أتصور أن أهم سبب كان يشد أبناء جيلي إلى شعر صلاح عبدالصبور في مطلع حياتنا الأدبية هو التمرد المقترن بالجرأة على تحطيم التقاليد الجامدة التي كنا نعاني تصلبها في عوالم الإبداع والفكر والسياسة. ولم يكن هذا التمرد يتحول إلى خطابة زاعقة، سياسياً أو اجتماعياً أو فكرياً، وإنما كان يتجسّد في معادلات موضوعية وموازيات رمزية تصلنا بشعر صلاح عبدالصبور من حيث هو شعر، وتزيد فينا نوازع التمرد المختلفة من غير أن تتخلى عن صفات الفن. وكان التمرد يدفع بعضنا إلى المادية الجدلية فيغدو ماركسياً يكتفي بالفكر منهجاً للفهم والتأويل، أو شيوعياً يجاوز الفكر إلى فعل الانخراط في هذا التنظيم السري أو ذاك. ولم يكن بعضنا الآخر يستريح إلى المادية الجدلية، وينفر من قيود الشيوعية، فيكتفي بالوجودية التي كانت ذائعة في أواخر الخمسينات ومطالع الستينات، وكانت تبدو للكثيرين حلاً فكرياً يصالح ما بين الالتزام الماركسي بالثورة الاجتماعية والإيمان الفردي بحرية الكائن الذي يواجه عبث الوجود. ولم يكن بعضنا الأخير يتردد في الخلط بين الماركسية والوجودية، ولا يجد تناقضاً بين الخليط الذي يصنعه والأفكار القومية الناصرية التي كانت تمزج دعوة التحرر الوطني من الاستعمار بالدعوة إلى تحقيق العدل الاجتماعي، تحت رايات الحرية والاشتراكية والوحدة التي كانت خفَّاقة وعالية، ابتداء من مطالع خمسينات ثورة تموز يوليو، وفي سياق حرب السويس سنة 1956. وكان الكثير من قصائد ديوان "الناس في بلادي" الذي صدر في كانون الثاني يناير سنة 1957 عن دار الآداب البيروتية، وفي سياق حرب السويس يستجيب دوافع تمردنا، سواء في تجلياته الماركسية أو الوجودية أو الوطنية. فقد كان الديوان المحتشد بست وعشرين قصيدة يتضمن ست قصائد وطنية الطابع، وخمس قصائد اجتماعية المنزع، وست قصائد لا تفارق القلق الوجودي حتى في ما تنطوي عليه من بُعد اجتماعي. ولم تتباعد عن القلق الوجودي القصائد الثلاث التي تناولت الإبداع الشعري بصفته موضوعاً للتأمل، أو قصائد الحب الست التي قاربت مواضيعها مقاربة مزجت بين الأبعاد الوجودية والقومية، خصوصاً في القصائد التي حاولت الفرار من رواسب المرحلة الرومانسية التي بدأ بها صلاح عبدالصبور وسرعان ما تخلى عنها. وكان التمرد ينتظم غالبية القصائد، يقوى صوته حيناً فيهيمن على القصيدة، أو يخفت حيناً آخر فيبدو كالرجع الذي لا يسمع له صوت مباشر، ولكنه موجود كالمبدأ الأول الذي تتعدد تجلياته وتتكثر مجالاته. ومن هذا المنظور، يومئ دال "الناس في بلادي" إلى مدلولات عدّة. أولها المدلول الاجتماعي الوطني الذي يرد كلمة "البلاد" على "الناس". وفي الوقت نفسه، يخص تصوير "الناس" بمحيط "البلاد" الواقعي، ذلك المحيط الذي يضاف إلى ضمير المتكلم في كلمة "بلادي" فيرد المفرد على الجمع بما لا يفارق الدلالة الواقعية لحركة "الأنا" الشاعرة التي تتحدث عن ناسها في بلادهم التي هي بلادها. وهي دلالة تنأى بهذه "الأنا" عن أي توحد رومانسي، وتغمس "الأنا" على نحو مباشر في عالم فعلي، عالم يمتلئ بشخصيات لا تخلو من صفات "النموذج" الذي تتجسد فيه وحدة الخاص والعام، أو يغدو فيه الخاص سبيلاً إلى العام. هذا المحيط الواقعي علامة أولى تمايز عنوان الديوان عن ميراث كامل من عناوين حالمة لدواوين رومانسية سبقت إلى الصدور، من طراز "أغاني الكوخ" لمحمود حسن إسماعيل، أو "الزورق الحالم" لمختار الوكيل، أو "وراء الغمام" و"الطائر الجريح" لإبراهيم ناجي، أو "الملاح التائه" و"الشوق العائد" لعلي محمود طه، أو "شظايا ورماد" الذي أصدرته نازك الملائكة سنة 1949، أو حتى "ملائكة وشياطين" الذي أصدره عبدالوهاب البياتي سنة 1950، قبل سنوات من إصداره "أباريق مهشمة" سنة 1954. وكان واضحاً منذ الوهلة الأولى أن عنوان "الناس في بلادي" ينقطع عن سياقات العناوين السابقة، ويشق لنفسه مجرى دلالياً جديداً في واقعيته. صحيح أن العنوان لقصيدة أطلق مسماها الخاص على الديوان كله، لكنه الإطلاق الذي لا يفارق مجاز البعضية بحسب المصطلح البلاغي القديم، حيث يدل الجزء على الكل، ويكون علامة على جوانبه الكثيرة. ولذلك لا يقتصر دال "الناس" على مدلول واحد، بل يومئ إلى مدلولات عدة، تتجاوب كلها في دلالة "الناس" التي انطوت على أكثر من فئة "في بلادي" أو أكثر من مدلول. وإذا كان النقاد يقولون إن الصنعة هي إخفاء الصنعة، وإضفاء طابع من العفوية على القصيدة، فإن العفوية التي تتميز بها قصيدة "الناس في بلادي" متجسّدة في ألفتها، وفي كونها تجذب إليها الأفئدة بالنماذج المألوفة التي تتحدث عنها من أمثال العم مصطفى أو حفيده خليل أو أولئك الذين يتحلَّقون حولهم ونرى فيهم أقرباءنا في القرى التي خرجنا منها، ولا نزال نعرف ناسها. هذه الألفة تمتد من خطاب القصيدة عن هؤلاء الناس بعفويتهم التي توازيها عفوية القصيدة، وبلغتهم التي تشاكلها لغة القصيدة من غير أن تتخلى عن فتنتها، وبمشكلاتها المتعارضة التي تؤديها تكوينات القصيدة. والنتيجة البساطة التي دفعت الكثيرين إلى التعاطف مع القصيدة، ابتداء من الصوت الذي ينطق فيها عبر ضمير المتكلم، مروراً بأشباه من نعرفهم من البشر الذين تتحدث عنهم، وانتهاء باللغة التي تصل وصلاً جميلاً بين المتحدِّث والمتحدَّث عنهم والمتحدث إليهم في الوقت نفسه. والبداية في معنى الناس في بلادي - من هذا المنظور - هي مدلول المجموعة الطليعية التي تنتسب وإياها الأنا إلى "الناس في بلادي" وتغدو بعضاً من حضورها. وهي المجموعة التي نعرفها في أسطر من قبيل: كنا على ظهر الطريق عصابة من أشقياء / متعذبين كآلهة / بالكتب والأفكار والدخّان والزمن المقيت. أو : ورفاقي تعساء / ربما لا يملك الواحد منهم حشو فم / ويمرون على الدنيا خفافاً كالنسم / ووديعين كأفراخ حمامه / وعلى كاهلهم عبء كبير وفريد / عبء أن يولد في العتمة مصباح وحيد. هذه المجموعة المعذّبة بأفكارها وأحلامها، المحتشدة بالتمرد، هي بعض "الناس في بلادي". وهي عصابة الأشقياء التي لا تكف عن اكتشاف أحوال الواقع والارتحال في دروب المعرفة، كأنها السندباد الذي يجوب البلاد كالإعصار، إن يهدأ يمت. وهدف مسعى هذه العصابة أو الطليعة الإسهام في تحقيق الحرية والعدل للناس جميعاً. أداتها في ذلك الشعر الذي تسعى إلى تخليصه من قيوده، والانطلاق به إلى القمم التي يؤذن فجرها بالولادة الجديدة للوطن والقصيدة. وإذا رددنا القصيدة على الوطن، في السياقات التي تتجاوب فيها المدلولات التي تشير إلى كليهما، وجدنا أن الاهتمام بأحدهما اهتمام بنظيره، وذلك بما يجعل "الشِّعر" موضوعاً موازياً للوطن من حيث هو أداة لتحريره، والوطن موضوعاً للشعر من حيث هو مجال لتثويره. والإشارة إلى الوطن - في هذا السياق - تعني الإشارة إلى الناس، أو الشعب الذي تنتمي إليه الطليعة، وتعمل من أجل تحريره داخلياً وخارجياً، بصفتها بعضاً منه: داخلياً بتحرير وجدانه وعقله من قيود الماضي الصدئة وقيود الحاضر الضاغطة، وخارجياً بتحرير واقعه من أشكال الظلم والاستبداد والاستعمار الذي يأبى الرحيل، ويصر على العودة حاملاً وجهه الكئيب في ما يشبه هجوم التتار. والفلاحون الفقراء - في هذا السياق - هم المجاز المرسل الدال على الشعب، أبناء الوطن، أو "الناس في بلادي" في الكثير من أحوالهم: فقرهم، أساليب حياتهم القاسية، معتقداتهم، صراعاتهم، أشكال تمردهم، أحلامهم، وذلك على امتداد فضاء القرية التي تغدو مجالاً لتأمل العين الشاعرة التي تبحث عن الدلالة في كل مشهد، أو على امتداد فضاء المدينة الذي تراه العين نفسها، خصوصاً في تحديثها الذي لا يغفل تفاصيل المشاهد التي تتجسد بها رؤية جذرية للعالم. هكذا، جذبتنا قصيدة "الناس في بلادي" بمطلعها: الناس في بلادي جارحون كالصقور / غناؤهم كرجفة الشتاء في ذؤابة الشجر / وضحكهم يئز كاللهيب في الحطب / خطاهمو تريد أن تسوخ في التراب / ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأونْ / لكنهم بشر / وطيبون حين يملكون قبضتي نقود / ومؤمنون بالقدر. كانت التشبيهات طازجة، نضرة، مزهوة بجدتها، متدافعة تدافع تفعيلة بحر "الرَّجَز" التي اكتسبت نبرات المحادثة اليومية في لغتنا المعتادة، فتنقبض وتنبسط بحسب تدفق المعنى، مستفزة القراء الذين ظلوا على تقليديتهم بما تصنعه من علاقات جديدة، خصوصاً حين تجمع بين الغناء ورجفة الشتاء في ذؤابة الشجر، أو بين أزيز اللهيب في الحطب وصوت الضحك. وكانت الاستعارات عفية، دالة على الاعتزاز بالأقدام التي تضرب الأرض كأنها تريد أن تفلقها، وهؤلاء الذين لا تفارقهم طيبتهم حين يمتلكون بعض ما يكفيهم، بل الذين لا يمنعهم تمردهم من الإيمان بالقدر، كما لا يمنعهم هذا الإيمان من سرقة الظالمين أو قتل المعتدين أو حتى التمرد على القدر نفسه. ومضينا مع القصيدة عبر مشاهدها المتوترة المسكونة بالتمرد الاجتماعي الوجودي، وبدا لنا كما لو كانت القصيدة تدفعنا إلى مواجهة الفقر الذي يزداد قسوة مع غياب العدل في توزيع الثروة، ومواجهة الموت التي تدفع إلى التمرد على معضلة الوجود، في موازاة التمرد على الجوع. هذان النوعان من التمرد يضفران النغمة الأساسية في قصيدة "الناس في بلادي" ويصلان ما بين بعدها الفيزيقي وبعدها الميتافيزيقي. وإذا كان البعد الأول يصف لوازم "عام الجوع" في كنايات دالة على طبيعة الناس الذين يدبّون على الأرض في قوة وجسارة، طيبين حتى في آثامهم التي يدفعهم إليها شظف عيشهم، فإن البعد الثاني، الميتافيزيقي، يظهر مع الإيمان بالقدر، ويبدأ من العم مصطفى الذي يجمع الرجال حوله ما بين الأصيل والمساء، يحكي لهم عن تقلب الدهر بالإنسان، فيدفع الرجال إلى الأسئلة المكتومة عن غاية الإنسان من أتعابه، وعن غاية الحياة، ومعناها الذي يغيب أحياناً، خصوصاً حين تبدو المفارقات صادمة، ويمد عزريل عصاه في غير موضعها، فيبعث الاحتجاج: "كم أنت قاسٍ موحش يا أيها الإله". وتتتابع الكنايات الكاشفة عن البعد الميتافيزيقي لتضيف إلى نبرة الاحتجاج المقموع ما يزيده تأكداً، وذلك بالإشارة إلى موت العم مصطفى الفقير الذي لم يبتن القلاع، وسار خلف نعشه أمثاله الفقراء: وعند باب القبر قام صاحبي خليل / حفيد عمي مصطفى / وحين مَدَّ للسماء زنده المفتول / ماجت على عينيه نظرة احتقار / فالعام عام جوع. ولا يهبط التمرد الميتافيزيقي في سياق هذه القصيدة من أعلى، وإنما يتخلق كذرات الغبار من الحياة الخشنة، ويستحصد من وطأة عام الجوع، فيدفع إلى السؤال بالقدر الذي يتولد به السؤال من الحيرة حول تفسير مسارات القدر، فيتفجر التمرد الميتافيزيقي من داخل السياقات، ومن رصد الحياة المحلية في القرية التي أصبحت مجازاً مرسلاً للنظرة المناقضة كل المناقضة للنظرة الرومانسية التي لم تر في القرية إلا نبعاً حالماً وحضناً حانياً، يفر إليه الذين يطاردهم لهيب الظهيرة في شوارع المدينة. وتفتش النظرة الجديدة عن التفاصيل الوجودية الحية للمشهد، وعن المفردات اليومية للحوار، وعن النماذج البشرية المعجونة بطين الأرض، النماذج التي تبدأ من العم مصطفى وتنتقل منه إلى حفيده خليل كما لو كانت تنتقل من رؤية عالم إلى رؤية مناقضة، أو تنتقل من الإيمان بالقدر إلى التمرد عليه، باحثة في هذا الانتقال عن ملامح النموذج الإيجابي الذي يتولد من بين "الناس في بلادي" ليجسّد المعدن النبيل والتاريخ النضالي للناس في بلادي.