جاء ميلاد الحركة الصهيونية بهدف إقامة إطار ديني - قومي لاخراج اليهود من حال العزلة الاجتماعية التي كانوا يعيشونها في أوروبا، وتخليصهم من عقلية "الغيتو" Ghetto التي سيطرت عليهم لقرون. وقد رأى دعاة الصهيونية في حينه أن حل تلك المشكلة لن يتحقق إلا بإقامة دولة يهودية خالصة يعيش فيها اليهود من دون غيرهم. لذلك جاءت الصهيونية كفلسفة اجتماعية - سياسية لتجميع اليهود، وكإطار تنظيمي لتوحيدهم وتوجيه قواهم نحو إقامة دولة يهودية، وكأداة عسكرية لتحقيق مطامعهم، وكجهاز إعلامي وقيادة سياسية للدفاع عنهم والتحدث باسمهم والتفاوض نيابة عنهم مع الغير لتحقيق الهدف المنشود. وفي الواقع أصبح الولاء اليهودي لإسرائيل، خصوصاً بعد حرب عام 1967، يحظى بالدرجة الأولى، والدعم لها أهم واجبات اليهودي حيثما وجد. لذلك كان التوجه اليهودي نحو فلسطين ومنذ بدايته غزواً استعمارياً استيطانياً استهدف اقتلاع الشعب العربي الفلسطيني من أرضه ووطنه وإقامة دولة يهودية على أنقاضه. وعلى رغم كل المجازر التي ارتكبها يهود إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وغيره من شعوب عربية مجاورة، فإن دعم يهود العالم ليهود فلسطين لم يتراجع، بل تزايد باضطراد، وان دفاعهم عن الجرائم اليهودية في فلسطين تعاظم مع تكاثر تلك الجرائم عدداً وبشاعة، وباستثناء عدد صغير جداً من يهود العالم، بمن فيهم بعض يهود فلسطين، فإن الغالبية أصبحت تؤمن بأن اليهودية ترى العرب مخلوقات لا تتمتع بصفات الإنسان الكامل ولا تستحق ما له من حقوق. وليس أدل على ذلك من تصريحات بعض قادة اليهود السياسيين في إسرائيل التي تصف العرب بالحشرات، وفتاوى الحاخامات العنصرية التي تحلل قتلهم وتدعو إلى التخلص منهم، وتصرفات المستوطنين الاجرامية التي تشجعها الدولة اليهودية وتدعمها وتحميها. تفرض هذه الحقائق علينا أن نرى الصراع على الأرض العربية مع اليهود كما يجب أن يُرى، وأن نضعه في إطاره السياسي والتاريخي الصحيح باعتباره صراعاً قومياً ودينياً في آن واحد بين اليهود وكيانهم الإسرائيلي من ناحية، وبين العرب والمسلمين من ناحية أخرى. إذ لا يجوز أبداً استمرار يهود العالم بدعم سياسات الاستيطان والتوسع والعنف والعقاب الجماعي الذي تمارسه دولتهم باسمهم ونيابة عنهم، بينما يلتزم الإعلام العربي تبرئة يهود العالم خارج فلسطين من جرائم كيانهم ولسان حالهم داخلها. لقد استخدم اليهود، في داخل إسرائيل وخارجها، سياسيون وإعلاميون ومثقفون على السواء، ألفاظاً تصف الإسلام بأنه "ثقافة تقوم على القتل"، وتصف المسلمين والعرب بأنهم "برابرة"، وتجعل الارهاب وجهاً من أوجه الإسلام. وفي المقابل، ومن أجل المعاملة بالمثل، وجب على الساسة والإعلاميين والمثقفين العرب والمسلمين استخدام تعبير الإسرائيلي اليهودي عند الحديث عن أي عمل إنساني واجرامي ترتكبه القوات والقيادات اليهودية. ومما يدعو أيضاً إلى استخدام كلمة "يهودي" ان في إسرائيل ومن بين حملة الجنسية الإسرائيلية مسلمين ومسيحيين يقفون ضد العمليات الارهابية للدولة اليهودية. بعد أوسلو واعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل أصبحت الضفة الغربية وقطاع غزة، خصوصاً في ضوء القرارات الدولية، أراضي فلسطينية محتلة، شأنها في ذلك شأن هضبة الجولان وجنوب لبنان وبعض الأراضي الأردنية. وفي المقابل، أصبحت العمليات والمواقف التي جسدتها انتفاضة الثمانينات وانتفاضة الأقصى عمليات مقاومة ضد الاحتلال. لذلك، تستدعي حقائق الصراع الدائر على الأرض الفلسطينية اليوم وصف الجيش الموجود في الضفة الغربية وقطاع غزة بأنه جيش احتلال إسرائيلي يهودي، ووصف المستوطنات اليهودية بالقواعد الاستعمارية الاستيطانية، ووصف الانتفاضة بأنها مقاومة شعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهدف الشعوب العربية والإسلامية هو انهاء الاحتلال والاستعمار اليهودي وحصول الشعب الفلسطيني على حقه في تقرير المصير. منذ العام 1988 وبعد قرارات المجلس الوطني الفلسطيني الذي انعقد في الجزائر، أصبحت الدلائل تشير إلى سير منظمة التحرير الفلسطينية نحو الاعتراف بالدولة اليهودية. وبسبب مشاركتي في العديد من المداولات والدراسات والاتصالات السياسية في حينه، أوضحت للقيادة الفلسطينية، وفي أكثر من مناسبة، وجوب مراعاة 3 قضايا أساسية عند الاعتراف بالدولة اليهودية: 1- عدم الاعتراف ب"حق إسرائيل في الوجود"، والاعتراف بالدولة اليهودية فقط. لكن وثيقة الاعتراف الفلسطينية، كما جاء على لسان رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ارتكبت خطيئة بحق الشعب الفلسطيني ومغالطة تاريخية، إذ نصت على الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود. ويعني الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود الإقرار بأن لتلك الدولة حقاً الهياً في الوجود، وهو حق لا تنص عليه الديانات، ولا تعرفه أو تعترف به القوانين والمعاهدات الدولية. واعتقد أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم، وربما في التاريخ أيضاً، التي تصر على وجوب اعتراف الآخر بحقها في الوجود، وليس بها كدولة فقط. ربما ان الدولة اليهودية قامت بقتل آلاف الفلسطينيين وتشريد أكثر من نصف الشعب الفلسطيني من بلاده والاستيلاء على ممتلكاتهم، فإن تلك الأعمال على بشاعتها وظلمها تصبح - في ضوء حق إسرائيل الالهي في الوجود - مبررة لأنها جاءت استجابة لإرادة الهية. لذلك، كان الاعتراف الفلسطيني بحق إسرائيل في الوجود إهانة للشعب الفلسطيني واستهانة بكرامته وإنسانيته، وأصبح من الواجب الرجوع عنه. 2- أن يكون الاعتراف بإسرائيل ضمن حدود 4 حزيران يونيو عام 1967، وذلك لأن الواقعية السياسية وموازين القوى الاقليمية والدولية لا تسمح للفلسطينيين بالمطالبة بأكثر من الأراضي التي احتلت في ذلك العام. كما أوضحت أيضاً أن الاعتراف بإسرائيل من دون الاعتراف لها بحدود تنص عليها وثيقة الاعتراف وتلتزمها، يعني القبول - ضمنياً - بسياسة التوسع والاستيطان اليهودية. وفي الواقع، كان قبول منظمة التحرير الفلسطينية بتأجيل قضيتي المستوطنات والحدود لمرحلة تفاوضية لاحقة بمثابة قبول ضمني بأن أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة هي - كما يقول ارييل شارون الآن - أراض متنازع عليها وليست أراضي محتلة. وهذا يستوجب بدوره ضرورة إصدار وثيقة فلسطينية جديدة توضح ان الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل هو اعتراف بحدود ما قبل 5 حزيران 1967، وقيام الإعلام العربي، الرسمي وغير الرسمي، بالتزام سياسة تؤكد وتكرر باستمرار حدود الدولة اليهودية المعترف بها، وعلى أن الصراع في فلسطين اليوم هو صراع لإنهاء الاحتلال اليهودي للضفة الغربية وقطاع غزة. 3- الإصرار على وجوب اعتراف إسرائيل بمسؤوليتها عن مآسي الشعب الفلسطيني التي تكررت منذ العام 1948، لأن في مثل ذلك الاعتراف إقرار بحق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه وبتعويضات عما أصابه من مآس ونكبات. كان هذا هو موقف اليهود من المانيا التي أجبروها وأجبروا في ما بعد غيرها من الدول على الاعتراف بمسؤوليتها عن الهولوكوست وما رافق الحرب العالمية الثانية من جرائم إنسانية. وجاء الموقف الأميركي ليدعم المطالب اليهودية إلى أقصى الحدود، ليس فقط في ما يتعلق بجرائم الهولوكوست، بل أيضاً في ما يتعلق باستغلال اليهود وغيرهم في المصانع الألمانية والنمسوية. اتجه الموقف العربي الرسمي، ومنذ عقود، إلى المطالبة ب"حل عادل للقضية الفلسطينية"، لكن لم يجرؤ أحد حتى اليوم على تعريف ذلك التعبير. فهل يعني الحصول على انسحاب إسرائيلي كامل من الضفة الغربية وقطاع غزة من دون حصول عرب 1948 في الداخل وفي الخارج على ممتلكاتهم عدلاً؟ إن كلمة "عادل" بالنسبة إلى كثير من الناشطين اليهود، خصوصاً الإسرائيليين منهم، تعني المطالبة بعودة الفلسطينيين إلى قراهم ومدنهم التي شُردوا منها في العام 1948، وذلك لأن هؤلاء اليهود يعترفون في قرارة أنفسهم بأن فلسطين، كل فلسطين، هي ملك للشعب العربي الفلسطيني وليس لليهود الذين يحتلونها اليوم. وبما أن من غير الممكن في ظل الظروف العربية والدولية الراهنة إعادة الحق إلى أصحابه والحصول على "الحل العادل"، فقد وجب علينا عدم استخدام كلمة "عادل" إطلاقاً والحديث فقط عن حل واقعي يُنهي الاحتلال. من الأمور التي لا تخفى على الساسة والإعلاميين والناشطين العرب أن ما كان يسمى بمعسكر السلام في إسرائيل قد انهار أمام التيار المتطرف، وان الكثير من أعضاء ذلك المعسكر من أمثال شمعون بيريز كانوا في قرارة أنفسهم عنصريين ومجرمين. وفي الواقع كان بيريز هو الشخص الذي أمر باغتيال يحيى عياش وقام بمذبحة قانا وأفشل المفاوضات السورية - الإسرائيلية ورفض ورقة التفاهم بين يوسي بيلين وأبو مازن التي تعاملت مع أساسيات النزاع والقضايا المعلقة. إن الضغط على يهود إسرائيل للتخلي عن سياسة التوسع والاستيطان الاستعماري والعنف والاجرام لن يأتي من الداخل، بل من الخارج. وإذا كان هؤلاء اليهود لا يعيرون اهتماماً للرأي العام العالمي الذي لا يربط إسرائيل باليهودية، فإن يهود الخارج يبدون حساسية مطلقة تجاه أي نقد لليهودية واليهود. إن اليهود الذين يدعون احتكار "الاخلاقية" والدفاع عن حقوق الإنسان لن يقبلوا أن يقترن اسمهم بجرائم شارون وبيريز وغيرهم، ولذلك فإن توجيه التحدي لهم بهذا الشكل هو السبيل لخلق معسكر سلام يهودي في الخارج قادر على الضغط على يهود الداخل. * كاتب عربي، واشنطن.