أغلق بورقيبة سنة 1955 جامع الزيتونة لأن تعليمه التقليدي لم يعد ملائماً لروح العصر ومتطلبات "الجهاد الأكبر ضد التخلف" كما كان يقول. وفي 1990 أُعيد فتح جامعة الزيتونة، كجامعة دينية، لكن ببرنامج جديد غير مسبوق في العالم الاسلامي يشتمل على دراسة اللغات الحية، علم النفس، السوسيولوجيا الدينية وتاريخ الأديان المقارن. كتاب فراس السواح "مغامرة العقل الأولى: دراسة في الاسطورة"، وهو أوفى دراسة عن تاريخ الأديان المقارن متوافرة حتى الآن بالعربية، يدرّس في سنوات التعليم الأربع. بالتوازي مع اصلاح التعليم الزيتوني تمت اعادة هيكلة برنامج التربية الدينية في المدرسة التونسية باستبعاد لاهوت القرون الوسطى المعادي للحداثة وبتعويضه بأفكار الجيلين الأول والثاني من الاصلاحيين المسلمين اضافة الى نصوص تنويرية لمفكرين معاصرين. وباختصار غدا التعليم الديني الجديد حافزاً للصغار على وعي ضرورة معاصرة عصرهم والمساهمة في حل مشاكله بدلاً من النكوص الى الماضي. برهان التنمية والمساواة بين الجنسين والمجتمع الديموقراطي المفتوح والحرية الدينية غدت منذ التسعينات من الموضوعات التي تطرح على التلامذة والطلبة في امتحانات التعليم الديني. التجربة الاصلاحية التونسية رائدة في أرض الإسلام وتصلح منطلقاً لتحديث التعليم الديني في بلدان هذا الفضاء الذي يدور حوله نقاش ساخن هذه الأيام. التعليم التقليدي السائد، ببرامجه القروسطية ومناهجه الماضوية وكادره التعليمي المفتقر للتكوين الحديث، غدا عائقاً لتحديث البلدان المعنية بينما كان المفترض فيه ان يكون احد روافع التحديث الاساسية، بل ان التعليم اليوم هو الطريق الملكي لكسب رهان التنمية. لأن التنافس، في عصر تسارع التاريخ، اي العلم والتكنولوجيا، يدور بين السريع والبطيء. التعليم الحديث، بالمعايير الدولية، هو الكفيل بتلبية حاجة المجتمع والاقتصاد الى الكادر الماهر والنخب الحية، اذاً الى العامل الأول لكسب سباق السرعة. اما التعليم التقليدي السائد فيقدم لمجتمعاتنا عاطلين ومهووسين بماضيهم على حساب حاضرهم ومستقبلهم. وهذا يتطلب، وبإلحاح، اصلاحه وترشيد أعداد المنخرطين فيه لتفادي بطالة خريجيه ذات العواقب الاجتماعية والسياسية الوخيمة. في مصر والجزائر شكل هؤلاء العاطلون مصدراً للتطرف الديني، فما الذي يجب تغييره في هذا التعليم؟ كل ما لم يعد متكيفاً مع ضرورات ومتطلبات التنمية والدخول الى الحداثة، وهما اليوم مسألة حياة أو موت للأمم كافة. نقطة الانطلاق في هذا الاصلاح هو تغيير الاطار النظري لهذا التعليم الذي قدم للمسلمين طوال القرون الوسطى تفسيراً شاملاً للكون والحياة وأعطى لحياتهم معنى. لكن منذ ظهور الحداثة العلمية في القرن السابع عشر لم يعد ذاك التفسير مقنعاً، لكنه لم يترك مكانه، في التعليم، للنظريات الجديدة الأرقى والأشمل تفسيراً وتغطية لمشاكل عجز تفسيرنا القديم عن تفسيرها اليوم. وهكذا غدا عائقاً لتبني مفاهيم الحداثة وانجازاتها لأن اللاهوت القديم جعل منه تفسيراً عابراً للتاريخ يحرّم كل مساءلة لسلطة النص المؤسس لهذا التفسير وكل تحليل للظروف التاريخية التي انتجته. والحال أنها وحدها المساعدة على قراءته قراءة تاريخية لا تتجاهل متطلبات الزمان والمكان ومتغيرات الحداثة، وفي مقدمها استقلال السياسي عن الديني والعقل عن النقل والمعاملات عن العبادات. التعليم الديني السائد اليوم في أرض الاسلام يشتمل على المعاملات والعبادات. المعاملات المعاصرة اتسعت وتشعبت وتسارعت وتعولمت حتى غدا القانون الحديث نفسه يلهث وراءها. ذلك هو سر المراجعة الدائمة للقانون المدني، التجاري، البحري وقوانين التأمينات في جميع البلدان. العقوبات البدنية القروسطية عوضها القانون الجزائي الحديث القائم على فلسفة اصلاح الجاني بدلاً من الانتقام منه الذي قامت عليه فكرة القصاص التي قننتها مدونة حامورابي منذ 38 قرناً. أحكام غير المسلمين المقيمين في دار الاسلام أو خارجها تجاوزها الزمن منذ القرن الثامن عشر. الذمي الدافع للجزية أخلى مكانه في كل بلد سويّ سياسياً للمواطن المساوي في الحقوق والواجبات لأي مواطن آخر. لأن المواطنة لم تعد قائمة على الرابطة الدينية، بل غدت قائمة على ارادة العيش معاً. على هذا الأساس ميز القانون والاعلان العالمي لحقوق الانسان بين المؤمن والمواطن. الأول ينتمي الى خصوصية دينية والثاني الى الوطن. أما غير المسلم خارج البلدان الاسلامية الذي اعتبره فقهاء القرون الوسطى "كافراً محارباً" فغدا اليوم، واقعاً وقانوناً، مواطن دولة صديقة تربطها بالدول الاسلامية معاهدات والتزامات غير قابلة للانتهاك. تصوروا إذاً مدى عبث من يعتبرون، من فقهاء الارهاب، أكثر من 5 مليار نسمة "كفاراً محاربين" وحوالى 130 بلداً "دار حرب" واجب المسلمين تجاههم هو "الجهاد الى قيام الساعة" لتخييرهم بين الاسلام والجزية والحرب! عمر بن الخطاب رفض غزو الحبشة المسيحية لأنه اعتبرها بلداً صديقاً للمسلمين. هارون الرشيد "تحالف" مع شارلمان ضد الأندلس المسلمة. سليمان القانوني اعتبر فرنسا "دار صلاح". أفضل من ذلك، جل فقهاء "النهضة" ألغوا واجب "قتال المشركين": الشيخ رشيد رضا مثلاً "انحاز الى الرأي السائد القائل بأن الدعوة الى مقاتلة المشركين في آيات سورة التوبة ... انما هم مشركو جزيرة العرب وليس كل مشركي الأرض" كما يقول فهمي هويدي. هذه هي القراءة التاريخية للنص التي لم ندخلها بعد الى تعليمنا فقط بسبب الكسل الذهني وعبادة الأسلاف البدائية. بدورها أحكام الأسير، القتل أو الاسترقاق عوضتها احكام معاهدة جنيف حول الأسرى. تحريم بعض علوم الحداثة، كنظرية التطور والفلسفة وسيكولوجيا الاعماق والموسيقى والغناء والنحت... لا معنى له الا الحكم على الحياة العلمية والفنية بمزيد من التصحر! اعتبار المرأة قاصرة أبدياً واقصاؤها من الدورة الاقتصادية تأباه اليوم قيم العصر وحقوق الانسان التي لا مفر لنا من اتخاذها معياراً لسلامة قوانينا وتعليمنا ومعاملتنا للآخر ولبعضنا بعضاً. قطعاً كانت الطائفية مقبولة في العصور الوسطى التي لم تكن تعترف إلا بالانتماء الطائفي، لكن التعليم الطائفي غدا اليوم نكبة تُنكب بها الدول التي تتعاطاه لأنه يضعف الرابطة القومية الضرورية لتكوّن وعي جمعي متجانس لا غنى عنه لظهور المواطنة الحديثة، التي تتعالى عن الروابط الخصوصية، في الدولة - الأمة. الأممية الدينية التخييلية وظيفتها الأولى اليوم اجهاض مسار الدولة - الأمة في العالم الاسلامي. ربما هذا ما حدا بالحكومة الباكستانية الاسبوع الماضي الى اغلاق مدارس دينية لأنها "تنشر التطرف الطائفي والديني" الواعد في بلد متعدد الطوائف بالحروب الدينية. الاستمرار في غسل أدمغة النشء بتعليمه أحكاماً أكل عليها الدهر وشرب منذ قرون، كان من نتائجه ظهور أجيال فصامية تتضارب قناعاتها الدينية مع حقائق عصرها العلمية، السياسية، الاقتصادية والاجتماعية، مما يجعلها تنقاد بسهولة الى اغراء العنف طمعاً في ارغام العالم على التطابق مع يقيناتها الجامدة، بالنتائج التي نعرف، مزيداً من الهزائم ومزيداً من وضع الملح على الجرح النرجسي النازف. تحررت المعاملات جميعاً من وصاية فقه القرون الوسطى مثلما استقلت العلوم الحديثة عن الفلسفة في الغرب. وحدها العبادات التي تعالج علاقة المؤمن بربه ظلت من اختصاص الفقه القديم. لم يبق على صاحب القرار الا ان يجعل واقع التعليم التقليدي يتطابق مع الواقع المعيشي، فمتى يفعل؟ هذا التوزيع العقلاني للاختصاصات، الذي بدأ العالم منذ 11 ايلول سبتمبر يطالبنا بانجازه فرددنا عليه كعادتنا بالعناد العصابي متهمين اياه ب"التآمر على ديننا" وبأن بوش "يريد ان يصلي بنا" كما زعم صدام حسين، طالب به عبثاً فقهاء مسلمون منذ سبعة قرون. ذكر الإمام الشاطبي القرن 14 في "الموافقات" قولاً لفقهاء رأوا ان "مصالح الدنيا المعاملات كلها تُعرف بالعقل من خلال الضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرة خلافاً لمصالح الآخر العبادات التي لا تدرك إلا بالشرع". أي ان شؤون الحياة من اقتصاد وسياسة وقانون وعلوم وفنون... من اختصاص العقل الدنيوي، اما شؤون الآخر من عقائد وحياة روحية وفضائل اخلاقية فمن اختصاص النقل الديني. أليس هذا هو بالضبط مضمون اصلاح التعليم الديني الضروري لتحديثنا والذي بات العالم يطالبنا به. من خصائص حقبتنا ان كل ملف داخلي لا يحل في الوقت المناسب يتحول الى ملف دولي. وهكذا غدا اصلاح التعليم عامة والديني خاصة ملفاً دولياً لا مناص من الحسم فيه. طالبت في هذه الصفحة بهذا التدخل الدولي، لماذا؟ بعد ان رأيت كيف فشل مشروع شيخ الأزهر سنة 1998 في اصلاح التعليم الأزهري لأن الاخوان المسلمين تصدوا له بغوغائهم فأحبطوا مسعاه. فمن اذاً يستطيع عندئذ انجاز مهمة اصلاح التعليم التقليدي اذا لم تدعمه قوى داخلية ودولية ذات وزن. فمرحباً اذاً بالتدخل الخارجي الاعلامي والديبلوماسي والانساني لمساعدتنا على تجديد مؤسساتنا التعليمية الموميائية. ما هي المساعدات المطلوبة؟ مساعدات مالية حقيقية لتجديد البنية التحتية وتحسين دخول الكادر التعليمي المتدين ومساعدة فقراء التلاميذ والطلبة وانتداب المدرسين بأعداد كافية، الإسهام البيداغوجي في تكوين واعادة تأهيل الاساتذة، تحديث مناهج التعليم وتحسين مستوى البرامج كماً ونوعاً خصوصاً ضرورة ادخال الانسانيات من لغات حية وآداب وفنون جميلة بات تدريسها اليوم ضرورياً لتثقيف الحواس وتنمية الحس الجمالي المضاد للقبح والسيطرة لدى كل ناشىء.