يبدو ان هذه مرحلة انتشال الذات من الزاوية التي زج نفسه فيها أكثر من لاعب دولي واقليمي في منطقة الشرق الأوسط، انما باستثناءات. تكتيك الخروج من الزاوية لا يعني تلقائياً أن هناك استراتيجية جديدة بالضرورة، بل الأرجح أن هدف تغيير التكتيك هو صيانة الاستراتيجية. فإسرائيل أعلنت اعتزامها الخروج من شمال قرية الغجر لأسباب تكتيكية لا تنحصر بعلاقاتها مع لبنان وانما تنطلق أساساً من علاقاتها الثنائية مع الولاياتالمتحدة التي وصلت الى طريق مسدود وأسفرت عن زج الحكومة الإسرائيلية نفسها في زاوية. انما السياسة الإسرائيلية الأوسع المعنية بفلسطين أو لبنان أو سورية أو إيران ما زالت ترتكز الى الاستراتيجية المعهودة بغض النظر عن أهمية الإجراء التكتيكي بالانسحاب من الغجر. الجمهورية الإسلامية الإيرانية زجّت نفسها في أكثر من زاوية عبر إقحام نفسها في عداءات إضافية الى "العدو الأميركي" طاولت روسيا ونيجيريا وحتى الصين. إنما أخيراً بدأت طهران تبدي استعداداً للعودة الى المفاوضات مع الدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن والمانيا في الملف النووي، كما بدت أنها جزء من التفاهم الدولي والإقليمي والمحلي على تشكيل الحكومة العراقية. على رغم ذلك، ليست هناك أية مؤشرات على تغيير جذري في الاستراتيجية الإيرانية الثابتة، النووية منها أو تلك الراغبة في الهيمنة الإقليمية. سورية بارعة دائماً في تكتيك انتشال النفس من الزاوية التي سبق وحشرت نفسها فيها سهواً أو عبر أخطاء استراتيجية. وهي بالقدر نفسه من البراعة في صياغة استراتيجيات توريط الآخرين ليسيروا طبقاً للخطوات التي ترسمها لهم دمشق، خصوصاً اللاعبين اللبنانيين من صفوف المعارضة أو الموالاة على السواء. "حزب الله" بارع تقليدياً في الحنكة السياسية لكنه في الفترة الأخيرة يتصرف وكأنه فقد أعصابه والبوصلة السياسية عندما زج نفسه في زاوية التصعيد وإدانة الذات وكأنه استُدرج وتورّط من دون أن يعي. الفلسطينيون مميّزون بقدراتهم على زج النفس في الزاوية سيما في انقساماتهم الخطيرة وإجراءات بعضهم التي تقع ذخيرة في أيادي إسرائيل وتكلّف الفلسطينيين غالياً. انما اللاعبون الإقليميون ليسوا وحدهم مَن يضع نفسه في الزاوية بل ان إدارة باراك أوباما أثبتت قدرة هائلة على هذه "الموهبة" بعدما سبقها اليها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي فهو يبدو مصرّاً على اعتماد التكتيك استراتيجية وينفّذ مثلاً املاءات آتية من عواصم عربية يعارضها أقطاب حكومته. ولذلك يبدو أنه يمعن في حشر نفسه في الزاوية بلا استراتيجية أو تكتيك لإخراج نفسه أو السياسة الفرنسية الشرق أوسطية منها، مهما كانت خاطئة أو مكلفة. لعل السياسة التركية في عهد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان والرئيس عبدالله غُل ووزير الخارجية داوود أوغلو أكثر السياسات استراتيجية وأكثرها عملية. فهذا الحكم يقترب من الإطاحة بعلمانية تركيا الأتاتوركية واستبدالها بإسلامية تركيا المميزة، وهو يفعل ذلك بنمطية مدروسة ذات أبعاد محلية وإقليمية ودولية تمتد الى الصين. الحكومة التركية راهنت على إدارة باراك أوباما موظّفة ما تسرّب عنها من ضعف ووهن لمصلحة أنقرة. توجهت الى أوروبا ليس توسلاً لها للقبول بها عضواً في الاتحاد الأوروبي، وانما بثقة متجددة وإيحاء بأنه عندما تحوّل التمني الى توسّل – في فكر وذهن أوروبا – ثار العنفوان التركي ضد الفكرة عن بكرة أبيها. بدلاً من الغرب، توجهت تركيا شرقاً الى الصين وطوّرت العلاقة الى درجة سابقة إجراء مناورات عسكرية مشتركة الشهر الماضي والإعلان رسمياً عن تطوير الشراكة الثنائية الى خانة "الشراكة الاستراتيجية". هذا فيما ما زالت تركيا عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وفيما كانت المناورات العسكرية المشتركة في الماضي تتم مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل. انما المهم، ان أنقرة لم تقطع الخيوط مع إسرائيل تماماً، وهي ما زالت شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة ضمن حلف الناتو. فهي اليوم تُحسِن الإمساك بالخيوط، بما فيها تلك الممتدة الى إيران، حتى عندما يُقال ان تركيا تسعى وراء زعامة السُنّة فيما إيران في موقع زعامة الشيعة. على عكس تركيا التي لا تبدو في حاجة اليوم الى استراتيجية إخراج النفس من "خانك اليك"، تبدو الجمهورية الإسلامية الإيرانية في حالة توتر وانقسام تكابر وتعادي وتستفز وتمعن في إقحام نفسها في أكثر من زاوية. تبدو الهيبة والوقار على تركيا – مهما كانت سياساتها موضع انتقاد أو خلاف – فيما سقط الوقار عن إيران وباتت تقاتل أظلالها. سقطت الهيبة أيضاً عن الولاياتالمتحدة لأسباب متعددة. ادارة أوباما تبدو جاهدة اليوم في محاولة انتشال نفسها من الزاوية – زاوية الضياع وزاوية انحسار الهيبة وزاوية السياسات الخاطئة التي لها ملامح التبسيط. ولأنها دولة عظمى، فحالما تتحرك الولاياتالمتحدة وان كان متأخراً، يأخذ الجميع علماً بذلك ويحسبون حسابه بشكل أو بآخر. لا بد ان القرار الإسرائيلي بالانسحاب من الغجر أتى بمساهمة أميركية بعدما تحركت إدارة أوباما في صدد لبنان في الأسابيع القليلة الماضية بعدما كانت ركنت الى حسابات خاطئة ثم استدركت واستيقظت وقررت أن تخاطب جيرة لبنان بوضوح وإصرار. أهمية الانسحاب الإسرائيلي من قرية الغجر انه يلغي منطق استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية من وجهة نظر الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة. فمزارع شبعا التي تحتلها إسرائيل هي من وجهة نظر الأممالمتحدة سورية وليست لبنانية، طالما ان سورية وإسرائيل ترفضان تقديم الوثائق التي تطالب بها الأممالمتحدة والتي تؤكد صحة ان كانت المزارع لبنانية حقاً أم سورية. دمشق تقول ان مزارع شبعا لبنانية لكنها ترفض تقديم الوثائق التي تطلبها الأممالمتحدة وهي تقول ان البحث في مصير هذه المزارع، كما تثبيت الحدود اللبنانية – السورية، يجب أن ينتظر الى ما بعد تحرير الجولان السوري من الاحتلال الإسرائيلي. أما "حزب الله" فإنه يعتبر الاحتلال الإسرائيلي لكل من قرية الغجر ومزارع شبعا الركن الأساسي للمقاومة من الأراضي اللبنانية والمبرر الرئيسي لاستمرار امتلاكه سلاحه خارج سلاح الدولة. إدارة أوباما تبنت في الآونة الأخيرة استراتيجية مختلفة عن الادارة السابقة نحو لبنان بعدما أرعبتها التطورات الأخيرة فيه بما في ذلك ازدياد تمرير السلاح الى "حزب الله" من سورية وإيواء سورية مخازن لسلاح "حزب الله" كما يتهمها المسؤولون الأميركيون. أصابها الرعب أيضاً من جرّاء التهديد بضرب الاستقرار الذي أتى على لسان "حزب الله" إذا صدر عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لمقاضاة الضالعين في اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري ورفاقه ال 22 القرار الظني بحق أفراد من "حزب الله". المسؤولون الأميركيون المكلفون هذا الملف يرفضون الكشف عن الخيارات التي في حوزتهم. واضح ان التمسك بالمحكمة ليس أميركياً حصراً وانما هو روسي بقدر ما هو بريطاني أو فرنسي. فلقد تم اتخاذ القرار بعدم السماح ل "حزب الله" أو لسورية بتقويض المحكمة الدولية وبإفشال سعيهما وراء إلغائها، وأدى التصعيد العلني الى النتيجة العكسية. وبدلاً من إضعاف المحكمة أو تأخير إجراءاتها – بما في ذلك القرارات الظنية – أدت الحملة السورية وحملة "حزب الله" الى حشد الإجماع الدولي وراء المحكمة – بما في ذلك تركيا مثلاً – وبات المدعي العام دانيال بلمار على ثقة أكبر بعدما كان تعرّض لضغوط أبرزها فرنسية وخليجية سعت الى تمييع المحكمة والتراجع عن القرارات الظنية. الآن، أمام الذين صعّدوا وهددوا إما التنفيذ أو التنفيس. لا بأس في التفكير بإخراج الذات من الزاوية سيما إذا تبيّن ان هناك ربما توريطاً أو حسابات خاطئة. لا بأس في الهبوط من سلم التصعيد سيما إذا كان الهبوط يعني الوعي بأهمية استدراك معاني إدانة النفس بدلاً من ترك مهمة التبرئة – أو الفشل في إثبات الإدانة – الى مجريات العدالة. هكذا يصبح لانتشال الذات من الزاوية أهداف ومبررات ذات معنى سيما إذا كان عنوانها ايلاء الأولوية لاستقرار لبنان والمنطقة. اليوم، ان مهمة جميع اللبنانيين واللاعبين الإقليميين والدوليين هي إعادة الأمور الى نصابها. لا حاجة للمساهمة في الزج في الزاوية. ان المطلوب هو التفكير الجماعي في كيفية استعادة "حزب الله" الى بيئته الطبيعية وموقعه الضروري في مسيرة لبنان وفي مستقبل المنطقة. إدارة أوباما تفكر في هذه الآونة بمعايير جديدة لسياساتها نحو الشرق الأوسط. وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، كما يبدو، تسلمت زمام الأمور في المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية بعدما أمضى المبعوث الخاص السناتور جورج ميتشل سنتين في إدارة هذا الملف من دون جدوى. لعله أخطأ في التكتيك وفي استيعاب القدرة الإسرائيلية على المناورة وعلى فرض أجندتها. ولعله فشل على رغم كل ما استثمر من قدراته وحسن نياته. المهم ان هيلاري كلينتون تأتي اليوم الى ملفات الشرق الأوسط بتحديات كبرى لها وللآخرين. هيلاري كلينتون تحسن لغة اللعبة السياسية لكنها قد لا تكون قديرة في لغة المفاوضات. انها تأتي الى الملف الفلسطيني – الإسرائيلي بخبرات منها خبرة زوجها الرئيس السابق بيل كلينتون الذي يتقن حذافير الملف وحذافير فن التفاوض. ما أسفرت عنه مفاوضاتها مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو في ما بات يُعرف بالساعات السبع في نيويورك ينطوي على مغامرة لإدارة أوباما ولهيلاري كلينتون نفسها. الصفقة بالتأكيد ناقصة تكشف ضعف الولاياتالمتحدة وفترة ال 90 يوماً هي فترة امتحان لإدارة أوباما أكثر مما هي امتحان لحكومة نتانياهو. هذه الفترة – فترة ال 90 يوماً – تشكل مجالاً لكل من يرغب في انتشال النفس من الزاوية. انما المطلوب ان يكون الانتشال تكتيكياً مرحلياً وان تكون النتيجة استراتيجيات أوعى من تلك التي برزت منذ قدوم باراك أوباما الى البيت الأبيض.