يوشك الرأي العام الأميركي ان يعود إلى "الأمور كما كانت عليه"، بعدما انحسر الخوف من الحرب في عقر الدار، بلا مراجعة صادقة لما أدى إلى طرح السؤال: "لماذا يكرهوننا؟". ويبدو الرأي العام العربي غاضباً محبطاً ازاء التوقعات بانتقال الحرب على الإرهاب إلى محطات عربية وازاء ما يبدو كأنه احتضان أميركي للسياسات الإسرائيلية الانتهازية المخالفة للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي بلا حياء. أما الرأي العام الإسرائيلي، فإنه في حيرة وتخبط بين الاعتذارية والوطنية، وهو في شبه افلاس طالما انه لا يعارض ما يقوده إليه ارييل شارون من مصير، سواء انتصر رئيس الوزراء الإسرائيلي في تحقيق غاياته الحاقدة، أو إذا قضى على نفسه في سيرته الانتقامية. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المنعطف يتعلق باعتذار القاعدة الشعبية عن التأثير في مواقف الحكومات المعنية، وما إذا كانت شرائحها تدرك عواقب تغيب بعضها عن المساهمة وانسياق البعض الآخر وراء جيوب إعلامية خطيرة في مدى جهلها. الأميركيون العاديون الذين لا علاقة لهم تقليدياً بالسياسة الخارجية عادوا إلى راحة ذاكرة النسيان لاسماء المدن والدول الغربية ورؤساء حكومات أو منظمات استغرق حفظ اسمائها وقتاً وجهداً. قيل لهم إن أميركا انتصرت في حرب أفغانستان، فتقبلوا تدمير البنية التحتية لنظام "طالبان" الذي تحول إلى عدو بالنيابة. وتحول الهوس بشبكة "القاعدة" وأسامة بن لادن إلى مرتبة ثانية بعد "طالبان" مع أن "طالبان" كان العربة، افتراضاً، إلى تحقيق هدف هزيمة "القاعدة" وبن لادن. ولأن الحرب تقع "هناك"، الآن في أفغانستان وبعدها في أماكن ينذر بها الإعلاميون الأميركيون بانتقالهم من تورا بورا إلى مقديشو وأديس ابابا، فإن اهتمام الفرد الأميركي العادي ينصب على الجنود الأميركيين ومعادلة الانتصار. بالأمس كان هذا الفرد يسأل: "لماذا يكرهوننا؟". كان يسأل ذلك بقلق وبرغبة في التعرف إلى الأسباب. الآن، توقف معظم الأميركيين العاديين عن طرح السؤال. فلا رغبة في الردّ عليه، عند البعض. ولا مبالاة بالجواب عنه لدى البعض الآخر. وعند الكثيرين، فإن السؤال والجواب غير مهمين أصلاً... بعد الانتصار. وهذا مؤسف وخطير. ذلك أن السؤال، على رغم نرجسيته وسطحيته، طرح تساؤلاً مهماً في أسباب وخلفية الغضب من أميركا والحقد عليها في أوساط عدة في مختلف بقع العالم. وكان الأمل أن يدقق الرأي العام الأميركي في طبيعة المشادة معه ومع الشخصية الأميركية، إذا كانت هي سبب الافتراق والاحتجاج والغضب. والأمل الأكبر كان في أن يبدأ الأميركي العادي بالرغبة في التعرف إلى السياسات الأميركية الخارجية، لعل فيها الجواب عن السؤال أصلاً. هذا ما لم يحدث على صعيد القاعدة الشعبية الأميركية التي عاد معظمها إلى نمط الاهتمام بشؤونه الشخصية والمحلية والوطنية في شبه تشوق للتخلص من عبء مرحلي فرض عليه التنبه والاهتمام بمسائل وقضايا السياسات الخارجية. درجة وسرعة العودة إلى النمط الروتيني، وكأن شيئاً لم يحدث، أثارت غضب بعض النيويوركيين الذين وجدوا أن أميركا الشعبية خارج جزيرة مانهاتن صُدمت وتعاطفت ثم نسيت وتناست. الناحية الفريدة في التأقلم مع ما بعد 11 أيلول سبتمبر تتمثل في الاستعداد لتقبل صعوبات السفر وتجاوزات الحقوق المدنية في عقاب جماعي على أساس عرقي أو ديني. هذا إلى جانب الموافقة الضمنية لدى الأكثرية الساحقة على محاكمة الأفراد المتهمين بالانتماء إلى تنظيم "القاعدة" بلا أدنى ليونة ومعاملتهم بما يستحقه كل من يرتكب أعمال الإرهاب. والملفت أن معظم القاعدة الشعبية الأميركية، الذي بدأ يهتم بقضايا دولية، مثل أفغانستان وباكستان والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، من منطلق الرغبة الصادقة في الاطلاع والفهم وعلى أساس نزعة العدالة فيه، وجد نفسه متخبطاً في معادلات اجتذاب غير قادر وغير مستعد لخوضها. فهو مستعد لأن يفهم ما يقتضيه تعافي أفغانستان والدور الأميركي في أفغانستان. وهو يقدّر للرئيس الباكستاني برويز مشرّف مواقفه، ويفهم أن الاصولية المتطرفة العنيفة، كما الغطرسة الهندية، يمكن أن تؤدي إلى افشال كل ما انجزه. أما عندما يتعلق الأمر بالنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، فإن الأميركي العادي عاجز عن فهم المعادلات والتطورات المرهقة. بل ان مجمل العلاقة العربية - الأميركية، سواء مع الأردن أو سورية أو السعودية أو لبنان أو مصر أو العراق أو اليمن أو السودان أو ليبيا، يرهق ذهن الأميركي العادي، لأنه لا يعرف ألفباء العلاقة. وهذا قاسم مشترك بين القاعدة الشعبية الأميركية والقاعدة الشعبية العربية مع اختلاف النظرة والأسباب. واقع الأمر أن كلاهما يجهل العلاقة، وكلاهما ينظر إلى الآخر، حكومة وشعباً، بمنظار المتهم. كلاهما لم يسمع من القيادة الأميركية أو من القيادات العربية حقيقة العلاقات بأمسها وحاضرها ومستقبلها. فقد اعترت "السرية" بعض العلاقات، وأصاب بعضها الآخر ضرب من "الصداقة" و"الشراكة" يوماً وضرب من "العداء" و"الجفاء" يوماً آخر. وما يحدث اليوم أن الإدارة الأميركية، وكذلك عدد من المؤسسات الفكرية، تبحث في كيفية الوصول والتواصل مع القاعدة الشعبية العربية. أما الحكومات العربية فإنها لا تزال في تغيّب وغياب عن مهمة الوصول إلى القاعدة الشعبية الأميركية والتواصل معها. وكان ملفتاً أن وزراء الإعلام العرب أقروا مبلغاً مجرد مليون دولار ل"دحر الإعلام الصهيوني حول العالم" ولدعم الانتفاضة. فهم إما في كوكب آخر أو انهم جاهلون أساساً معنى الإعلام وكلفته. فحتى لو كان المبلغ مئة مليون دولار، فإنه مجرد بداية استثمار لو كان الهدف حقاً استراتيجية إعلامية جدية. الإعلام الأميركي يحاول، وبكثير من التردد، أن يكون متوازناً وعادلاً، لكنه عاجز في معظم الأحيان عن تحقيق هذا الهدف لأسباب عدة، منها ما له علاقة بتحيزه، ومنها ما يخضع لحنكة إسرائيل وحسن تدريبها على مخاطبة الرأي العام عبر الإعلام، ومنها ما هو نتيجة الجهل العربي لأهمية وكيفية انشاء علاقة مع الإعلام والمخاطبة عبره ومعه. ولو لم تكن الاجراءات الإسرائيلية في عهد شارون بتلك الدرجة من الوقاحة والانتهازية والقمع واللاإنسانية، لكانت أميركا الإعلامية والشعبية أكثر استعداداً لتقبل منطق مقاومة الإرهاب، كما تسوقه إسرائيل، لأنها ضحية عمليات إرهابية ضد مدنيين. إنما كذلك، لو لم تقع عمليات فلسطينية إرهابية ضد مدنيين إسرائيليين، لركزت أميركا الشعبية والإعلامية على ما ارادت الإدارة الأميركية التركيز عليه، وهو بشاعة الاحتلال الإسرائيلي وضرورة زواله وازالة المستوطنات وإقامة دولة فلسطين. إلا أن المعادلة، كما وصلت إليه في الأشهر القليلة الماضية وقعت، في الذهن الأميركي، على بشاعتين، بشاعة ارييل شارون وبشاعة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي بدا للأميركيين متردداً في الحسم، متأرجحاً بين خيار برويز مشرّف وخيار الملا عمر زعيم "طالبان" قائداً هارباً من المسؤولية. فهو ألقى أخيراً خطاب أخذ زمام القيادة وتحمل مسؤولية القيادة، ثم جاءت قصة سفينة السلاح لتقتضم بالذات ناحية المسؤولية والقيادة. فلو أعلن عرفات منذ البداية أنه، كرئيس للسلطة الفلسطينية، المسؤول الأول والأخير. إذا أثبت تحقيق حيادي، أن لا علاقة لأي فرد في السلطة الفلسطينية بعملية تهريب الأسلحة، لما انقلبت رياح السفينة عليه. ولأنه لم يفعل ذلك، تصاعدت الشكوك به وانحسرت الثقة بقيادته، في الذهن الأميركي المتردد نحوه أساساً. أما بشاعة شارون، فإنها تأخذ شكل "الانتقام" على طريقته، بجرف البيوت وتشريد الناس واهانة القيادة الفلسطينية وتحقير الفرد الفلسطيني بعصا الاحتلال. فعلى رغم الانحياز العام لإسرائيل واعتبارها الحليف الأهم في المنطقة، تبرز في الذهن الأميركي بشاعة إسرائيل من خلال قبح شارون، وهو يمارس الانتهازية لحرب أميركا على الإرهاب بما يحرج الولاياتالمتحدة ويقوّض مصالحها ويطيح بمبادراتها لانقاذ عملية السلام. الأكثرية الشعبية الأميركية تنظر إلى الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي من زاوية بشاعة رجلين واستحالة حل صراع متأزم أنهك الاعصاب. الأكثرية العربية تنظر إليه من زاوية انحياز أميركا لإسرائيل ومباركتها لكل سياساتها مهما تمادت. والأكثرية الإسرائيلية فقدت العلاقة مع الواقع السياسي كما مع الضمير، كما مع ما هو في مصلحتها أو على حسابها. ولأن النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي سيبقى العثرة في أي طريق يُسلك في عالم ما بعد 11 أيلول سبتمبر، ان "تثفيق" القاعدة الشعبية الأميركية والعربية والإسرائيلية أمر ضروري كي لا تسقط في دوامة التغيب والغضب والاعتذار عن المشاركة في صنع القرارات. وهذا يتطلب وضوح وايضاح بعض العناوين الرئيسية. إدارة جورج دبليو بوش ليست منحازة للاحتلال الإسرائيلي، بل إنها سجلت رسمياً موقفها القائل بضرورة انهاء الاحتلال وازالة المستوطنات وقيام دولة فلسطينية. ما تخطئ به هو انزلاقها في فخ انتهازية شارون، مما يميّع التزامها وجديتها في ذهن القاعدة الشعبية العربية والأميركية والإسرائيلية على سواء، فكي تنفض عنها سمعة الازدواجية، ولكي تمكّن نفسها من الإقدام على تفعيل مبادرة "الرؤية"، على الإدارة الأميركية مخاطبة الرأي العام الأميركي والإسرائيلي والعربي لتبيّن له أساس السياسات مهما عصفت بها التطورات. وقد يكون في المصلحة العربية ابراز ايجابيات المواقف الأميركية والزام أميركا بتنفيذه بدلاً من الاسترسال في نمط التشكيك بها وتصينفها في خانة النفاق. فما بين سواد الدفاعية والهجومية منطقة رمادية حان زمن رؤيتها في عيون الرأي العام العربي بمختلف شرائحه. أما الرأي العام الإسرائيلي، فإنه وضع مصيره في أيادي التطرف الحكومي وتطرف الاصولية اليهودية التي يمثلها المستوطنون والاستيطان. فمهما اختلق من ذرائع وتوهمات، لا خلاص له من مصير قاتم سوى انهاء الاحتلال وازالة الاستيطان والاسراع إلى دعم قيام دولة فلسطين واصلاح العلاقة مع الشعب الفلسطيني بدءاً بالاعتراف بمسؤولية إسرائيل في المعاناة الفلسطينية. لماذا يكرهوننا؟ سؤال سخيف وسطحي إذا جُرد من السياسات وغرق في النرجسية، لكنه سؤال ضروري إذا اتخذ صيغة البحث الصادق في واقع السياسات ودور القاعدة الشعبية في تطويرها.