أتصور أن العلامة الأولى التى يتميَّز بها الشاعر العظيم، المجدِّد حقاً، هى قدرته على تحويل المسار الذى قبله. إنه يبدأ من حيث انتهى السابقون، لا ليسير فى الطريق الذى ساروا فيه، والذى لا يزال يمضى فيه معاصروه، بل يختطّ لنفسه طريقاً جديداً، ويقتحم بشعره فضاءات مغايرة، فضاءات تحمل من غوايات التحول ما يغرى الآخرين بالاتجاه إليها، والانجذاب إلى وعودها. ولذلك فهو الشاعر الذى يغدو ما بعده مختلفاً عن ما قبله، بل يغدو ما بعده منطوياً على وعود غواياته التى لا تكفّ عن إثارة من يدنو منها على امتداد الأجيال اللاحقة. وما ذلك إلا لأن هذا الشاعر يبدأ بالمغايرة التى يشعر بها عميقاً فى داخله، ويسعى إلى أن يستنزل من سماء أمنياته بوارق الإبداع الذى ليس كمثله إبداع سبقه، فيغيّرُ الشعر بحضوره، ويدفعه إلى أن يفارق قواعده المقررة، وتقنياته المألوفة، ورؤاه الموروثة، مندفعا إلى آفاق غير مطروقة أو متوقعة. مثل هذا الشاعر لا يتكرر كثيراً، لا يظهر كل عام، ولا تجسّده الكثرة الكاثرة من الشواعير، أو الشعراء الذين يقولون المعاد من الكلمات التى قد تجهنمها الغيرة، أو شهوة الظهور، وإنما يأتى هذا الشاعر على سبيل الاستثناء الذى يكسر القاعدة، فى اللحظة الفاصلة بين الرماد والورد، وبعد أن يدعوه الشعر كما يدعو نسمة الحياة التى يرجوها، أو لهب التجدد الذى يتشوق إليه، فيأتى الشاعر المجدِّد، مشروطا باللحظة التاريخية التى يتولّد فيها كالشاهد أو العرَّاف، محكوما بها كالضحية، ليغوص فى أعماق الجرح كالباحث عن أصل الداء، أو يحلِّق فى مدائن اللحظة كغيمة لا تمطر إلا الأسئلة، متكلِّما كالحكماء المحزونين، أو الأنبياء المغتربين، أو البشر المقموعين، متوسِّلا بالأمثال الملتفَّة بالأسمال، أو الرموز الملتبسة بالأقنعة، أو الكلمات العارية الملساء، فيغدو جسد الواقع كالصدق العريان. وصلاح عبدالصبور واحد من هؤلاء الشعراء الذين لا يتكرّرون كثيراً فى تاريخ الشعر، فشعريته الاستثنائية أضافت إلى تجربة الشعر الحر التى مضى على بدايتها أكثر من نصف قرن، وتحتاج بالقطع إلى مراجعة نقدية جذرية، مراجعة تعيد النظر فى التراتب المتوارث الذى لا يزال عالقاً بالأذهان. ولم تضف شعرية صلاح عبد الصبور إلى تجربة الشعر الحر فى واقعها العربى إلا مع إضافتها إلى ميراث الشعر فى مصر بما أسهم فى تحويل مجراه، وما جعلنا نستطيع الحديث عن الشعر فى مصر قبل صلاح عبدالصبور، والشعر فى مصر بعد صلاح عبد الصبور. وأسباب ذلك عديدة، أُعدِّد منها عشرة أسباب: 1- صاغ صلاح عبدالصبور رؤية شعرية متكاملة للوجود، قضاياها الأساسية: الإنسان والمطلق والطبيعة. الإنسان من حيث هو مجلى المطلق المسكون برغبة المعرفة التى تقوده إلى المحظور. والطبيعة من حيث هى المجلى الموازى للإنسان ومرآته فى آن، لكنها المجلى الثابت الذى لا يعانى ما يعانيه الإنسان من تغير أو تحول أو تبدل أو سرعة عطب. والمطلق من حيث هو أصل الوجود، والعلة الأولى التى تثير من الأسئلة ما يدفع الإنسان إلى الابحار الأبدى للبحث عن يقين. وهى رؤية شعرية تتميز بعمقها وخصوصيتها، كما تتمير بتعقيداتها وتعدد مستوياتها وتنوع علاقاتها، وذلك جنبا إلى جنب جذريتها الإبداعية التى تهدف إلى أن ترتقى بالإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، سواء فى حوار الإنسان مع نفسه، أو حواره مع الإنسان، أو حواره مع الطبيعة، أو حواره مع المطلق فى منطقة التأملات الميتافيزيقية. والمركز الأول الذى تدور حوله هذه الرؤية هو الإنسان الذى له - وحده - الملك فى عالم عبدالصبور، منذ أن كتب قصيدته "الملك لك" التى نشرها فى جريدة "المصرى" سنة 1954. ومأساة هذا الإنسان أنه يريد أن يطول بالأصابع المجذوذة نجوم أحلامه اللامحدودة، وأن يقاوم الزمن مقاومته كل عوامل الفناء والتحلل والفساد فى الكون. وعذاب رحلته العقلية والروحية سرّ تميزه الذى يجعله يموت واقفا فى احتجاج نبيل أو تمرُّد جليل. هذا الإنسان ظلَّ عبدالصبور على إيمانه به، حتى فى سخطه عليه، إذ لم يجحد، قط، قدرة الإنسان الخلاّقة على إنشاء العالم فى أفضل صورة، وأحسن نظام. 2- إن إيمان عبدالصبور بالإنسان دفعه إلى الانتساب إلى قضايا الإنسانية فى كل مكان، بعيدا عن المدارات المغلقة للنزعات العرقية والدعاوى السياسية أو حتى التأويلات الدينية التى تنغلق بالكائن على نفسه، وتنزوى بالحضارة عن حركة التاريخ، وتهبط بالمبدع إلى قرارة القرار من التعصب العقلى والانحدار الروحى. وكان من نتيجة ذلك أن انتسب صلاح عبدالصبور إلى وحدة التراث الإنسانى من غير أن ينسى خصوصيته بوصفه شاعرا عربيا مصريا، ولم يعرف الانحياز إلى ميراثه الشعرى الذى كان ينطوى عليه فى داخله، وجعل ميراثه تراث الإنسانية الإبداعى فى كل حضارة قديمة أو حديثة. ولكنه لم يتّبع هذا التراث تقليدا، وإنما ابتدعه وأعاد إنتاجه، ضمن تشكيله رؤيته الجذرية الخاصة. ولذلك لم يتردّد فى مساءلة تراثه الإنسانى: معارضةً أو تضميناً أو تناصاً أو حتى محاكاة ساخرة. 3- كانت مساءلة التراث الشعرى كمساءلة الوجود والكائنات دافعا أساسيا من دوافع العملية المتحدة للحوار القلق الذى غدا عنصرا تكوينيا فى شعر عبدالصبور، خصوصا فى توتر هذا الشعر بين تعارضاته، وفى صياغته أسئلته الجذرية التى أرادت أن تكسر جدران الصمت، وأن تنطق - ولو على سبيل المراوغة المجازية - المسكوت عنه من الكلام المقموع سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا أو فكريا أو حتى اعتقاديا. وكانت الدرامية نتيجة الحوار المتوتر بين المتناقضات، والصدام المتوقع بين المتشابهات المختلفات للإخوة الأعداء من ناحية، وأشكال الصدام الداخلى للأنا التى تنقسم على نفسها فتتعدد تجليات صراعها من ناحية مقابلة. هكذا تولَّدت بذرة الدراما الشعرية من داخل القصائد الغنائية، ونمت فى المسرح الشعرى الذى مضى به عبدالصبور إلى مدى غير مسبوق، لم يصل إليه شاعر عربى قبله أو بعده. 4- كان إيمان عبدالصبور بالإنسان موازيا لإيمانه بالحضور المادى لهذا الإنسان فى تجسّده وتعيّنه، خصوصا من حيث هو حضور جسدى محدد، ووجود حسى مُشخَّص، حضور أو وجود لا يمكن فهم جوانبه الروحية أو الوجدانية أو العقلية، من غير الغوص عميقاً فى كنه الوعى بالجسد، وإدراك سر الانتساب إلى شهوة الأطراف التى تَلمسُ أعرَاقَ الأشياء. هذا الوعى بالجسد لا يقتصر على "الجنس" الذى يجمع بين رجل وامرأة لأسباب عديدة. إنه يبدأ من إرهاف الحواس بما يجعل العين - مثلاً - ترى الألوان فى الألوان، والضياء فى الظلال، أو يجعل الكف تحسّ الدفء والصقيع فى أكف رفقة المقام أو صحبة الترحال. ويمضى هذا الوعى صاعدا ليغدو وعيا بكينونة الأنا فى حضورها الجسدى الذى يعنى اكتمال الوجود، ويصل إلى ذروته بالاكتمال بالآخر، فلا يتوقف عند مجرد متابعة النَّفَس المستعجل الحفيف الذى يشهق فى الحلمة. وكان شعر صلاح يعلن انتسابه إلى هذا النوع من الوعى بالجسد، ويتغلغل فيه، حتى من قبل أن نسمع رطان السنوات الأخيرة عن "كتابة الجسد". 5- إن الإنسان المتعيّن الذى يكتب نفسه حين يكتب جسده لا يكتمل فى شعر صلاح عبدالصبور إلا بالحب الذى يعيد للإنسان براءته، وعفويته، وعرامة الإحساس بالحياة، فيختلس اللذة مع المحبوب مثل جناحى نورس لابد أن تدركه عاصفة الموت. لكن الحب هو الوجه الآخر من السعى المحبط للإنسان ولا يدوم إلا كما تبقى لحظة الكشف الصوفى، فتغرى بالمضىّ وراءها، ولكن مع الوعى بعمرها القصير المندفع كالريح التى لا تمسكها اليد. ومهما كان ما يخلفه الحب وراءه من ذكرى، فالزمن كالنسيان سرعان ما يغمره بالغبار أو الرماد. ولذلك فإن الحبَّ الخلاصَ فى عالم الإنسان هو الوجه الآخر من الموت، أو هو مقابله الملتبسُ به فى ثنائية الإيروس والثاناتوس التى يتحدث عنها بعض المحدثين من النقاد. 6- كان إيمانُ عبدالصبور بالإنسان دافعَه إلى تجسيد النجمين اللذين تضيئ بهما حياة هذا الإنسان، حتى فى لحظات عمره القصير فوق الأرض لا تحتها. هذان النجمان هما: الحريةُ والعدل. الحرية من حيث هى استقلال الإرادة، وحق الاختيار، وإرادة الوجود، أو حتى إرادة رفض الوجود، والتمرُّد على عبثيته. والعدل من حيث هو سؤال أبدى يُطرح كل هنيهة، وحوار لا يتوقف بين الحاكم والمحكومين، والخالق والمخلوقين، والموجود والوجود. 7- والإيمان بالعدل هو الوجه الآخر من الإيمان بالحرية فى شعر عبدالصبور، سواء فى حال مساءلة معنى الوجود، أو مساءلة العلاقة بين المثقف والسلطان. أما الأول فهو الحال الذى صاغه التأمل فى الطبيعة، أو التأمل فى علاقة الإنسان بها، كما صاغته التأمّلات الميتافيزيقية الممسوسة بالأسئلة المحيِّرة، حتى من قبل قصائد من مثل "أغنية إلى الله". أما الحال الثانى فهو حال العلاقة بين الإنسان والإنسان، وعلى الأخص العلاقة بين المثقف والسلطة، إذ لم تشغل هموم هذه العلاقة شاعرا مثلما شغلت عبدالصبور الذى جعلها هاجسا مُلِحَّا فى كل مسرحياته، كما كانت هاجسا ملحا فى قصائده منذ أن كتب "عودة ذى الوجه الكئيب" بعد أزمة مارس السياسية فى مصر سنة 1954. 8- لا يختلف الحال الأول عن الحال الثانى فى انطلاقه من وعى مدينى محدث، وعى سرعان ما قطع الحبل السُّرى الذى وصله بالقرية الرحم، وجعلها كالمدينة موضوعا للتأمل، ومن ثم تمثيلا رمزيا للوجود، وليس ملاذا روحيا للفرار من وطأة مدينة بلا قلب، فكانت القرية موضوعا شعريا يُعالَج من منظور فكر مدينى بعينه. أما المدينة نفسها فتقبَّلتها القصائد بوصفها فضاءها الممكن، وغوايتها الأولى، فتجسدت بها وفيها وجسّدتها فى الوقت ذاته. وظلت هذه القصائد منتسبة إلى المدينة فى ملامحها، تحمل همومها النوعية، وتنطق المسكوت عنه فى أحلامها وكوابيسها، باحثة فى قيعانها عن خلاصها، غير مترددة فى إدانة خيانتها، حالمة بنبىّ يحمل سيفا، متوسلة بلغة المفارقة والسخرية، ولغة الأمثولة والقناع، ولغة المجاز التى تظل غير نائية عن الحياة الفعلية فى المدينة، فهى لغة تسعى إلى أن تغوص إلى قرارة الحياة المدينية، فتبدو كأنها إياها مع أنها غيرها. 9- لا تنفصل هذه اللغة عن وعى تشكيلى صارم فى رهافة إحساسه ببنية القصيدة واتساق تكوينها. ومهما تعدَّدت أشكال البناء، وأفادت فى تكوّنها من أنساق الموسيقى أو أنساق العمارة أو النحت أو أنساق اللوحة، فهى دائما أشكال بنائية تصدر عن وعى مدينى محدث، وعى ظل يرى الجمال فى النظام، ويسعى إلى اكتشاف النظام فى الفوضى. والصفة المحدثة ليست قرينة الرؤية وحدها فى هذا السياق، فالرؤية لا تتجسد إلا بوسائلها التعبيرية المحايثة، ابتداء من جسارة الاستعارة الجزئية أو مراوغة الاستعارة الممتدة، مرورا بالتباس التمثيلات الرمزية أو الكنايات الكاشفة، وليس انتهاء بالتَّقَبُّضِ الإيقاعى الذى هو بعد آخر من أبعاد الموسيقى الحديثة، خصوصا فى حرصها على إحباط التوقعات النغمية التقليدية لمن يتلقَّاها. إن الصدمة المحسوبة أساس العلاقات اللغوية فى قصائد صلاح، وهى أساس البناء فى أحوال تجاوبه مع أبنية الفنون التشكيلية. وصفة الإحكام البنائى التى نراها فى شعره - من منظور هذا التجاوب - نادرة فى شعر كثير من معاصريه. وإذا كانت العقلانية هى السمة الأولى لوعيه المدينى المحدث، خصوصا فى إنشاء علاقاته اللغوية وتوافقات أبنيته، فإن السمة الملازمة لهذه العقلانية قرينة العلاقة بين قصائد صلاح عبدالصبور وأعمال الفن التشكيلى الذى عشقه، وسعى إلى استلهام قوانين صياغاته. أقصد إلى تجليات الضربات التأثيرية للفرشاة أو الكلمة، أو تعيُّن الكنايات المثيرة للمخيلة البصرية، أو التخطيطات التجريدية للموقف أو اللوحة. وغير بعيد عن ذلك الإفادة من تقنيات الفنون فى تشكيل مستويات التجاور أو التوازى أو التقابل أو التقطيع أو حتى الكولاج فى القصيدة. 10- يوازى ذلك كله إيمان مطلق بالشعر وجدواه فى حياة الإنسان، إيمان كان قدس أقداس شاعرٍ وهب حياته للشعر، وظلَّ يكتب عن الكلمة التى يرسلها شهادة إنسان من أهل الرؤية فى زمن قاسٍ وضنين. ولذلك كانت القصيدة التى تتحدث عن القصيدة، كما كان الشعر الشارح، ملمحا بارزا من ملامح شعر عبدالصبور، ملمحا لا يقل فى أهمية حضوره عن حضور نموذج الشاعر نفسه بطلا تراجيديا على امتداد مسرح عبدالصبور، ذلك المسرح الذى هو - فى بعد من أبعاده - بحث عن الخلاص بواسطة الكلمة الشاعرة، من شاعر يجعل من الكلمة سيفا. وأخيراً، فلأن الإنسان فى داخل عبدالصبور رأى أبعد من غيره، وغاص إلى قرارة القرار من ظلمة الليل، وظلَّ يرتحل كالسندباد بين دروب المدينة وأدغال وعيها، باحثا عن يقين لم يجده، وعن سلام لم يعرفه، فإنه عاد من ارتحاله مثقلاً بحزن بعيد الأغوار، حزن ثقيل صموت كالأفعوان بلا فحيح، حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم، مهلك كأنه عذاب مصفدين فى السعير، حزن كان من أسبابه العجز عن التصالح مع الوجود، أو قبول شروط الضرورة فى عالم لم يعرف الحرية أو العدل بأكثر من معنى لهما. ولذلك مات جسد عبدالصبور بسبب كلمة، ولكن بعد أن ترك لنا كلماته لتحيى فينا موتى الأرواح على امتداد الزمان.