على رغم ما تقوم به حكومة شارون من انتهاك صارخ لحقوق الفلسطينيين وتدمير بنية دولتهم التحتية وتحاصر مدنهم وتغتال قادتهم، فإن هذه الحكومة ما زالت تتمتع بتأييد الكثر من يهود الشتات. ومع ان البعض من هؤلاء يعرف ويعي أن ما تقوم به هذه الحكومة هو ظلم بكل المقاييس إلا انهم يخشون ان يعلنوا عن ذلك امام الناس خشية ردود الفعل من اليهود الآخرين وإلصاق تهمة الخيانة. ولكن هناك قلة قليلة من هؤلاء يتحلون بالشجاعة ويتميزون بالجرأة ولا يخشون لوم اللائمين امام قول كلمة حق، وكان من هؤلاء القلة الذين انتقدوا سياسة حكومة إسرائيل في الأشهر الماضية وطالبوها بالتوقف عن ممارستها غير الإنسانية والانسحاب من الأراضي المحتلة شخصيتان معروفتان في بلديهما احدهما سياسي والآخر رجل دين. الأول روني كاسرلس وزير المياه والغابات في حكومة جنوب افريقيا والثاني الحاخام المعروف الدكتور ديفد غولدبرغ من بريطانيا. فالوزير اصدر نداء تحت عنوان "عدالة لفلسطين"، واصفاً إسرائيل بأنها قوة استعمارية تتمتع بكل وسائل القوة والتفوق وتحاول ان تحسم الصراع بالقوة العسكرية وحدها. وقال ان ما تحاوله إسرائيل وفشلت فيه القوى الاستعمارية الأخرى فشلاً ذريعاً، وطالبها بالانسحاب والجلوس الى طاولة المفاوضات. والنداء هذا اصلاً موجه الى اليهود من اصحاب الضمائر من اجل التوقيع عليه. ووقعه الى الآن اكثر من مئتي يهودي بينهم ندين غورديمر الحاصل على جائزة نوبل، وكان رد الفعل قوياً بين يهود جنوب افريقيا وقالوا عنه إنه هجوم على إسرائيل واتهموا الوزير بأنه معاد لليهود وقالوا كذلك بأن 9.99 في المئة من اليهود لن يوقعوا النداء. ورد الوزير على التهم التي وجهت إليه من هؤلاء واتهم الزعامة المدنية اليهودية بالرجعية والزعامة الدينية بتبلد الشعور والعيش في عالم آخر. اما الحاخام ديفد غولدبرغ فوجه نقداً قاسياً وشديداً لسياسة حكومة إسرائيل عندما ألقى خطبة في مناسبة دينية يهودية مهمة، واصفاً اسرائيل بأنها آخر قوة استعمارية في العالم وأنها تخلت عن المبادئ الأخلاقية وهي فيما تقوم به تحرج يهود الشتات حيث يواجه الكثر منهم ازمة ضمير، خصوصاً عندما يدعون لمساندة إسرائيل في الوقت الحاضر. وقال ان بعض اليهود يرون ان الوقت حان لفصل اليهودية عن الصهيونية. ورفض المقولة التي تؤكدها حكومة إسرائيل والمؤيدون لها بأنها عرضت على الفلسطينيين في كامب ديفيد مقترحاً لم يعرض مثله من قبل كما رفض ايضاً ان يلام الفلسطينيون على عدم تحقيق السلام في المنطقة وإن كان انتقدهم على سماه استعمال العنف. وقال ان اي شخص يعتقد ان آرييل شارون او حكومة حزب ليكود سترجع بوصة واحدة من الضفة الغربية فهو كمن يعتقد بأن البابا الحالي يهودي أو أنه سيوافق على ممارسة منع الحمل او انه سيجيز زواج القُسس. وقال إننا كلنا نريد لإسرائيل حدوداً آمنة ومعترف بها ولكننا ايضاً نعرف ان دولة إسرائيل هي دولة محتلة وهذا يجعل تأييدنا مشروطاً ويسبب لنا ازمة ضمير. وكانت ردود الفعل الرافضة لنقده كثيرة بين اليهود وكتب هؤلاء رسائل الى الصحف وكتب بعضهم مقالات ايضاً. وقال عدد منهم بأنه كان على الحاخام ان يحتفظ بنقده لنفسه ولا ينشره بين الناس لما تمرّ به إسرائيل من ازمة. ودافع عدد من هؤلاء عن موقف اسرائيل ورفض ما يقوله الحاخام، خصوصاً في وصفه اسرائيل بأنها قوة استعمارية ورأوا فيه خطورة كبيرة لأنه كما يقولون يجردها من حقها التاريخي في فلسطين وإنشاء دولتها ويجعل هذه الدولة غير شرعية لأن القوى الاستعمارية تأتي من خارج الأرض التي تستعمرها ولا علاقة لها بها. بل ان بعض الشخصيات اليهودية المعروفة لا يتردد في القول إن اعادة احتلال حكومة شارون للأراضي الفلسطينية واغتيال الفلسطينيين ليس اقل شرعية من هجوم الولاياتالمتحدة على افغانستان للقضاء على بن لادن وشبكة القاعدة. ورد الحاخام غولدبرغ على هؤلاء في مقال نشره في احدى الصحف اليهودية، حيث نشر اكثر الردود عليه، وقال فيه إنه تعمد استعمال عبارة "آخر قوة استعمارية في العالم" حتى "أثير وعي الناس لما يحدث في الضفة الغربيةوغزة ولكي يرى يهود الشتات الواقع ويبدأون بتفهم لماذا لم يقبل الفلسطينيون ما عرض عليهم في كامب ديفيد". وقال إن بعض الرسائل اتهمتني بأنني أطالب بالفصل بين اليهودية والصهيونية ولكن الذي قلته هو ان بعض اليهود يدعون للفصل بين اليهودية والصهيونية "لأن هؤلاء يجدون هوة كبيرة بين سياسة إسرائيل والتعاليم الأخلاقية اليهودية وهي هوة من الصعب جسرها". كما قال إنه من الضروري الاطلاع على ما يكتبه الجانب الآخر على رغم - كما يقول - مما فيه من بعض الدعاية والعاطفة. ولكن هذا لا يختلف عما يكتبه الذين يقومون بالدعاية لإسرائيل كالأدبيات التي وزعت حديثاً تحت عنوان "حقائق عن اسرائيل" وجاء على رأس القائمة أن اليهود اصبحوا شعباً عام 1312 قبل الميلاد وهذا كلام غير علمي بل هو سخيف وما كان يعوز هؤلاء إلا ان يذكروا الشهر واليوم. وكذلك اتهامهم الفلسطينيين باستعمال الأطفال والنساء دروعاً بشرية حتى يقتلهم الجيش الإسرائيلي وتكون صورة إسرائيل سيئة امام العالم. إن ما تقوم به إسرائيل يذكرنا بما قامت به جنوب افريقيا عندما كانت دولة ابارتايد تمييز عنصري. ثم يذكر الحاخام بعض الحقائق فيقول انه منذ توقيع اتفاق اوسلو عام 1993 ازداد عدد المستوطنين من 150 ألف مستوطن الى 210 آلاف ومن هؤلاء 30 ألفاً في القدسالشرقية. وهذا لا يشمل 10 في المئة من هؤلاء المستوطنين الذين لهم عناوين داخل إسرائيل. كما ان بناء المستوطنات استمر بوتيرة متصاعدة حتى انه في عام ألفين كان البناء فيها اكثر بثلاثة اضعاف عما كان في تل ابيب كما ان الحكومة تدفع 60 في المئة من كلفة البناء للمستوطنات بينما لا تتحمل إلا 25 في المئة من كلفة البناء داخل إسرائيل. وطبقاً لما ذكرته صحيفة "معاريف" فإنه خلال حكم ايهود باراك عام 2000 اعلنت وزارة الإسكان عن اعلى نسبة للبناء في الأراضي المحتلة منذ ان كان آرييل شارون وزيراً للبناء والاستيطان عام 1992. كما انه بين الأعوام 1994 وعام 2000، استولت الحكومة الإسرائيلية على 35 ألف دونم من الأراضي العربية في الضفة الغربية من اجل المستوطنات وفي العام 2001 اقتلعت 15 ألف شجرة من اجل بناء طرق للمستوطنين كما ان كل مستوطن يستهلك 1450 متراً مكعباً سنوياً من الماء بينما لا يسمح للفلسطينيين بأكثر من 83 متراً مكعباً في السنة. وعندما اصبحت بعض المناطق تحت سيطرة السلطة الفلسطينية منطقة أ اصبحت هذه المناطق مقطعة الأوصال كما ان اكثر الفلسطينيين في الضفة الغربية يعيشون تحت سيطرة اسرائيل حيث نقاط التفتيش التي لا عدّ ولا حصر لها، إذ هناك حوالى 16 نقطة تفتيش حول منطقة بيت لحم وحدها. إن الاقتصاد الفلسطيني الذي هو اصلاً ضعيف بدأ يضعف منذ بداية الانتفاضة الثانية وأصبح 35 في المئة من الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر وأن الحصار الذي بدأ عام 1993 كعقاب جماعي احدث تدميراً هائلاً في الاقتصاد والتجارة والصناعة الفلسطينية. وطبقاً لتقرير "الأونروا" فإن ربع مليون شخص من الفلسطينيين فقدوا اعمالهم بين تشرين الأول اكتوبر عام 2000 ونيسان ابريل 2001 وارتفعت البطالة الى 40 في المئة في الضفة الغربية و60 في المئة في غزة. ان التقارير تتضمن حقائق كثيرة منذ الانتفاضة الجديدة مثل الضرب المستمر للمشتبه بهم وتهديم البيوت والعقاب الجماعي وكل هذه تعلنها المصادر الإسرائيلية تأكيداً لديموقراطية الدولة التي هي ديموقراطية لليهود فقط، وإن الذين يقودون الانتفاضة يؤكدون ان النضال هذه المرة لن يتوقف حتى توافق اسرائيل على سلام حقيقي وتطبقه عملياً. ولكن إسرائيل عندما لا توافق على تصريح احد من هؤلاء فإنها تغتاله. إن على إسرائيل ان تفكر جدياً بنتائج فقدان التأييد الدولي وفقدانها تأييد يهود الشتات وتبدأ بإزالة مستوطناتها الاستعمارية. وكرر الحاخام غولدبرغ نقده بعد بضعة اسابيع من نقده الأول في رسالة كتبها الى صحيفة "الأندبندنت" البريطانية ووقعها مع شخصية مسلمة وأخرى مسيحية وجاء في بعض الرسالة ان الرد العنيف من جانب الفلسطينيين هو الوسيلة الوحيدة التي يطمح من خلاله الفلسطينيون ان يغيروا حياتهم الى الأفضل. وكان بعض الحاخامين غير الأرثوذوكس أيد الحاخام غولدبرغ وكان منهم الحاخام ميدلبره الذي كتب مقالة في صحيفة "الجويش كرونكل" اللندنية قال في بعضها "إنني اشعر كما يشعر كثير من زملائي الحاخامين وكثر من الناس الذين ينتمون الى كنيسنا أن القوة العسكرية وحدها لا يمكن ان تضمن بقاء إسرائيل كما ان التأييد الأميركي لا يمكن ان يكون الى الأبد وإذا لم تجلس إسرائيل الى طاولة المفاوضات من اجل تحقيق سلام وعدالة دائمين لها وللفلسطينيين فإن مستقبلها سيكون أسوأ مما يمكن ان نتصوره". * اكاديمي عراقي.