لم يتح لي أن أعرف قصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" في وقتها، فقد كنت مشغولاً عن الخطاب الشعري النقضي بالخطاب الأكاديمي الذي شغلتني أبجديته الأولى في مطالع الستينات عن كل ما عداها. وكان لا بد من انتظاري سنوات قليلة إلى أن أفرغ بعض الشيء لمتابعة الأصوات الجديدة في الشعر، خصوصاً أصوات الجيل الذي أنتسب إليه، وأبادله الهموم والمطامح والأحلام نفسها. وقتئذ، صدمني شعر أمل دنقل للمرة الأولى، فظللت معجباً به إلى اليوم. لا يتناقص تقديري له أو يبهت بمضي الأعوام، بل على النقيض يزداد التقدير والإعجاب، وأكتشف عاماً بعد عام ما يضيف إلى إعجابي وتقديري. وكانت القصيدة الأولى التي دفعتني إلى شعر أمل قصيدة "أشياء تحدث في الليل". وهي قصيدة غير مؤرخة في الديوان الأول "البكاء بين يديّ زرقاء اليمامة" بيروت 1969 على خلاف غيرها من قصائد الديوان المؤرخة، لكن الإهداء الذي تحمله "إلى صلاح حسين.." يومئ إلى تاريخها. وأذكر، الآن، أنني قرأتها في مجلة "الكاتب" المصرية عدد حزيران/ يونيو سنة 1966 مرتبطة بأحداث "كمشيش". وهي قرية من قرى محافظة المنوفية، خضعت لبقايا الإقطاع الذي سعى إلى الالتفاف حول منجزات ثورة تموز يوليو 1952، والتسلل إلى مؤسساتها السياسية لتوظيفها لخدمة أهدافه. وكان من نتيجة ذلك احتدام الصراع بين عائلة إقطاعية حاولت السيطرة على المصالح الاقتصادية للقرية والتحكم في أرزاق الفلاحين، مستغلة علاقاتها السياسية وتغلغلها في أجهزة الدولة، وطليعة ريفية حاولت الدفاع عن حقوقها العادلة، مستندة إلى مبادئ الثورة وشعاراتها ووعودها بالحرية السياسية والعدل الاجتماعي. ولكن بسبب عدم تكافؤ القوى، انكسرت الطليعة الفلاحية في سلسلة الصدامات التي وصلت إلى ذروتها باغتيال زعيم الطليعة والناطق باسمها، صلاح حسين، في آيار مايو 1966. وكان اغتيال صلاح حسين ناقوس الخطر الذي نبّه الأذهان التي لم تكن انتبهت إلى المؤامرات التي حيكت لإجهاض حلم العدل الاجتماعي في مجتمع أوكل مهمة التحول الاشتراكي إلى المعادين للاشتراكية، واستبدل بأمل الاشتراكية الديموقراطية رأسمالية الدولة التسلطية. وسرعان ما تحوّل صلاح حسين إلى رمز على الاستشهاد في سبيل المبدأ، والتضحية في سبيل الأحلام الوطنية الكبرى لطوائف الشعب الكادحة. وأصبحت أحداث كمشيش موضوعاً لتحليلات الكتاب الاشتراكيين والمتحمسين للاشتراكية. وحاول بعضهم شرح الأبعاد السياسية والاجتماعية للأحداث، والكشف عن معانيها المتصلة بالمؤامرات التي تحاك لإجهاض تقدم المسيرة الثورية. وأذكر ما كتبه لطفي الخولي، قبل عام واحد على وجه التحديد من النكسة، في افتتاحية مجلة "الطليعة" لسان حال الاشتراكيين المصريين في ذلك الزمان، في العدد الصادر في شهر حزيران يونيو سنة 1966 تحت عنوان "ترمومتر كمشيش". وكان "ترمومتر كمشيش" دالاً على قوة كبار الملاك الرأسماليين الطفيليين الذين وصفهم لطفي الخولي في افتتاحية "الطليعة" التي كان يرأس تحريرها، وهي القوة المكونة من كبار الملاك القدامى الذين وزعت أرضهم صورياً على أفراد العائلة، ولكنهم عادوا إلى تجميعها فعلياً في شكل مشاريع رأسمالية كبيرة موحدة الطاقة والإدارة والتوجه والعلاقات. وفي الوقت نفسه، كان الترمومتر دالاً على درجة عالية من السخط التي تراكمت في وجدان الجيل الذي ولد أغلبه في السنوات الأولى من الأربعينات، وفتح عينيه على شعارات الثورة التي خايلت وعيه بأحلامها. ولكن للأسف لم ير سوى إرهاصات الهزيمة الكبرى حتى من قبل أن تحدث في حزيران يونيو 1967. وكانت أحداث كمشيش واحدة من هذه الإرهاصات، بالقدر الذي كان استشهاد صلاح حسين علامة على عجز الثورة عن حماية طليعتها، ودليلا على تسليمها مفاتيح أمانيها الوطنية لأعدى أعدائها، وإشارة إلى سقوطها في حمأة الديكتاتورية التي ذهبت بالبقية الباقية من إمكانات تحليق جناحي الديموقراطية: الحرية السياسية والعدل الاجتماعي. ولم يقنعنا في ذلك الزمان ما كتبه الكاتبون من أن الثورة انتبهت إلى دلالة أحداث كمشيش، وأنها استجابت إلى التحدي بتشكيل لجنة تصفية الإقطاع التي رأسها المشير عبدالحكيم عامر. لم يقنعنا ذلك وغيره، فقد شعرنا بأن الخرق اتسع على الراقع، وأن الهوة اتسعت إلى درجة المأساة بين وعود قادة الثورة والواقع الفعلي الذي انتهت إليه، وأن الرفض أليق بنا في علاقتنا بالواقع الذي أخذ يجهض أحلامنا. وجاءت قصيدة أمل دنقل "أشياء تحدث في الليل" لتؤكد ما في داخلنا من رفض، وما في وعينا من تمرد، كأنها الاستجابة الإبداعية لما أثارته فينا أحداث كمشيش ومقتل صلاح حسين، والموازاة الرمزية التي صاغت مواقفنا الثائرة على الواقع الذي يأبى أن يجاوز شروط الضرورة. وقرأنا القصيدة كما لو كانت صوتنا الخاص في الرفض والتمرد. وبدت كما لو كانت تستفز وعينا منذ الأسطر الأولى، وتخزه ليضيف إلى إمعان النظر في دلالات ما وقع في كمشيش إعادة النظر في مفارقات المجتمع المصري كله، خصوصاً تلك المفارقات التي كانت تؤدي إلى مقتل أمثال صلاح حسين الذي تحول إلى حضور رمزي في القصيدة، حضور تجسّده كنايات ومجازات مرسله، تدفع إلى الغوص عميقاً في دلالة الخاص الذي يتحول إلى عام، والمعنى الجزئي الذي ينقلب إلى معنى كلي. وكانت القصيدة كلها مبنية على المفارقة التي أصبحت عنصراً تكوينياً حاسماً في شعر أمل دنقل بعد ذلك، المفارقة التي تتزايد حدتها بتباعد أطرافها، وتصدم من يستقبلها بقدرتها التي تكشف عن مأساوية المتناقضات التي أصبحت نسيج الحياة اليومية. وكما امتدت المفارقة رأسيا في التتابع المتعاقب للبناء، انبسطت أفقيا في الأسطر التي نسجتها مجاورة النقائض، وذلك ابتداء من الاستهلال: رخاوة النعاس تغمر المسافرين في قطار الليلْ ... وفي حقول بعيده شقّ السكون - فجأةً - عُواءُ ذئبْ وانعقد الحليب في الضروعْ وانطلقت رصاصةٌ: فكفّت الأشياء بعدها عن الوجيب. وهو استهلال سردي لا يفارقه العنصر الكنائي الذي أصبح أساسياً في شعر أمل دنقل بعد ذلك، حيث يعتمد السرد على الكنايات البصرية التي يراد بها لازم معناها مع جواز إرادة معناها في ما يقول البلاغيون القدماء. أعني أن الكنايات تضفي طابعاً واقعياً على السرد في الوقت الذي تؤكد مجازيته بما يزدوج بالمعنى، ويفضي إلى المفارقة التي تتوتر فيها الأضداد. هكذا، تتقابل رخاوة النعاس الذي يغرق المسافرين في قطار الليل وسكون الحقول الذي يشقه عواء ذئب، حيث تنطلق الرصاصة التي تعقد الحليب في الضروع وتوقف الأشياء عن الوجيب. لكن للحظة فحسب، إذ سرعان ما يستعيد كل شيء نبضه الرتيب. وتتكرر المفارقة مرة ثانية ما بين النشيد الوطني الذي يملأ المذياع والطرقات التي تلبس الجوارب السوداء. وتؤدي المفارقة الثانية في تعمد محسوب إلى المفارقة الثالثة ما بين دم الشمس التي ستشرق والشمس التي ستغرب والشمس التي تأكلها الديدان، في موازاة مبنى الاتحاد الاشتراكي الذي يظل صامتاً، منطفئ الأضواء، تسري إليه من عبير فندق "هيلتون" القريب أغنية طروب. ولا تتوقف المفارقة ما بين واجهة الاتحاد الاشتراكي الذي يلتبس بالهيلتون وعالم المطابع السوداء التي تلقي الصحف البيضاء، والبشر الكسالى الذين يختصمون في نتائج الكرة أو يتبادلون السباب في طريق الهرم المزدحم بالملاهي التي لا تتوقف رقصاتها اللاهية. ويأتي القسم الثاني، الأخير، من القصيدة بما يشبه ردّ العجز على الصدر، كي تعود النهاية على البداية بضوء أكثر كشفا، فننتقل من الليل المظلم إلى الصباح، ومن النشيد الوطني إلى الأصوات جنائزية الإيقاع في رحلة الموال المفرود على الحقول، ويرتدي وجه صلاح حسين الذي لا تذكر القصيدة اسمه قناع "أدهم" المقتول على الأرض المشاع، لكن بما يحفر في وعي القارئ الدلالة الأخيرة التي تجعل من وجهه النبيل مصحفاً يقسم عليه الجياع. وتنتهي القصيدة بتصاعد الضوء الذي ينتقل منها إلى قارئها، مؤكدة دلالات المجاز المرسل للنور الذي لا يشيع اليأس أو الاستسلام، وإنما يفجر الغضب المصحوب برغبة الفعل الذي يسهم في تغيير اتجاه "قطار الليل" ومعنى "النشيد الوطني" ولون الطرقات التي تلبس الجوارب السوداء. وكانت القصيدة ناطقة بشيء مختلف من هذا المنظور، لعله بعض الأمل في أن يتباعد "الاتحاد الاشتراكي" عن غواية "الهيلتون" التي تتربص به، وأن يقوم القائد بتغيير مسار القطار صوب ضوء أخضر الشعاع، وأن يتحول دم صلاح حسين إلى ما يشبه السنة الأولى التي تنبت في فم الرضيع. لكن الأمل كان مثقلاً بالسخرية المبطنة من "الاتحاد الاشتراكي" الذي غنّى له أحمد عبدالمعطي حجازي، حين أراده حصناً للفلاحين الفقراء وبلداً للعمال الغرباء. فالصلة الوثيقة في علاقات الدلالة ما بين مبنى "الاتحاد" و"الهيلتون" كانت تدني بالأول إلى الظلمة التي تغمر روح القاهرة. ودم القتيل الذي كانت ترى فيه القصيدة "أدهم" المقتول على كل المروج كان يدفعنا إلى ترتيل أنشودة الرفض، واستبدال وجه من قالوا "لا" بوجه من قالوا "نعم" في عالم الواقع الذي بدأ يطوي الأحلام في بساط النفط، ولا يستبقي سوى السؤال عن الأرض والجرح والموت والحزن الذي لا يعرف القراءة. ولعل نطق القصيدة لذلك النوع من الدلالة كان سر مبناها الذي ظل علامة الصنعة الشعرية التي لم يكف أمل دنقل عن تطويرها: التعارضات التي تؤكد المفارقة وتفتح الباب لتوظيف علاقات السخرية، الكولاجات التي تسهم في تجسيد المفارقة، الإفادة من تقنية المونتاج السينمائي، التضمين البلاغي الذي يغدو نوعاً من التناص الواصل بين المتشابهات والمتناقضات في علاقات السخرية أو تعارضات المفارقة، المجازات المضفورة بالكنايات البصرية الحادة، التشبيهات المحدبة التي تبرز مفارقات التقفية، لزوم القافية التي تحوّلت تعارضاتها الصوتية إلى عناصر دالة في تنويعات بحر الرجز الذي انبنت عليه القصيدة، الإيقاع الذي يشد حاسة السمع بعلاقات أصواته بالقدر الذي تشد به الصور العين الباصرة إلى علاقاتها الكاشفة، العودة إلى المأثور الجمعي واستخدام الشخصية التراثية المشحونة بالمعاني لتؤدي دور القناع الجزئي أو الكلي الذي تنبني به القصيدة، خصوصاً في وصلها الحاضر بالماضي وصل المشابهة أو وصل المناقضة. وأخيراً، عقلانية البناء التي تجسّدها الثنائيات المتقابلة في حدّة تعارضاتها المنسوجة من علاقات الدلالة والتراكيب النحوية وترجيعات القافية، جنباً إلى جنب التشبيهات التي تناوش الاستعارات، وتفتح السبيل لفاعلية الإنشاد الذي يحكم علاقة الشاعر بالجمهور، ويفرض تقنيات الاستقبال التي تدفع المتلقي إلى إنكار واقعه والتمرد على شروطه. مؤكد أن ذلك كله لم يكن واضحاً على هذا النحو في ذهني يوم أن طالعت قصيدة "أشياء تحدث في الليل" منذ أكثر من ثلاثين عاماً، لكن الدلالات الأساسية كانت مضيئة بما يكفي لإثارة حماستي لصاحبها، فأسرعت بها إلى أصدقائي في مدينة المحلة الكبرى، حيث كنت أقضي أشهر العطلة الصيفية، وقرأت لهم القصيدة مرات في منزل صديق اعتادت مجموعتنا أن تلتقي عنده. وكانت مجموعة متباينة التوجهات، يجمع بين أفرادها المختلفين رفض الواقع الذي يتأبى على أحلامنا، والبحث عن أفق إبداعي جديد يستوعب رؤانا المتمردة. وتناقشنا طويلاً في القصيدة التي أدركنا فيها صوتنا الخاص وما نتطلع إليه من تجسيد إبداعي لمشاعر الرفض المائزة لجيلنا. وكنا قد أدركنا أن الشر استولى في ملكوت الله، لكن بعد أن استبدلنا بميتافيزياء الوجود فيزياء الواقع المعجون بالمشكلات التي تطحننا، وبحثنا عن خطاب شعري أكثر جسارة من خطاب "الأمير المتسول" الذي انفض عنه الناس، ذلك على رغم أننا ظللنا نشارك أحمد عبدالمعطي حجازي سؤال الدم والصمت: من أين يا مدينتي جاء العفن؟ وهو السؤال نفسه الذي ألقاه علينا الأستاذ فيما بعد، في نهاية المنظر الأول من مسرحية صلاح عبد الصبور "ليلى والمجنون"، عندما قال: لا أدري كيف ترعرع في وادينا الطيب هذا القدر من السفلة والأوغاد؟ وكانت قصيدة أمل دنقل تأكيداً لنوع أكثر جسارة من الخطاب الشعري الذي اعتدناه من صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي الذي لم يكن كتب مرثية عمره الجميل بعد، وأكثر غضباً في تعبيرها السياسي عن جيلنا الذي كان على موعد مع الكوابيس التي سرعان ما انقلبت إليها الأحلام القومية. فقد ولد أمل مثلنا في مطلع الأربعينات في الثالث والعشرين من يونيو/ حزيران1940 على وجه التحديد. وكان يعرف أنه واحد من جيل الهزائم، جيل الألم الذي لم يتكلم سوى لغة العرب الفاتحين، ولم يتسلم سوى راية العرب النازحين. ولذلك استقبلنا قصيدته بالحماسة التي استقبلنا بها مسرحية "الفتى مهران" التي كتبها عبدالرحمن الشرقاوي سنة 1965، قبل عام فحسب من نشر القصيدة. ورأينا في أسطرها الإدانة نفسها التي سمعناها صراحة على لسان "الفتى مهران" الذي اتحدنا به شعورياً وهو يتحدث عن "حصاد الخوف" من الأمير، وعن الرجال الزائفين الذين يتصدرون شرفات العصر، مهفهفين ملمعين، مثل البغايا حين يقطعن الطريق على وقار العابرين. ورأينا في العلاقة بين مبنى الاتحاد الاشتراكي الصامت وأضواء هيلتون التي تغزوه في القصيدة شرفة أخرى من شرفات أيامنا التي امتلأت بمن أسهموا في اغتيال أمثال صلاح حسين. ولم يكن مصادفة أن يكتب أمل دنقل عن أحداث "كمشيش" في السنة نفسها التي صدرت الطبعة الأولى من مسرحية "الفتى مهران" سنة 1966 وقبل عام واحد من تقديم الشرقاوي تفسيره الروائي لأحداث كمشيش نفسها في رواية "الفلاح" التي كتبها في سنة النكسة، وظهرت طبعتها الأولى بعد عام واحد سنة 1968 في مناخ التمرد على النكسة