} أعاد الشاعر اللبناني بسام حجار طباعة مجموعاته الشعرية النافدة واختار قصائد من مجموعات اخرى وصدرت كلها في كتاب عنوانه "سوف تحيا من بعدي" وصدر اخيراً عن المركز الثقافي العربي. "أنطولوجيا شخصية غير مكتملة" تضع امام القارئ من جديد اهم المجموعات الشعرية للشاعر "لأروي كمن يخاف ان يرى"، "فقط لو يدك"، "مهن القسوة" ومختارات من "مجرد تعب" و"بضعة اشياء". قصائد طالما قرأناها وأحببناها لشاعر له صوته الخاص في حاضر القصيدة النثرية العربية، ولغته الملتبسة والمشبعة بالصمت والمطلة على عالم الكائن الصغير والمفتوحة على الجروح الداخلية الشخصية قبل ان تنتقل الى الآخر. لغة يذهب بها الشاعر الى القبض على الجوهر في العارض والإمساك بما لا يمسك، ينثرها الشاعر ويجعلها تدخل مدخل اللبس. في لوديف خلال مهرجان "اصوات المتوسط" التقينا بالشاعر بسام حجار وكان هذا الحوار حول كتابه الجديد: حذفت من "سوف تحيا من بعدي" كتابك الجديد، مجموعتك الشعرية الأولى "مشاغل رجل هادئ جداً. هل أردت الإشارة الى أنك لا تتحمس جمالياً لهذا الكتاب ضمن سياق تجربتك؟ - أعتبر ان مجموعتي الشعرية الأولى "مشاغل رجل هادئ جداً" منطلق تجربة اختلفت كثيراً عنها الآن. هذا لا يعني انني لا أحب هذا الكتاب أو أنني أتنكر له. هذا الكتاب ليس انطولوجيا شخصية بمعنى أن هناك قصائد كثيرة من كل مجموعاتي. لو أردت ان أصدر انطولوجيا شخصية لضمنتها إياها، لكنني - هنا - إنما كنت أعيد طبع مجموعاتي الشعرية النافدة عملياً، وهي غير موجودة أو متداولة، ونصحني ناشري بطبعها مرة اخرى، ففعلت، وأضفت إليها مقدمة صغيرة، لا أعبر فقط عن الالتباس والحيرة اللذين يكتنفان نظرتي وفهمي لما هو أو لما قد يكون عليه الشعر. "مشاغل رجل هادئ جداً" إنه حقاً بدايات تجربتي وربما عملت على إعادة طباعته في وقت آخر بمفرده. مجموعاتي الشعرية الثلاث: "لأروي كمن يخاف ان يرى"، "فقط لو يدك"، "مهن القسوة" طبعت كاملة، وقد اخترت قصائد من مجموعتي "مجرد تعب"، "بضعة أشياء". قد لا تكون هذه النصوص هي ما يحبه الآخر، لكنها تعنيني أنا. كان في استطاعتي لو ترك لي الخيار كنت أعدت طباعة "حكاية الرجل الذي أحب الكناري". لكنني أملك نسخاً منه والناشر أيضاً. تبدو قصيدتك كما لو انها مكتوبة دفعة واحدة، لكن مع ذلك نشعر باشتغال طفيف أو قلما نحس بأي قصقصة وحذف وتشذيب لغوي على جسد القصيدة. هل تحدثنا عن محترفك الشعري هذا وأثر التلقائية فيه؟ - لا أستطيع ان أزعم انني أشتغل على النص الذي أكتبه، ففي معظم الأحيان تأتي الكتابة في سياق واحد دفعة واحدة، وفي فترات زمنية متقاربة، ثم بعد ذلك اجدني عاجزاً عن الكتابة احياناً لوقت طويل. حين أكتب النص أكتبه دفعة واحدة ولا أحذف منه اي شيء مهم وهذا الأمر اساسي في نظرتي للشعر نفسه، لأن التلقائية التي تصاحب السياق الشعري الأول جوهرية في تكوين النص الذي أكتبه وأشعر انه في ما بعد لا يحق لي أن أتدخل كثيراً في تأديب النص لأني اعتبر ان الكتابة تعبير عن تجربة عيش اكثر منها تمريناً لغوياً. قارئ شعرك يجد انك تكتب من دون ان تلجأ الى أي مساطر شعرية، كما أنك لا تعنى أبداً بالشعارات أو السجالات التي انشغل بها جيلك. ماذا عن محل الالتباس الذي تقع نصوصك فيه؟ - لا ألتفت إلى النص بصفته متناً جمالياً خالصاً، ليس هناك معيار أنطلق منه لذلك تجدني لا أعرف كيف أصنف النصوص التي أكتبها والتي تتراوح بين النثر الخالص نثر النثر وما يطلق عليه عادة صفة شعر. كل ما أستطيع قوله أنني أكتب النص انطلاقاً من حاجة داخلية للقول وهذه الحاجة الداخلية هي التي تخلق ايقاعه، إذا كان له إيقاع، وترتيبه على الورق. في إضاءتك للتفصيلات الوقائية العادية تولي الصمت اهمية كبرى ضمن متن خطابك الشعري والنثري. من أين ينبثق هذا النبض الرتيب منسرباً في نصوصك؟ - في كل ما أفعل أحاول ألا أتعمد شيئاً، فقط أستأنس باللحظات، وأحاول أن أقترب قدر الإمكان من النبط الجواني الداخلي للأشياء والوقائع البسيطة المحيطة بعيشنا التي ترافقه وتصنع سياقه ومعناه. لا أسعى وراء العادي لأن حياتي عادية، ولا يتخللها تقريباً أي شيء، لإطلاق مشروع ما، أو لتغيير ما، أو لرفض ما. كل ما هنالك انني في لحظات الكتابة أحاول ان أصغي جيداً لما يكمن وراء المظهر الرتيب، وعندما تصغي تتعلم. تتعلم امراً أكيداً هو مقدار البلاغة الذي ينطوي عليه الصمت. كل ما أكتبه أعتقد هو محاولة لإصغاء من هذا النوع، ثم استكشاف لا ما تقوله اللغة بل ما تضمره، أو لا تقوله، لذلك احسب أنني خلال عشرين عاماً أو خمسة وعشرين عاماً ما زلت أكتب الشيء نفسه، ولا أحسبني استنفدته كله. عالمي في هذا الحجم، وما أريد فعلاً أن استكشفه فيه ليس الاتساع بل العمق، حتى لو راوحت في متر مربع واحد. مع ان قصيدتك تطل على المُعاش الذي هو محل البيت، العائلة إلا أننا نشعر ان ثمة ما هو وجودي ينبثق من ثنايا النص محيلاً على الأسئلة الكونية الكبرى. ما مصدر هذا الإحساس في رأيك؟ - أعتقد ان هذه الأسئلة التي تسميها انت كبرى هي أسئلة يطرحها الوجود نفسه وعلاقتنا بالأمكنة، بالأشخاص. علاقتنا بما نبنيه في حياتنا أو نهدمه، علاقتنا بأولادنا، بعملنا، بقراءاتنا كلها، هذه اسئلة ملازمة لوجودنا اليومي وليس علينا ان نسعى وراءها في سعي استشرافي أو تنبؤي أو رسولي. هذه الأسئلة تصدمنا كل يوم، تبقى طريقتنا في التعبير عنها، أي أن نتمكن من جعل الأجوبة كوى أو نوافذ على أسئلة جديدة إضافة الى اننا جميعاً مصنوعون من ثقافة شخصية، الثقافة بمعناها الأوسع جداً من القراءة والكتابة. الثقافة التي تشمل العيش بتفاصيله كلها ولا بد من ان تظهر هذه المكونات الثقافية الشخصية في كل تعبير لذلك قد أزعم انني أكون انا فعلاً عندما أكتب. في كل تجربتك الشعرية نجد ان قصيدتك تأخذ محل الضد من الثراء اللغوي، فهي تنهض على مفردات قليلة تتكرر دائماً، كأنك تراهن على لا نهائية المعاني من خلال القاموس الضيق؟! - يقول كاتب فرنسي أحبه كثيراً أنه كتب مؤلفاته التي تربو على المئتين بعدة لغوية لا تتجاوز 300 كلمة. وقبيل وفاته عمد دارسون جامعيون الى وضع قاموس خاص به وتوصلوا خلال عامين من البحث في كتبه من وضع هذا القاموس الذي يتضمن 15 ألف مدخل لغوي جديد. هذا يعني دائماً أن مباشرة العالم تكون بالحواس وبالقليل القليل المتوافر من أدوات التعبير. في كتابي الأخير "كتاب الرمل" أفردت في نهايته في نوع من اللعب المقصود معجماً لمفرداتي التي تتردد في كل اعمالي لأكتشف انها لا تزيد عن 12 مفردة. أعتقد ان 12 مفردة كافية لتسمية العالم وأشيائه في مقترب أولي، وبعد ذلك في امكان هذه المفردات ان تتوالد الى ما لا نهاية. يجب ان نتذكر دائماً اننا ابناء ثقافة قامت وتقوم على الاشتقاق، على التوليد الذي ينجب حتى شقاقاً، هذا الشقاق هو العصب الفعلي لعلاقة الكاتب سواء أكان شاعراً أو ناثراً بالكتاب فحين أكتب لا أكون انا كلياً ولا أكون الآخر كلياً، نكون أنا والآخر مشتركين في محاولة واحدة للتعبير. المعجم الضيق يتسع لمن هو اكبر مني بكثير لأن المفردة في اللغة تتضمن على الأرجح عالماً قائماً بذاته وليس علينا إلا ان نقصده باحثين لكي نكتشف ما يختزنه من المعاني. تكتب قصيدة تنهض على لغة عادية أليفة مألوفة تقترب من الحوار الحميمي، إلا انك في "معظم الأشواق" ذهبت في بعض النصوص الى منطقة لغوية تخالف ما درجت عليه سرعان ما اتضحت في "كتاب الرمل" على شكل لغة لا تخفي بحثها المعجمي، كيف تفسر هذا الافتراق بين لغتيك؟ - هنا يدور الحديث حول كتابين "معجم الأشواق" الذي هو تجربة خاصة و"كتاب الرمل" الذي ربما لم يجد قارئاً متحمساً. كتاب "معجم الأشواق" متواليات من النصوص تصف علاقتي الغرامية بمن احب بمظاهرها الحسية، واتكاء هذا الكتاب على نصوص العشق العربي التي تتردد في الشواهد خصوصاً هو تلميح مقصود الى خطاب العشق العربي الذي حجب لصالح النص الايروتيكي البورنوغرافي. كنت أريد القول ان الحب كما يفهم، وكما يعبر عنه في لغة حداثتنا، لم يعد سوى طيف الحب لأنه بات يقفل الدرجات الصفر من العلاقة الحسية بين العاشق والمعشوق. لغوياً، كان هناك بحث معجمي لمعرفة أصول الكلمات ودلالاتها وما آلت إليه. الآن، أعتقد انني في هذا الكتاب بالذات أفلحت في اكتشاف حفنة من المفردات التي من دون ان أدري صنعت مجمل لغتي. في المناسبة معجم الأشواق وجد قارئاً متحمساً، لاقى الى الآن حماسة كبيرة. "كتاب الرسل" أعتبره جزءاً من تجربتي في كتابة الشعر حتى لو بدا انه بداية لانعطاف ما، إذ أراني الآن غير قادر على فهم التعبير إلا بصفته تعبيراً نثرياً محضاً، وأحسب ان هذا المفترق قد يكون خطراً وقد يليه صمت لعجزي عن الكتاب بطريقة اخرى، لكنه في الوقت نفسه درب جديد احاول ان اكتشفه بصرف النظر عن قبول الآخرين أو رفضهم. إنني أبحث عن شكل نثري خالص وقد يكون سردياً لقول ما اتضح لي انني لم أوفق في قوله بعد، وقد يكون هذا الشكل هو الصمت. الصمت المطبق. بالنسبة إليَّ لسان العرب لابن منظور أو القاموس المحيط للفيروز أبادي يشتملان على متعة سردية قد توازي أو ربما تتجاوز حكايات ألف ليلة وليلة لأن اقتفاء أثر نشأة الكلمات واشتقاقها هو في حد ذاته تتبع لسرد تاريخي اجتماعي لغوي قد يفوق أي رواية أو أي قصة تشويقاً. افتتحت قصائدك الأولى على الشخص الوحيد الساقط في العزلة، ثم انتقلت الى ما هو حميمي الزوجة، الابنة، ومن ثم دخل خطابك الشعري في فضاءات الموت والغياب الأب، الأخت، الأنا كأنك لا تستطيع الكتابة إلا عن أشخاص محددين؟ - أنا لا أكتب إلا وفي ذهني شخص ما يحثني على الكتابة أو شخص ما يدفعني الى المخاطرة في التعبير له عن احاسيس، لا أستطيع ان أكتب احاسيس مجردة. حين أكون في حال عزلة وهذا احساس عميق أكتب عن العزلة، حين أكون عاشقاً ولا أراني لحظة في حياتي غير عاشق أكتب عن هذا العاشق لشخص ما محدد وليس في المطلق. عندما أختبر تجربة الموت فهناك دائماً شخص يموت ويدفعني الى الكتابة. هناك أسرتي، أولادي، المرأة التي أحب. هناك ايضاً ثلاث تجارب للموت العنيف أمامي. لا أكذب عليك، فأنا ما زلت الى اليوم تحت صدمة فقداني شقيقتي وهي في عز شبابها والتي توفيت امام ناظري، وتجربة وفاة والدي التي دفعتني على نحو ما لاكتشاف من كان هذا الشخص الذي رافقني 35 عاماً او 38 عاماً من دون أن أعرفه، وهنالك ايضاً تجربة موتي الشخصي بمعنى أني من جراء حادثة توفيت سريرياً لمدة ثوان ثم أنعشت وعدت الى الحياة، هذه التجارب كان لا بد ان أكتبها لأنها اصبحت المناخ الذي يمازج حياتي اليومية وعلاقتي بالآخرين والكتابة، أقول كل هذا لأقول ببساطة انني لا أنطلق من أفكار بل من احاسيس احاول استكشافها لكي أفهمها أنا أولاً. تقترب بعض نصوصك الشعرية من نصوصك النثرية كأنك تعمل على تنثير ما تكتبه شعراً وشعرنة ما تكتبه نثراً. هل تحاول تعليب اللغة على وجوهها المختلفة لاستكشاف اعمق المعاني الداخلية؟ - قيل دائماً ان "مجرد تعب" هو صوغ نثري ل"بضعة اشياء". "مجرد تعب" صدر قبل "بضعة اشياء" لكنه كتب بعده. قال ناقد أثق به وأحترمه ان "بضعة اشياء" هو صوغ شعري للنصوص النثرية التي تضمنها "مجرد تعب". إلى حد كبير أوافق الناقد على قوله إذا جاز لي أن أوافق أو لا أوافق. الحقيقة ان نصوص الكتابين كتبت في فترة زمنية واحدة وكنت اكتب القصيدة، وفي اليوم التالي أصوغ نصاً نثرياً أضعه على حدة كأنني احاول أن ألتقط ما يحجبه القول الشعري بين السطور أو أحاول أن أصوغ شعراً ما تضمنه النص النثري ولم يستطع قوله كله لأكتشف في الحالين انني أسعى وراء ما لا يقال فعلاً، وكانت النتيجة ان النص النثري كتب على هوامش القصيدة في الوقت الذي كانت فيه القصيدة تكتب على هوامش النص النثري. تفتتح بعض نصوصك بأقوال لكتّاب وشعراء آخرين، لا بل أعطيت كتابك الأخير عنواناً هو عنوان كتاب شهير لبورخيس. ما الذي يدعوك الى ذلك، هل هو الإعجاب أم تقاطع الأحاسيس والمناخات التي تتوسلها معهم؟ - كل من اقتطف منه شيئاً لمفتتح نص من نصوصي هو بالتأكيد كاتب عشقته سواء أكان بورخيس او بيسوا أو ابن عربي... الخ. هنالك نصوص يبلغ بي مقدار اعجابي بها درجة انني أفكر احياناً أنه لا جدوى من أن أكتب انا نفسي. لأنني لن أضاهي هذه النصوص مهما فعلت خصوصاً أن بعض هؤلاء مثل بورخيس، بيسوا، ليسوا مجرد كتّاب قرأت لهم أو أقرأهم، إنهم كتّاب يسكنون عيشي الى درجة انني أعاود قراءة نصوصهم من دون توقف. أما إذا كان المقصود من السؤال أن هذه الشواهد هي التي تلهم فكرة النص، فأقول لك انني لو أريد ذلك لما توانيت عن انتحال اي نص من نصوصهم أترجمه وأوقعه باسمي أنا. لقد انتحلت عنوان بورخيس عمداً، لكي أقول انني لا أكتشف في ما أفعل قارة جديدة لا في الشعر ولا في النثر وإنما ما أفعله هو محاولتي للتعبير عن احاسيس وإذا تطابقت هذه الأحاسيس مع احاسيس اخرى فلا بأس. من يدري من اين أتى بورخيس بما كتبه أو بيسوا أو رينيه شار كل ما نستطيع ان نفعله حيال ما كتبوه هو ان نقرأهم مراراً وتكراراً لكي نحيا في دعة الأحاسيس التي اعطونا ان نمتلكها من بعدهم وبفضلهم. على رغم انك تكتب قصيدة تفاصيل يومية، إلا أن قصيدتك تنعقد على كثير مما هو حسي. ماذا عن الافتراق والالتقاء بين الملموس وغيّرا مداخل قصيدتك؟ - بهذا المعنى الكتابة ليست سعياً وراء التفاصيل بل انها سعي وراء الفروق، سعي وراء ما يزول وراء الهش، وراء ما هو ماثل امامك وحقيقي أو ملموس، لكنك تعلم جيداً أنه لن يتريث طويلاً، إذ سرعان ما يتلاشى ما يجعل عالمك ماثلاً على العتبة بين الوجود الحسي والملموس وبين التلاشي التام، انا لا أجد موقفاً للحيرة على حد قول النفري اكثر من تعاطي الكاتب مع ما يبدو ملموساً لكن كيانه ينسرب على الدوام باتجاه الغياب.