤدي عقلية شارون التدميرية الى تحويل الاكثرية العربية الى احضان التطرف، ونقل النزاع على الأراضي الى نزاع بين التطرفين الاسلامي واليهودي، ما يجر اميركا الى معركة ضد الاسلام بسبب علاقتها باسرائيل. انما هذا الخوف لم يتحول الى سياسة تمنع هذا المسار. والرهان، الذي يبدو مرجحاً في هذا المنعطف، هو على تطور دراماتيكي يؤدي بالطرفين الى الابتعاد عن شفير الهاوية. اذ تعقدت الأمور وتداخلت الى درجة ان الاكثرية في واشنطن أوشكت على الاعتراف بأنها مكبلة الأيادي، ولا مخرج الآن من الأزمة. فعيون كثيرين في الادارة الاميركية عُصبت كما تعصب عينا الفرس، والوجهة هي محاربة الارهاب عبر التركيز على الادوات الأمنية وليس على صنع السياسة الخارجية لايجاد الحلول الجذرية لأزمات وصراعات. ثم ان الأولوية، في اطار النزاعات الاقليمية وضرورة معالجتها، هي للازمة الباكستانية - الهندية التي دبت الرعب من حرب نووية . اما النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي فدخل على رغم خطورته، دهاليز الاعتياد عليه حتى اشعار آخر. ولأن المنطق الأمني سيد الساحة اليوم، يرى الجميع فيه تأشيرة دخول الى تجاوزات من مختلف الانواع. في الولاياتالمتحدة سمح المنطق الأمني بتجاوزات للحقوق المدنية كما للقانون الدولي مثل عدم اعتبار الأسرى من "طالبان" و"القاعدة" أسرى حرب وتعمد نقلهم الى قاعدة في كوبا تملصاً من القوانين الاميركية ومن اجل تجاوز اتفاقات دولية. ولأن الأولوية للمنطق الأمني، فإن المهم في العلاقات الاميركية مع الدول العربية هو مدى التعاون الأمني وفتح الباب لفريق أو آخر ليتوجه الى بلد أو آخر لتعزيز العلاقة الأمنية. وهذا تطلب التغاضي عن الحاجة الى اصلاح جذري في التركيبة السياسية والاجتماعية لئلا يبقى الخيار محصوراً بين حكم العقلية الأمنية ومعارضة التطرف الديني. فعصب العيون يمنع من التدقيق في البيئة المستقبلية لمثل هذا التفكير وما يحمله قصر النظر من عواقب ومطبات. بعض العرب عرض تجربته في سحق الارهاب نموذجاً تقتدي به اميركا وعاتبها على انتقادها اجراءات السحق الأمنية العربية باعتبارها ضد المعارضة وليست ضد الارهاب. ومعظم الاهتمام الرسمي العربي منصب الآن على المنطق الأمني في العلاقات مع الولاياتالمتحدة الى درجة توصل قيادات عربية كأمر واقع، الى اعطاء الأولوية لبقائها عبر الادوات الأمنية، بتجاهل أمرين: تداعيات المنطق الأمني الاسرائيلي على القضية الفلسطينية، وخطورة الانتصار الجزئي على الأصولية الدينية المتطرفة. لو كان التفكير على الساحة العربية استراتيجياً لتبنت القيادات العربية موقفاً يعالج المنطقين الأمني والسياسي، ويكسب لها علاقات أكثر عمقاً وثباتاً مع الولاياتالمتحدة كما مع قاعدتها الشعبية. أول عناصر مثل هذا الموقف اقناع الادارة الاميركية بخطورة تحقيق "نصف انتصار" على الأصولية الاسلامية المتطرفة طالما لا حل للقضية الفلسطينية ولا محاسبة للتطرف الاسرائيلي، انما مع الإقرار والالتزام بتسريع مؤسسات الديموقراطية في الساحة العربية، باعتماد الاصلاح السياسي والاقتصادي الحقيقي. في مثل ذلك الإطار يمكن تعزيز التعاون الأمني بارتباطه بعنصر السياسات وليس بمعزل عنها أو كبديل منها. فاعتماد اسرائيل المنطق الأمني اثبت الفشل، وهو يؤدي الى سحق منطق التفاوض وعودة منطق المقاومة المسلحة. واعتماد الدول العربية المنطق الأمني التقليدي قد يؤدي الى تفاقم الغضب منها وعليها فيخلف الفوضى بدل الاستقرار. فالهوس الأمني على حساب السياسة وبتغييب متعمد لها لن يؤدي ابداً الى الأمن والجميع معرض اذا انصب على شبكة "القاعدة" بدلاً من البحث في متطلبات شبكة الأمان.