موديز ترفع تصنيف المملكة الائتماني عند "Aa3" مع نظرة مستقبلية مستقرة    جمعية البر في جدة تنظم زيارة إلى "منشآت" لتعزيز تمكين المستفيدات    وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حركة "طالبان" ... من نصرة ضحايا حروب المجاهدين إلى الحملات القومية والمذهبية وإلجاء بن لادن . طلبة المدارس الأفغانية في باكستان وحزامها البشتوني ... يختصرون السياسة في إجراءات جزائية 1من2
نشر في الحياة يوم 11 - 01 - 2002

تتردد في ثنايا الحوادث الأخيرة من الحرب الأفغانية الدائرة، الحرب على "القاعدة" وعلى "طالبان" الذين لاذت بهم منظمة اسامة بن لادن، أصداء الحروب الأفغانية السابقة، وآخرها الحروب الأهلية بين "طالبان" وبين "المجاهدين" الذين قاتلوا القوات السوفياتية وأجلوها عن الأراضي الأفغانية. ففي 9 كانون الأول ديسمبر كتبت صحيفة اميركية معروفة ان ثلاثة وأربعين من مقاتلي "طالبان"، من الأفغان وغير الأفغان، كانوا استأسروا لدى حلف الشمال، قضوا اختناقاً في مستوعبات، في اثناء نقلهم من مدينة قندوز، حيث استسلموا، الى سجن شِبِرغان، الى الغرب من مزار الشريف. وبجوار تورا بورا، الى الشرق من قندهار، كان يعتب احد مقاتلي "القاعدة" على مقاتل محلي، منكراً مساندته غير المسلمين على المسلمين، والمنافقين على المؤمنين، ومذكراً بإنجاز "طالبان" الكبير على قوله وهو إحلال السلام في افغانستان بعد الحروب المريرة التي عصفت بها.
ويكرر المشهدان أو الحادثتان، اليوم، وجهي نهج حركة طلبة المدارس الدينية طوال العقد الذي ساست الحركة في اثنائه اجزاء مختلفة السعة والعرض من أفغانستان، والمسرح الى الأفول. فالوجه الأول هو وجه العنف الفظيع، ولا سيما على قوم الهزارة في قلب افغانستان ووسطها ويروي احد الهزارة أن الطلبة المقاتلين من قوم البشتون، كانوا يغنون: "الأوزبك الى أوزبكستان، والطاجيك الى طاجيكستان، والهزارة تحت التراب". والقتل خنقاً في المستوعبات والصهاريج ليس الأول من نوعه. وكان الطلبة بدورهم ضحايا القتل غرقاً في الآبار بجوار مزار الشريف. اما منة السلم الأهلي فلم يفتأ الطلبة يدلون بها على مواطنيهم، وهم أرسوا عليها شرعيتهم وحقهم في حكم بلاد الأفغان حتى وهم يخوضون حملاتهم الصيفية السنوية، ويعدون العدة لها في اثناء الربيع.
الأمن والحرب
والترجح بين مباشرة العنف والقتل، قبل القتال وفي اثنائه وبعده، وبين الكلام على السلم الأهلي والإدلال به وإناطته بحكمهم واستتباب الأمر لهم، ليس "تناقضاً"، أو هو ليس تناقضاً وحسب. فهو مرآة الفصول المتعاقبة التي نصبت "طالبان"، في آخر مطافها، حكاماً على 90 في المئة من الأراضي الأفغانية. فهم بسطوا "الأمن" على الأراضي التي استولوا عليها في ختام الحرب الأهلية في 1996 بعد خمس سنوات من التناحر، وأمنوا الطرق، وخصوصاً تلك التي يسلكها المهربون وشاحناتهم وتصل حدود باكستان الغربية بالجمهوريات السوفياتية السابقة، الى الشمال من افغانستان. وكان سبيلَهم الى ذلك غزوات وحروب دامية، وحصار مدن، وتجويع، وأحلاف متقلبة، وشراء ولاءات قبلية، ومساعدات اقليمية بالسلاح والتموين والمال والرجال والمعلومات.
ولكن ما لا شك فيه هو غلبة القتال، أي الاقتتال الداخلي والأهلي القومي الأقوامي والمحلي والمذهبي على "طالبان" وسياستهم وأمنهم وعلاقاتهم الإقليمية. فهم لم يرسوا امن الطرق والمدن على سياسة احلاف، ولا على اتفاق على صورة الحكم وطرق التشريع والتقرير وتوزيع المنافع والمسؤوليات. بل أرسوه على الحرب والقهر والتخويف والنفي والاستقواء. ولم تهدأ الحروب الداخلية، ولا هدأت المناوشات الإقليمية، في اثناء استيلائهم على معظم اراضي أفغانستان. فعتاب الطالباني، في ضواحي تورا بورا، "أخاه" السابق على قتاله "إخوته" المسلمين اليوم، وعلى اتخاذه "الأمريكان الكفار" أولياء من دون اهل الإيمان الواحد والمشترك، هذا العتاب إنما يتعمد اغفال السمة الأبرز والأقوى ظهوراً في تاريخ حركة الطلبة الأفغان وهي توسلهم المتمادي بالعنف والقتل.
فالطلبة الشبان نشأوا وترعرعوا في "حضن" حرب الاحتلال السوفياتية المدمرة على الجار الأفغاني إذا جازت تسمية التدمير المتمادي حضناً، ثم بين أظهر اقتتال الفصائل والأحزاب الأفغانية "الإسلامية" "حزبي اسلامي" حكمتيار، و"جمعيتي إسلامي" رباني، "ووحدتي إسلامي" مزاري.... ولكنهم لم يتحرجوا من منطق الاقتتال هذا.
فجاء حلف "طالبان" مع بن لادن وفيديرالية الجماعات والمنظمات الإسلامية المنتشرة بين نيجيريا والهند، في 1997- 1998، وهو تاريخ تنصيب الملا محمد عمر، "أمير" الطلبة، بن لادن مرجعاً اعلى و"أميراً" على غير الأفغان الذين عرفوا ب"الأفغان العرب" - جاء هذا الحلف باباً مشرعاً على عواصف المنازعات المحلية والإقليمية في آسيا الوسطى وبعض جنوب آسيا والشرق الأوسط والقرن الافريقي وجاليات المسلمين بأوروبا والأميركتين. وكانت "الجبهة الإسلامية العالمية لمحاربة الصليبيين واليهود"، آلة الدور الدولي او العالمي الذي تصدى بن لادن للاضطلاع به على رأس جماعات وحركات محلية ضالعة في هذه المنازعات أو بعثت على الضلوع فيها.
ولكن، ابتداء وربما أخيراً، كانت حركة "طالبان". والحركة لم تكن حركة، على نحو ما ليست "القاعدة" اسماً جغرافياً أو بلدانياً على مسمى زئبقي أو أرخبيلي. ففي ربيع 1994 لجأ بعض اهل سَنْجِسار، وهي قرية في قضاء مِواند من ولاية محافظة قندهار في الجنوب الأفغاني والبشتوني قبائل غيلزاي، الى إمام مسجدهم ومدرّس كتّابهم وجارهم، الملا محمد عمر، ورجوه إنقاذ بنتين صبيتين من بناتهم، خطفهما احد قادة الجماعات المسلحة المحلية، وحلق رأسيهما، واقتادهما الى معسكره حيث اغتصبهما وألقى بهما طعمة سائغة ل"مقاتليه" و"محاربيه". وكان محمد عمر - المولود في 1959 بقرية نوديه، في أسرة فلاحين فقراء من عشيرة هوتاك من قبائل غيلزاي البشتونية، والمهجّر مع أسرته ومعظم اهل قريته منذ 1980 الى بلدة تارينكوت في ولاية أوروزغان على أطراف بلاد الهزارة الشمالية - وصل سَنْجِسار باحثاً عن "عمل". وكان درس بقندهار على أحد الشيوخ المحليين والمغمورين.
وقطع محمد عمر تدريسه وإمامته القرية حين ابتدأت القوات السوفياتية حربها، في 1979 - 1980، والتحق في صفوف حزب خالص الإسلامي. وعرف عنه أنه قاتل في الحرب على نجيب الله، العسكري الاستخباراتي الذي تركت القوات السوفياتية المنسحبة حكم افغانستان بين يديه، فوق ما عرف عنه قتاله في الحرب على "الشورافي" الروس. وفي اثناء السنوات الثلاث، من 1989 الى 1992، جرح أربع مرات، وأودى جرح بعينه اليمنى.
فلما استنجد جيرانُه ومأموموه ملا القرية، جمع هذا ثلاثين من طلبته وفتيان كتابه، تسلح نصفهم ببنادق صيد ورشيشات صدئة، وهجم بهم على معسكر القائد المحلي. فأخذوه، وأطلقوا السَّبيتين المسكينتين، وشنقوا المقاتل المتقاعد والفاسد، وقاطع الطريق العامل، ودلوا حبله على مدفع دبابة جائمة في المعسكر. وإلى هذا الفعل الذي يليق بمستهل ملحمة "عظيمة"، ولو دون كيشوتية أو روبن هودية وسينمائية، غنم المهاجمون سلاحاً وذخيرة كانت تنام في خزائن المجاهد السابق. فاجتمعت في هذه الرواية، والأرجح أنها تؤلف بين حوادث حقيقية وحوادث موضوعة ومتخيلة، عناصر مصير أراده اصحابه، الطلبة، ملحمياً و"نبوياً". فالبطل رجل مغمور بعثه الظلم على الاضطلاع بدور المصلح، وهو قوي بإيمانه وباجتماع اصحابه المؤمنين حوله، ولا يخاف ما بينه وبين الظالمين والفاسدين من فرق قوة وعتاد وسلاح، ولا يفعل ما فعله لغاية أو مأرب في نفسه، إلخ. وإذا انتصر جعل مغلوب اليوم، ومتغلب الأمس ومستبده، مثلاً أو مثلة.
وإلى هذا فليست سَنْجِسار إلا بعض أفغانستان، وكناية محلية وجزئية عنها، وقد تكون كناية عن "دار الإسلام" كلها. فالانسحاب السوفياتي في أوائل 1989، خلف أفغانستان ممزقة ومتفرقة "جبهات" حرب كثيرة عددها على عدد الأقوام والمذاهب والقبائل والولايات التي تتقاسم البلاد الأفغانية. فكابول كابُل كتّاب الأخبار العاصمة لم يستعدها البشتون - وهم كثرة الأفغان نحو 40 في المئة منهم ومنهم حكام البلاد منذ ثلاثة قرون، ومعظم الأفغان المهاجرين أو النازحين الى بيشاور الباكستانية، بين اسلام أباد وجلال أباد، وبيشاور مصدر المجاهدين والمقاتلين الأول - بل استعادها طاجيك احمد شاه مسعود، قائد حرب برهان الدين رباني، المتحالفون مع اوزبك الجنرال رشيد دوستم، "السوفياتي" السابق والمستولي مع قومه على مزار الشريف، عاصمة الشمال. والحلف الطاجيكي والأوزبكي لم يكن ليرضي استيلاؤه على العاصمة الأفغانية الكثرة البشتونية، على رغم إقرار البشتون وغيرهم بصدارة احمد شاه مسعود حرب التحرير على القوات السوفياتية الغازية وبلائه فيها.
فلم يكن من قلب الدين حكمتيار، البشتوني وزميل دراسة مسعود والإسلامي المتشدد، إلا ان ثأر لخسارة قومه عاصمة البلاد وكرسيها بضرب الحصار عليها وقصفها قصفاً مدمراً. فكان الحصار والقصف هذان ابتداء تحويلها الى الخرائب التي انتهت إليها منذ 1996. واقتصر استيلاء حكمتيار على جنوب افغانستان وشرق كابول. وبينما حكم رباني وحلفه كابول وشمال البلاد مزار الشريف في وسط ولايات جوزجان وبلخ وسامنغان ويغلان وطنحار وشرقها وادي بنجشير، انفرد اسماعيل خان بهراة هيرات الصحافيين ووكالات الأنباء بين ولاية فرح جنوباً وفارياب شمالاً على الحدود مع ايران. وعلى طول الحدود الأفغانية مع باكستان، في قندهار وزابل وباكتيا على ونانغارهار حيث تدور اليوم المعارك الأخيرة، أي بإزاء جار افغانستان الأقوى نفوذاً فيها والأشد تعويلاً على هذا النفوذ، تولت مقاليد الأمر مجالس شورى محلية من مشايخ القبائل البشتونية المنتشرة على جهتي الحدود المشتركة الأفغانية - الباكستانية.
وولدت حركة طلبة المدارس الدينية، على ما مر، في إحدى هذه الولايات وهذا الشطر من أفغانستان، بمنأى من قبضة زعيم حرب اهلي ومحلي قوي، وعلى مقربة من باكستان ومطامعها القوية في جارتها المتصدعة، وعلى طرق الهجرة العريضة من الولايات البشتونية الأربع الى مخيمات بيشاور المتصلة بجلال أباد وكويتا الى الشمال الشرقي من قندهار حيث يحتضن المهاجرين الهاربين من الحرب السوفياتية أهلُهم وقومهم في "بلاد الأطهار"، على معنى اسم باكستان. وصبغت هذه العوامل بصبغتها الحركة الناشئة على أنقاض حروب المجاهدين. وليس أقلها أثراً انتشار المدارس الدينية في حزام مدن الهجرة الأفغانية المتعاظمة الى باكستان، على ما يأتي القول بشيء من التفصيل.
وقندهار مدينة تجارة. فأحد أبرز مرافقها، والمورد الأكبر بين مواردها، تجارة النقل بالشاحنات. وبينما ينصرف مزارعو الولاية وفلاحوها الى زراعة الدوالي والبطيخ والتوت والتين والرمان، وهذا أشهر نتاجها، يتولى السواقون، سواقو العربات في اواخر القرن التاسع عشر الى العقد الرابع من القرن العشرين ثم سواقو الشاحنات، نقل هذه المنتوجات الى دلهي وكلكوتا الهنديتين. وأصحاب شركات النقل والسواقون القندهاريون قوة اجتماعية راجحة. فهم المتصرفون في معظم المال الذي يتداوله اهل التجارات والصناعات والزرع المحليون، وهم المنفقون من اموالهم على مرافق قندهار العامة. وإلى أسلافهم من البشتون، من قبائل الدرّاني، وهو الأصل القبلي الذي ينتسب إليه الملك السابق محمد ظاهر شاه وتنتسب إليه اسرته، إلى هؤلاء الأسلاف يعود إنشاء سلالة الملوك الأفغان قبل ثلاثة قرون.
وكانت قندهار ميدان قتال متصل بين قوات الغزو السوفياتي وبين منظمات المقاتلين المحليين. واتخذ هؤلاء من بساتينها وجنائنها خنادق تستروا بها على حامية الاحتلال. فردت هذه على المقاتلين بتلغيم جوار المدينة وضواحيها - وهي اليوم من اكثر مدن العالم ألغاماً - ثم باقتلاع الأشجار وقطعها وحرق النباتات والحشائش الباقية. فترك المزارعون والفلاحون الأرض البائرة والمحروقة الى مخيمات الحزام الباكستاني. وعندما عادوا الى أرضهم، في 1990، وجدوا زراعة المخدرات أيسر وأقرب منالاً من تشجير واستصلاح طويلين. وهو شأن عائدي اليوم الى أراضيهم في وسط افغانستان. وكان اصحاب الشاحنات وسواقوها، ومنهم من توطدت علاقاتهم في اثناء الحرب الطويلة والقاسية بكبكار مهربي السلاح والذخيرة والمخدرات الباكستانيين، كانوا طوع حاجة المزارعين الى تصريف بضاعتهم الممنوعة في أسواق آسيا التي تتوسطها افغانستان الممزقة.
فنشطت تجارة التهريب والتصريف، وتصدرتها "مافيا" الشحن والنقل الأفغانية والباكستانية. وهذه وثيقة الروابط بجهاز الاستخبارات الباكستاني، ذي الشأن الكبير في تسليح المقاومة الأفغانية وتمويلها وتطويعها المقاتلين المجاهدين في مخيمات اللجوء والهجرة الى باكستان وحزامها البشتوني الأفغاني. وعلى نحو ما تحتاج هذه المافيا الى دولة او سلطة مركزية ضعيفة، يبيح ضعفها التهريب والاحتيال على القوانين والرشوة، تحتاج من وجه آخر الى طرق آمنة، يتولى السير الآمن عليها عدد قليل من "المراجع" وجباة المال والجمارك والخوات. وينبغي ان يقل، مثلاً، عدد الحواجز والجمارك بين قندهار وكويتا، وبينهما 200 كلم، عن العشرين حاجزاً المختلفة التي صادفها صحافي باكستاني في 1993.
السياسة والتهريب
والموازنة بين الاحتياجين، الى الدولة الضعيفة وإلى طرق التهريب الآمنة، مسألة عملية و"فنية" دقيقة، اضطلع الجناح القندهاري من عصابات التهريب الباكستانية والأفغانية بحلها في رعاية الاستخبارات الباكستانية العليا. فلما أغار إمام مسجد سَنْجسار ومدرّس كتّابها على معسكر سيد الحرب المحلي - وهو صاحب حاجز وجمرك من غير شك، ولا شك في ان حاجزه هذا هو مصدر تمويله الأول - أسرع اصحاب الشاحنات المهربون ومصرفو المخدرات وشركاء المافيا الباكستانية و"عملاء" الجهاز الاستخباري الباكستاني الى مساندة الملا "العادل" والمقتص من أسياد الحرب المحليين والظالمين بالشنق والقطع والرجم. وبسط زملاء الملا وأقرانه في الهلال الأفغاني الجنوبي حول قندهار، وكانت ولاياته نهباً لمطامع قادة محليين مستقلين ومتنافسين، بسطوا رعايتهم على الطرق وعلى أعمال النهب والمصادرة والابتزاز، شأن زميلهم الذي لن يلبث ان يتقدمهم ويتصدرهم.
فقايض المهربون عدالة الطلبة والمدرسين وأئمة المساجد المحليين وأمنَهم مالاً سخياً هو بعض الوفر الذي عاد عليهم به أمن الطرق الطالباني. وإذا كانت هذه الحال لا تخول استخلاص "طالبان" من قبعة اصحاب الشاحنات و"مافيا" النقل والتهريب، ولا تخول استخراجهم "الطبقي" من مصالح هذه الجماعة، فلا ريب في انها تلقي الضوء على بعض الحلقات التي ربطت بين الحركة الناشئة وبين قوى اجتماعية وأهلية وسياسية، محلية وإقليمية، فاعلة اضطلعت بدور في استتباب الأمر للطلبة.
وتلقي الحال كذلك ضوءاً على نهج الطلبة وطريقتهم، وعلى بعض علل هذه وذاك. فهم "حركات" محلية وموضعية قبل ان تنتظمهم حركة واحدة على قدر ضعيف من التلاحم والتماسك، ولا لحمة لها ولا تماسك إلا ب"أميرها" وقطبها وإسلامها. وهم "إسلاميون" على معنى يغلب عليه الاحتكام الى شريعة دأبها الأول ووظيفتها الاقتصاص من عدوان الأقوياء على الضعفاء، واستبدادهم فيهم من غير رادع. وإسلامهم الشرعي هذا يكاد يقتصر، في نظرهم، على وجهه الجزائي. وهو ردهم على فساد أسياد الحرب واستشرائه في الولايات والبلاد الأفغانية، غداة إجلاء الغازي الشيوعي وخلو محل الدولة والسلطة المركزية، وانصراف زمر المجاهدين وشللهم الى الاقتتال والنهب. فمن طريق القصاص والعقوبات والحدود والزجر العنيف "أدَّب" الملالي العصابات التي تعيث الفساد والفوضى والسرقة، في انحاء أفغانستان، وخصوصاً جنوبها، ومن هذه الطريق أرهبوها وضبطوا اهلها.
فحسبوا أن "السياسة" أو الحكم إنما يختصران في الأحكام الجزائية هذه، وفي إرهاب المخالفين. وظنوا ان ما نجح في ضبط الفوضى والقتل والفساد في قرى هلمند وقندهار وزابل وغزنة وباكتيا وبلداتها وضواحيها، قادر هو نفسه وبحرفه على الاضطلاع بسياسة المجتمع كله، على شرط العمل به بالشدة والترهيب اللذين أعملا في معالجة خطف الصبيتين بسنجسار. فالسياسة هي قانون عقوبات دقيق لا يترك شاردة أو واردة إلا وينص على عقوبتها وقصاصها. والعقوبة الأجدى هي القتل حتى يخلص الأمر ويكون للشرع "الإلهي" وحده، وليس للناس وجماعاتهم وأهوائهم. وخير من يتولى مثل هذا القانون، وينهض بهذه السياسة المناقضة لسياسة "الأحزاب"، هم من وقفوا عملهم وسعيهم ووقتهم على تحصيل المهنة والنظر فيها. وهم لا يحصون عدداً في مدارس "الضاحية" الباكستانية العريضة. ويتولى مولانا فضل الرحمن، على رأس "جمعية علماء إسلامي"، إدارة هذه المدارس في الضاحية الباكستانية والبشتونية إياها.
الانتصارات الأولى
وعندما هجم مئتان من طلبة هذه المدارس، في 12 تشرين الأول اوكتوبر 1994، على بلدة حدودية تسمى سبين بولداك قبالة شامان، على طريق قندهار في أفغانستان الى كويتا في باكستان، كان انقضى نحو سنة ونصف السنة على فاتحة اعمال محمد عمر. ويكاد يكون الاستيلاء على مهجع الشاحنات المحملة بأنواع السلع المختلفة والقاصدة تركمانستان وإيران من طريق قندهار وهراة، علماً أو رمزاً على المصالح والنزعات التي تسوق خطوات "طالبان" الأولى. واستولت حملة الطلبة، أو غزوتهم، على سبين بولداك، وأخرجتها من يد حكمتيار الضعيفة. وغنم المقاتلون الجدد 18 ألف بندقية رشاش كالاشنيكوف وعشرات من قطع المدفعية ومن السيارات والشاحنات.
وعندما أراد اللواء بابار، رئيس الاستخبارات العسكرية الباكستانية، اختبار موقف شلل المجاهدين المتحاربين من تسيير باكستان - الدولة والجيش والأجهزة وكتل المصالح - خط شاحنات على طريق كويتا الى قندهار وهراة فتركمانستان، عهد الى بضع مئات من طلبة المدارس الأفغانية والباكستانية، في امرة الملا بورجان والملا ترابي، حماية القافلة. وأوقف المجاهدون القافلة، وهم يحسبونها محملة سلاحاً مهرباً، وهي خارجة من قندهار. فأوعز الجنرال بابار الى "طالبان" بمهاجمة "قطاع الطرق" وتحرير الشاحنات وحمولتها من الأدوية تمويهاً على الحمولة المعتادة. فامتثل الطلبة للإيعاز، وهاجموا قوات المقدم منصور أشَكزاي. وظن هذا ومن معه من اصحابه ان المهاجمين هم من الجيش الباكستاني الذي يصول ويجول في هذه النواحي من البلد "الشقيق"، فهربوا. وأسر المهاجمون منصور وعشرة من حرسه. فقتلوه رمياً بالرصاص، وقتلوا حرسه، وعلقوهم جميعاً على مدافع الدبابات، على جاري سُنَّة أراد الطلبة ان يُعرفوا بها وتعرف بهم، وعرضوا جثثهم المتآكلة على أعين المعتبرين.
ومساء اليوم نفسه، في 3 تشرين الثاني نوفمبر 1994، حاصر الطلبة مدينة قندهار. ووقعت مناوشات متفرقة طوال يومين فقط، سقطت المدينة بعدها في ايدي المحاصرين. ولم تبدر مقاومة تذكر من الملا نقيب، قائد قوة من 2500 مقاتل كانوا يسيطرون على قندهار. وروى بعض انصار الملا الى الصحافي الباكستاني، احمد رشيد صاحب مصدر وافٍ عن الحركة، "في ظل الطالبان"، أنقل عنه، أن نقيب هذا تخلى عن المدينة، ولم يقاتل دونها لقاء رشوة كبيرة من الاستخبارات الباكستانية، ولقاء وعد بالبقاء في قيادة القوة التي كانت في إمرته. ومزج القتال، والمبادرة إليه، والتوعد بالقصاص الفظيع، بالرشوة، هو من سمات سياسة الطلبة وحربهم، فهم يفيدون من صيتهم القتالي والعسكري، على رغم ضعف بلائهم وقلة درايتهم، بإزاء اعداء خسروا باعثهم على القتال والمقاومة مع خسارتهم عدوهم "الواضح" والصريح.
وضم "الفاتحون" المنتصرون القوة المغلوبة الى صفوفهم، ونفوا الملا نقيب الى مسقط رأسه الريفي القريب، وغنموا عشرات المصفحات والمدرعات والناقلات. واستولوا، في الغنائم، على غنيمة جديدة هي ست طائرات حربية ميغ -21 وست طوافات نقل من مخلفات القوات السوفياتية وتولى قيادتها طيارون أعدهم الجيش الباكستاني قبل ان يدربهم مدربون من قوات عبدالرشيد دوستم حين عقد هذا حلفه العابر مع الطلبة. وعمدت القوة الجديدة والمستولية إلى إلغاء الحواجز من الطرق، وقصرت تقاضي الرسوم على النقل على مخافر وضعتها هي، ومنعت الشاحنات الباكستانية من تولي نقل البضائع بالأراضي الأفغانية فلبت طلب اصحاب الشاحنات الأفغان على رغم ضيق الباكستانيين بالأمر.
وتوافد طلبة مدارس جمعية العلماء المسلمين "اسلامي" بباكستان، من افغان وكشميريين مهاجرين، وصنفا الطلبة هذان هما شطر كبير، ومن باكستانيين كذلك، على الحركة الناشئة. ويقدر احمد رشيد عدد الطلبة المنضوين تحت لواء "طالبان"، في اواخر 1994، باثني عشر ألف طالب مقاتل من الأفغان والباكستانيين ومعظم هؤلاء كشميريون، على ما مر. ولم يتأخر إنفاذ أسياد المدينة الأفغانية الثانية "برنامجهم الشرعي" حال استيلائهم عليها. فأغلقوا مدارس البنات، وحظروا العمل خارج المنزل على النساء، وصادروا اجهزة التلفزة وأحرقوها أو كسروها، وأعلنوا منع الوان الرياضة والتسلية، وأمروا الرجال بإطلاق اللحى على قدر معلوم ومشبور.
وكان مضى على سقوط قندهار نحو ثلاثة اشهر فقط حين وصلت طلائع حركة الطلبة الى ضواحي كابول، شرق افغانستان وشمالها، وضواحي هراة، غرباً وعلى مقربة من ايران، واستولى مقاتلوها على اثنتي عشرة ولاية من ولايات افغانستان الثلاثين. ولما ضربت الحركة الحصار على هراة، في آذار مارس 1995، كان نحو عشرين ألف طالب من طلبة مدارس حزام الهجرة الأفغانية الى باكستان بين بيشاور وكويتا انخرطوا في الحركة، وتركوا المدارس والمخيمات والمهاجر. ومعظم المتطوعين هؤلاء الساحق من البشتون، ومن الفتيان الداخلين لتوهم في مراهقتهم الأولى في عامهم الرابع عشر، وأسنُّهم لم يطو العشرين إلا منذ عامين أو ثلاثة.
والإقامة في المخيمات والمهاجر، والتردد على المدارس الدينية وهي مدارس لا يدرس فيها إلا الذكور على مدرسين ذكور، سببان غالبان في الشدة والعسف اللذين اخذ بهما الطلبةُ النساء. فهم لم يختبروا في المخيمات والمدارس الا الحجر على النساء، واعتزالهن وعزلهن والجهل بهن. ومعظم المهجرين وفيهم عدد كبير من ايتام الأب، تركوا أسرهم وعائلاتهم بأفغانستان، وجاء الرجال وحدهم، الآباء والأبناء والأعمام وأولادهم. فالنساء في المخيمات المرتجلة والمكتظة، والبيوت اللصيق بعضها ببعض، عبء ثقيل على أزواجهن وإخوتهن وأبنائهن، وباعث حاد على القلق - على حيائهن وحرمتهن وشرفهن. وعلى هذا، على ما يلاحظ الصحافي والشاهد الباكستاني، لم يعرف الطلبة الأفغان في بيشاور ومدارسها من النساء ما يعرفه الولد أو الفتى العادي، في مجتمع مسلم يراعي الحجاب، من امه وأخواته وقريباته. فلم تقتصر سياسة "طالبان" في النساء على الفصل، بل تعدته الى الحجر والعزل والنفي. وتضافر على هذه القانون القبلي البشتوني، وهو شديد على النساء، والتقليد المهجري والمدرسي الذي غلب على خبرة او جهل الطلبة بالأنوثة الإنسية.
وعلى ما قطعت فتوة الطلبة بينهم وبين نساء عائلاتهم وأسرهم، قطعت بينهم وبين علم فعلي بالشريعة وفقهها. فهم بالكاد يعرفون القراءة والكتابة. ولم يتجاوزوا تصفح بعض النصوص الى فهمها والاستدلال الأولي على معانيها القريبة الى مناقشة تأويلها، والإلمام بتراث هذه المناقشات. ومدرسوهم، في احوال غير قليلة، ليسوا أعلم من تلامذتهم المبتدئين. والفهم الجزائي، العملي والمباشر، للشرع هو اسهل طرق الفهم وأكثرها اختصاراً. وكذلك قطعت فتوة الطلبة بينهم وبين تاريخ افغانستان، وأقرب فصوله هو حرب الاتحاد السوفياتي عليها. فهم نشأوا وشبوا بعيداً من ملابسات هذا الفصل المعقد والمتعرج، ولم يبق من "دروس" الفصل الدامي هذا إلا اسم "الجهاد" مجرداً من التباساته ومتعلقاته الكثيرة.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.