بعد مرور نحو 13 ساعة سفر في السيارة التي كانت تقطع الصحراء بسرعة عالية تظهر العاصمة العراقيةبغداد امامنا فجأة مضاءة كجوهرة اكتشفت للتو في اطنان الرمل. كانت الساعة الثانية والنصف صباحاً وطرقات هذه العاصمة العربية المحاصرة منذ اكثر من عشر سنوات خالية إلا من نور المصابيح المنتشرة على جوانبها. يسألني سائق التاكسي عن سبب قدومي الى العراق فأمتنع عن قول الدافع الأساس الذي يعود الى حادثة العاشر من شهر تشرين الثاني نوفمبر الماضي عندما أوقفت الشرطة السويدية رجلاً عراقياً وزوجته وابنه وموظفة سويدية في مصلحة الشؤون الاجتماعية بتهمة خطف اطفال من العراق وتهريبهم الى السويد. أطلقت المحكمة السويدية بعد ايام قليلة سراح موظفة الشؤون الاجتماعية وابن الزوجين العراقيين البالغ من العمر 18 عاماً في سند اقامة، ولكنها استمرت في حجز الرجل العراقي وزوجته على ذمة التحقيق في التهمة نفسها. عتمت الشرطة السويدية كلياً على الموضوع ورفض المدعي العام السويدي ماغنوس الفينغ التحدث عن الموضوع الى الصحافة واكتفى مراراً بالقول ان "هناك قراراً بعدم التصريح بأي شيء حول الموضوع من اجل عملية التحقيق". قرار المحكمة باتباع السرية التامة دفع الصحف المحلية الى نشر نظريات مختلفة حول اسباب خطف الاطفال العراقيين تجاوزت استخدامهم في تجارة الاعضاء الى التجارة الجنسية. لم تؤكد الشرطة السويدية صحة تلك النظريات ولكنها في الوقت نفسه لم تنفها واستمرت باتباع السرية التامة في عملها. كما انها لم تعلن عن عدد الاطفال المخطوفين، ما عزز انتشار اشاعة مفادها ان عدد الاطفال المخطوفين هو 30 في السويد و70 في فنلندا. "الحياة" كانت من الصحف التي تابعت الموضوع منذ بدايته واستمرت في التحري عن الاسباب التي دفعت الشرطة السويدية الى توقيف العراقيين. وكأول صحيفة عربية تنشر اليوم مضمون التحقيقات السرية التي قامت بها الشرطة السويدية حتى الآن والنتائج التي توصلت اليها بعد انقضاء عشرة ايام من البحث والتحقيق في العراق. يقول تقرير الشرطة السويدية السري انها اعتقلت المشتبه بهم بعد ان استمعت الى "معلومات موثوقة ادلى بها عدد من الاشخاص الذين تم التحقيق معهم في السويد". وتقول تلك المعلومات ان العراقي أياد ج. وزوجته سهام ش. المقيمين منذ سنة 1995 في السويد أرادا في مطلع التسعينات زيادة عدد افراد العائلة، "ويمكن ان تكون الاسباب وراء ذلك الحصول على قروض جيدة مخصصة من السلطات العراقية للعوائل التي لديها على الاقل اربعة اطفال". تقرير الشرطة السويدية السري: الطفل الرقم واحد ويضيف التقرير انه "قد تكون هذه هي الاسباب التي دفعتهم الى التخطيط لخطف طفل". تضيف المعلومات ان الزوجين "خطفا مطلع عام 1992 طفلاً حديث الولادة من مستشفى للولادة في بغداد ادعيا انهما عثرا عليه مرمياً قرب صالون للتزيين النسائي كانت تملكه الزوجة في منطقة نفق الشرطة في بغداد سمّياه حيدر وسجل تاريخ ميلاده في 29 كانون الثاني يناير 1992". وبحسب تقرير الشرطة فإن "الزوجة التي كانت انجبت ثلاثة اطفال قبل ان تحصل بطريقة ما على حيدر اكتشفت بعد مدة قصيرة انها حامل وولدت طفلاً في 27 ايلول سبتمبر 1992 وازداد عدد افراد العائلة الى خمسة اطفال وسرعان ما جرى اهمال حيدر الذي يعتقد انه اصبح عبئاً مالياً على العائلة، ما دفع والدة الزوجة الى تربيته". هاجر الزوج الى السويد سنة 1995 وحصل على تصريح الاقامة الدائمة وذكر انه متزوج وعنده خمسة اطفال. عندما لحقت الزوجة به الى السويد اصطحبت معها اولادها الاربعة وتركت الطفل حيدر، الذي تعتقد الشرطة السويدية انه اختطف، عند اهلها في العراق. توفيت الجدة التي كانت تعتني بالطفل عام 1997 ولم يعرف ما الذي حصل لحيدر بعد ذلك. تعتقد الشرطة السويدية ان حيدر بيع في العاصمة الاردنية عمان لرجل مجهول بمبلغ عشرة آلاف دولار اميركي وسفّر الى دولة مجهولة. بعد عملية بحث معقدة استمرت اياماً وساعدني بها مسؤول في الخارجية العراقية، طرقنا صبيحة احد الايام باب منزل في العاصمة بغداد كنا علمنا ان الطفل حيدر يعيش فيه. فتح لنا رجل كبير السن الباب ورحب بنا فقلنا له على الفور اننا نبحث عن الطفل حيدر، كما اكدنا له اننا نعرف انه موجود في كنفه. هذا هو حيدر يجمع اقرباء المتهمين الذين قابلناهم على ان حيدر الذي من المفترض ان يعيش في هذا المنزل مع شخص من عائلة المتهمة سهام ش. وجد في شتاء 1991 بالقرب من جامع المأمون بالقرب من منطقة نفق الشرطة في بغداد. أصرّت وقتها سهام على ان تأخذ الطفل وتعتني به صدقة لله، بحسب شهادة عائلتها. استطاع الزوجان وبمساعدة شهادة ولادة مزورة اشترياها من قابلة، ان يسجلا الولد حيدر باسمهما على اساس انه ولدهما العضوي. ولكن عندما انتقلت العائلة الى السويد ترك الطفل لأقرباء سهام من اجل ان يعتنوا به لأنهم "يحبونه" كما يقول احد الاقرباء. أضع كوب الشاي الحلو الطعم على الطاولة في منزل اقرباء سهام ش. وأنظر الى باب المنزل الرئيس فأشاهد طفلاً خجولاً يحمل شنطة المدرسة ويدخل بهدوء الملائكة ويلقي التحية بصوت خافت. يقول رب المنزل ان "هذا هو حيدر" الذي تعتقد الشرطة السويدية انه بيع في العاصمة الاردنية لشخص مجهول بمبلغ عشرة آلاف دولار اميركي. من الواضح ان حيدر لا يعرف انه يعيش مع اقرباء السيدة التي وجدته بالقرب من مسجد المأمون، فهو يعرف عن نفسه ان اسمه حيدر وعمره عشر سنوات ويقول: "انا اعيش هنا مع والدي ومرتاح كثيراً. كما انني اصبحت في الصف الخامس ومتفوق في اللغة والرياضيات". تخرج كلمات ذلك الطفل الذكي ببطء ثم ينهض ويجلب كتاب اللغة العربية ليقرأ علينا احد النصوص التي يحبها. من الواضح ان الطفل هو نفسه الذي تبحث عنه الشرطة السويدية، خصوصاً بعد ان اكد ذلك اطراف كثيرون من عائلة المتهمين اياد وسهام. وبعد مقارنة شكله الحالي مع صورة قديمة اكدت الشرطة السويدية انها تابعة للطفل حيدر. وسبب تركه في العراق يعود الى تعلق قريب سهام به. ولكن هناك قصة اخرى تتعلق بالطفل حيدر إذ استغله المتهمان بطريقة اخرى. تقرير الشرطة السويدية السري: الطفل الرقم 2 يقول تقرير الشرطة السويدية ان الزوج استمر، بعد ان حصل على اقامة دائمة في السويد، في التردد على موطنه العراق. وفي أثناء احدى زياراته قام باختطاف صبي آخر في العراق "بمساعدة شخص لا نعرفه. كل هذا جرى بالتفاهم مع زوجته. من المعتقد ان هذه الجريمة حصلت ما بين عامي 1997 و1998 في محافظة بابل، وعلى الارجح في مدينة الحلة". ويضيف تقرير الشرطة السري ان الطفل الثاني الذي اختطف كان عمره ما بين 2 و4 سنوات ويمكن ان يكون اسمه احمد الطوير. نُقل الطفل من المدينة المذكورة بواسطة سيارة الى بغداد حيث بقي محتجزاً مدة من الزمن، ثم نُقل ثانية في تاريخ 4 شباط فبراير 1998 الى السويد بعد ان تمكنت العائلة من الحصول على تأشيرة دخول الى السويد باسم حيدر وهو الطفل الرقم واحد الذي يعتقد انه اختطف في العام 1991، ولكن "الحياة" وجدته في حال اجتماعية جيدة ويعيش مع اقرباء المتهمة سهام. لقد اصبح مؤكداً الآن ان المتهمين استخدما هوية الطفل حيدر الذي لا تعرف الشرطة السويدية مكانه، من اجل الحصول على تأشيرة الى السويد للطفل أحمد الذي تعتقد الشرطة السويدية انه اختطف من مدينة الحلة. ويقول تقرير الشرطة ان "في نهاية سنة 1997 حضر الى السفارة السويدية في عمان شخص بالغ وكان في صحبته طفل. الأمر غير واضح حول ما اذا كان هذا الطفل هو حيدر ام أحمد. الغرض من الزيارة كانت محاولة الحصول على تأشيرة للطفل الى السويد باسم حيدر وأرفقت مع الطلب صورة للطفل حيدر. رفضت السفارة الطلب لعدم اقتناعها بأن الطفل الذي في الصورة هو نفسه الذي كان برفقة الرجل. ولكن العائلة تقدمت بطلب جديد أرسل الى دائرة الهجرة في السويد حيث منح حيدر تأشيرة دخول ولكن اياد ج. الموقوف في السويد اصطحب معه أحمد، أي الذي يعتقد انه اختطف من مدينة الحلة". تعززت الشبهات ضد المشتبه بهما بعد ان أدليا بأقوال مختلفة حول كيفية اتصالهما بالولدين، اذ قالا في بداية الأمر ان الولدين هما طفلاهما العضويان، ولكنهما تراجعا عن ذلك بعد ان قامت الشرطة السويدية بفحص طبي للطفل أحمد الموجود الآن في رعاية مصلحة الشؤون الاجتماعية السويدية وتبين انه ليس ولدهما العضوي. غيّر المتهم في أقواله بعد ذلك وقال انه تبنى الطفل من احدى دور الأيتام في العراق ولكنه لم يقدم أي وثائق تثبت ذلك، ثم قال انه وُقِّف من جانب السلطات العراقية في التهمة نفسها وأطلق سراحه لعدم كفاية الأدلة. البحث في محافظة بابل بعد قضاء بضعة أيام في العاصمة بغداد أبدأ رحلتي مع المسؤول في الخارجية العراقية الى عاصمة محافظة بابل، الحلة، للقاء مسؤولي الدولة هناك بهدف التحقق من أسباب اختطاف الطفل أحمد الطوير الموجود حالياً تحت رعاية مصلحة الشؤون الاجتماعية السويدية. ينهض محافظ بابل الفريق الطيار الركن الحكم حسن علي من وراء مكتبه في مبنى المحافظة مرحباً: "الى بابل المشهورة بأنها هزمت ابو ناجي الجيش الانكليزي في دقة الرارنجية سنة 1921. وإذا كانت هناك حال اختطاف طفل فمن المفترض ان اعرف بها قبل أي شخص آخر لأنني اشغل منصب المحافظ منذ سنة 1994 كما انني أشرف على الاجهزة الأمنية هنا". يطلب المحافظ من احد مساعديه ان يأتيه بالتقارير الواردة من القرى المحاطة بمدينة الحلة ويفتحها تقريراً تلو تقرير، ويقول: "ليست هناك أي حال خطف لطفل باسم أحمد الطوير. فالتقارير تشير الى حدوث 92 حال خطف وفقدان في محافظة بابل 1994 2000، تمكنا من معالجة 91 حالاً منها. الحال 92 لا تتعلق بصبي صغير بل هي حال فتاة تبين في ما بعد انها هربت سنة 1999 مع شخص الى خارج البلاد". نعود ادراجنا الى بغداد للبحث عن حل لقضية الطفل الرقم 2 الموجود في رعاية الدولة السويدية الآن. يذكر ان الطفل الذي يعتقد ان اسمه احمد الطوير تعرض لفحص نفسي وجسدي من جانب اخصائيين سويديين وتبين انه تعرض لأبشع انواع التعذيب على يد أياد ج. ويقول تقرير الاخصائيين السويديين ان احمد "يخاف من الناس ويشعر انه ملاحق باستمرار من سارق يريد ان يلحق به الأذى. ويقول ان له والدتين". هذا ما يؤكده لنا أقرباء المتهمين من ان اياد كان ينهال على الطفل ضرباً بطريقة وحشية، اذ يروي احدهم ان "في احدى المرات التي زارت فيها العائلة بغداد أصيب أياد بحال عصبية فحمل كرسياً وانهال بها على الطفل أحمد فتكسرت الكرسي على جسده الطري". لا احد يعرف سبب كره المتهم اياد للطفل احمد. ويقول احد اقربائه: "كنا نقول له اذا كنت لا تريده فحرام ان تعذبه بهذا الشكل واتركه لنا لنربيه". يضيف اقرباء المتهمين ان اياد يحب المال لدرجة كبيرة جداً. كما ان له قصصاً كثيرة مع النساء، فهو تزوج عرفياً متعة من امرأة عراقية في مدينة كربلاء وعندما تبين انها حامل منه تركها وهرب. ويروي الأقرباء ان اياد يستغل قضية انه "زار بيت الله الحج للعب على الناس". اختطاف الطفل الرقم 2 بعد نقاش طويل دام ساعات مع اقرباء المتهمين الذين رووا قصصاً مختلفة عن كيفية اختطاف الطفل أحمد، قرر احد المقربين جداً من المتهمين ان يروي لنا القصة الأقرب الى الواقع ومفادها ان "اياد اشترى الطفل أحمد من دار للأيتام في بغداد. قبل ان يسجل الطفل في سجلات دار الأيتام قامت مديرة الدار بجلب الطفل بسيارتها وكان يرافقها زوجها وباعا الطفل لأياد في مقابل مبلغ من المال". ويُذكر انه بعد حرب الخليج الثانية وبسبب الحصار الأميركي البريطاني على العراق ارتفع عدد الاطفال الأيتام في العراق، ما دفع الدولة العراقية الى تشجيع العائلات على تبني الاطفال من اجل المساهمة في الواجب الوطني. ولكن بما ان الدولة العراقية تسهل عملية التبني ما الذي دفع اياد الى شراء الطفل، كما يقول الأقرباء، بينما كان في امكانه ان يتبناه بطريقة شرعية؟ لو اتبع اياد الطرق الشرعية لتبني الطفل من دار الايتام لكان سيجبر على ان يسجله في سجل العائلة وفي سجلات الدولة باسمه الحقيقي، اي احمد، وفي هذه الحال لن يتمكن من استخدام هوية الطفل الرقم واحد حيدر ليتمكن من تهريب الطفل أحمد الى السويد. أصبح من المؤكد الآن ان اياد قام باستخدام هوية الطفل حيدر الموجود في العراق وهرب الطفل احمد الذي تقول عائلة المتهمين انه تم شراؤه من دار للأيتام، الى السويد. ولكن ما الذي دفع اياد الى فعل ذلك؟ يجمع كل الذين قابلتهم في العراق على ان هناك غرضاً مادياً وراء تهريب الطفل الى السويد، ولكن لا احد يستطيع تحديد شكل الغرض المادي. ويقول اقرباء المتهمين ان السلطات العراقية اعتقلت المتهم اياد في الشهر العاشر من سنة 1999 بتهمة خطف اطفال وبقي مسجوناً حتى مطلع سنة 2000. ويضيف احد المقربين ان "اياد دفع لمحاميه عبدالكريم ي. في بغداد مبلغاً كبيراً من المال قيمته 20 ألف دولار أميركي حتى تمكن من اخراجه من القضية". وعلقت مصادر امنية عراقية على المعلومة بأنه لو صح ذلك الكلام فعلى الأرجح ان المحامي تمكن من دفع رشوة الى اشخاص في القضاء ليخرج اياد من القضية. مدد المدعي العام السويدي مدة اعتقال المتهمين مرات عدة ويتوقع ان يبدأ محاكمتهما مطلع الربيع المقبل. ولكن ما علاقة المتهم اياد بمدينة الحلة في محافظة بابل؟ زار اياد العراق سنة 1998 واتفق مع فتاة من الحلة تربطها صلة قرابة بعيدة بزوجته سهام، على ان يسفرها الى السويد ويمنحها اقامة دائمة من خلال ابرام عقد زواج صوري وفي المقابل يحصل هو على مبلغ من المال من تلك الفتاة. نجح اياد في اقناع تلك الفتاة وهربها الى السويد بطريقة "شرعية" وحصل على المبلغ الذي اراده، ولكن سجلت الفتاة في دوائر الدولة العراقية في مدينة الحلة انها مفقودة. وعاد اياد الى العراق بعد مدة حيث اتفق مع رجل عراقي على ان يزوجه تلك الفتاة التي كانت حصلت على الاقامة الدائمة في السويد وطلقها اياد فور حصولها على الاقامة. وبمساعدة تصريح اقامة تلك الفتاة تمكن اياد من تسفير الرجل العراقي عبر تزويجه من فتاة الحلة وحصل اياد على مبلغ من المال من ذلك الرجل الذي يعيش حالياً مع فتاة الحلة في السويد. تغادر سيارة التاكسي العاصمة العراقيةبغداد قبل طلوع الشمس، وأترك ورائي بلداً في غاية الجمال وفي غاية الكرم يتخبط بمشكلات اجتماعية كثيرة كعملية اختطاف الأطفال لجني القليل من المال. ويجمع الكثيرون على انها لم تكن موجودة قبل الحصار الأميركي البريطاني، والشيء الأكيد ان الأزمة الاقتصادية الخانقة التي سببها الحصار تخلق مثل تلك المشكلات الاجتماعية حتى ولو كانت البلد من اغنى بلدان المنطقة وتنعم بالنفط وبمياه نهرين كبيرين.